الإنسان والدين
هوية بريس – البشير عدي
تؤكد الدراسات الدينية، أن التدين صفة عامة لجميع البشر، قديمهم و حديثهم، و هو ما لخصته موسوعة، لاروس القرن العشرين، بالقول : ” إن الغريزة الدينية مشتركة بين كل الأجناس البشرية حتى أشدها همجية و أقربها إلى الحياة الحيوانية.”([1]). و تؤيدها أحدث الأبحاث المعاصرة، كالتي أجريت بجامعة أكسفورد، من خلال مشروع أكاديميي ضم 57 باحثا من 20 دولة، و التي انتهت إلى ما عبر عنه أحد قادة فريقه العلمي الدكتور روجر تريغ بالقول: ” لقد جمعنا أدلة كثيرة تثبت أن التديّن حقيقة مشتركة في طبيعة الإنسان في المجتمعات المختلفة “([2]).
كما تؤكد الأبحاث و الدراسات أنه لم توجد قط على مر التاريخ جماعة بدون دين ، بل إنه قد يغيب العمران، و تغيب السياسة و العلوم و الصناعات و الفنون، في فترة من الفترات في تاريخ الإنسان، و لكن الدين كان دائم الحضور في حياة الجماعات البشرية، كما قال المؤرّخ اليوناني بلوتارك بالنص :” لو لاحظتم العالم فإنّكم ستجدون أماكن كثيرة لا عمران فيها ولا علم وصناعة وسياسة ودولة ، ولكنّكم لا تجدون موضعاً ليس فيه اللَّه.”([3]).و هو ما عبر عنه الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون الحائز على جائزة نوبل بالقول : ” لقد وجدت و توجد جماعات إنسانية من غير علوم و فنون و فلسفات، و لكن لم توجد قط جماعة من غير ديانة.”([4]).
و مرد ذلك عند العديد من الباحثين و الفلاسفة المعاصرين ، أن الدين حاجة و ضرورة لا يمكن أن يستغني عنها الإنسان ، و هو ما عبر عنه الفيلسوف الألماني إريك فروم بالقول:” لا وجود لإنسان بدون حاجة دينية.”([5])؛
و أن معرفة الله غريزة فطرية مغروسة و منطبعة في نفس الإنسان منذ أن خلق و هو ما عبر عنه الفيلسوف و العالم الرياضي الفرنسي ديكارت، و هو يتحدث عن فكرة الله بقوله:” هذه الفكرة وُلدت و وُجدت معي منذ خُلقت… والحقّ أنه لا ينبغي أن نعجب من أن الله حين خلقني غرس فيّ هذه الفكرة…” ([6])، و هو ما يؤكده العديد من الباحثين كالأكاديمي البريطاني جاستون باريت، الباحث في مركز علم الإنسان والعقل في جامعة أوكسفورد، مؤلف كتاب: ” مؤمنون بالولادة ” ([7]). و الدكتور بروس هود من جامعة بريستول، فيما نقلت عنه صحيفة ديلي ميل البريطانية، بالقول:” إن الإيمان بالله و غيرها من الاعتقادات … مطبوعة في عقول البشر منذ الولادة ([8]).
و هذه الحقائق يؤكدها العلم التجريبي الحديث. ففي أعقاب نشر كتاب:” جين الله “([9])، لعالم الوراثة الأمريكي دين هامل، مدير وحدة التنظيم والهيكل الجيني في معهد السرطان القومي الأمريكي، الذي انتهى من خلاله إلى كون الإنسان يرث مجموعة من الجينات تجعله مستعدًا لتقبّل الألوهية والدين، و منها جين VMAT2، خصصت مجلة «تايم» الأمريكية، حيزا مهما من العدد 25 الصادر في أكتوبر 2004 ، للبحث في الموضوع تحت عنوان: “هل الله في جيناتنا؟”، و نقلت من خلاله آراء العديد من العلماء، تؤكد أن الألوهية شعور، يولد مع الإنسان. بحيث يولد الإنسان و يولد معه الشعور بوجود إله، و ليس فقط مجرد الاستعداد لتقبل الألوهية([10]).
و هذا ما عبر عنه روبرت ونستون رئيس الاتحاد البريطاني لتقدم العلوم، في كتابه ” الفطرة البشرية”، بأن الحس الديني جزء من بيئتنا النفسية و مسجل في جيناتنا([11]).
و هذه الحقائق التاريخية و الاجتماعية و العلمية، التي لم تكتمل صورتها إلا في أواخر القرن الماضي و بداية القرن الحالي، ما هي إلا ترجمة لبعض أوجه حقائق قرآنية صدح بها القرآن الكريم، و أكدتها السنة النبوية، منذ القرن السابع الميلادي. و من ذلك قوله تبارك و تعالى في محكم التنزيل” فأقم وجهك للدين حنيفا، فطرة الله التي فطر الناس عليها.” ([12]). و قول المصطفى صلى الله عليه و سلم في الحديث الذي رواه البخاري و مسلم و مالك في الموطأ:” ما من مولود إلا يولد على الفطرة…” ([13]).
فالإنسان يولد مفطورا على الإيمان بالله ، مقرا بربوبية الخالق تعالى، التي شهد بها على نفسه أمام الله تعالى، في عالم الذرة منذ الأزل، كما يخبر القرآن الكريم بذلك في قوله سبحانه و تعالى:” و إذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم و أشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى.” ([14]).
قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره لهذه الآية:” يخبر تعالى أنه استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم ، شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم ، وأنه لا إله إلا هو . كما أنه تعالى فطرهم على ذلك وجبلهم عليه.”. و روى الإمام أحمد في المسند ، و الإمام الحاكم في المستدرك عَنِ عبد الله ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذ الشأن أنه قَالَ:” أَخَذَ اللهُ الْمِيثَاقَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ ، فَأَخْرَجَ مِنْ صُلْبِهِ كُلَّ ذُرِّيَّةٍ ذَرَأَهَا، فَنَثَرَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ كَالذَّرِّ ، ثُمَّ كَلَّمَهُمْ قِبَلًا ، قَالَ : أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ؟ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ، أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ “([15]).
وهذه الحقيقة النقلية و العقلية، التي كانت مستنكرة من الماديين، صارت حقيقة علمية يثبتها علم الوراثة، الذي يؤكد على وجود الأبناء في صلب الآباء منذ ولادة الآباء، و بالتالي وجود جميع البشر في صلب آدم عليه السلام و حواء رضوان الله عليها لحظة خلقهما.
فالدين بمقتضى النقل و العقل و العلم، إذن، حقيقة فطرية مسجلة و مطبوعة في النفس البشرية، و مسجلة في جينات الإنسان.
و الدين الذي جبل عليه الإنسان و فطر عليه، أي دين الفطرة، هو الدين الحنيف، مصداقا لقوله تعالى :” و أقم وجهك للدين حنيفا، فطرة الله التي فطر الناس عليها.” ([16]).
و هذا الدين الحنيف، هو دين أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام، مصداقا لقوله تعالى: ” ما كان إبراهيم يهوديا و لا نصرانيا و لكن كان حنيفا مسلما.”. ([17]) و قوله عز من قائل:” قل إني هداني ربي صراطا مستقيما، دينا قيما ملة إبراهيم، و ما كان من المشركين.” ([18]).
و الدين الحنيف هو دين التوحيد، توحيد الله تعالى و إفراده بالربوبية، و هو الدين الذي لم تخل من التذكير به، و الدعوة إليه أمة من الأمم، و لا قوم من الأقوام، مصداقا لقوله تعالى: و إن من أمة إلا خلا فيها نذير”([19]). و هو الدين الذي بعث به كافة الأنبياء مصداقا لقوله تعالى: ” و لقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله و اجتنبوا الطاغوت.” ([20]).
فدين التوحيد، هو أصل الدين لأنه دين الفطرة، و غيره من الأديان الوضعية و الشركيات، فضلا عن الإلحاد، أمور عارضة مكتسبة.
فلم يحد الإنسان عن دين التوحيد و يشرك بالخالق و يبتدع و يلحد، إلا بمقتضى عوارض و عوامل خارجة عن الفطرة أو لاحقة بها، تبتدأ بترصد الشيطان و فتنته، و تنتهي ببغي الإنسان و جحوده و تنطعه. ففي الحديث القدسي:” إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا”([21]).
و هذه حقيقة أثبتها العديد العديد من علماء الأجناس و الإنسان و علماء النفس في القرنين الماضيين، كالأستاذ لانج الذي أثبت وجود عقيدة الإله الأعلى أو إله السماء، عند ما يعرف بالقبائل الهمجية في أستراليا و أفريقيا و أمريكا، و كذا شريدر الذي أثبتها عند الأجناس الآرية القديمة، و بروكلمان الذي وجدها عند الساميين قبل الإسلام، و كاترفاج عند أقزام أواسط أفريقيا، و شميدث الذي أثبت أن فكرة الإله الأعظم توجد عند جميع الشعوب بما فيها أقدم الأجناس البشرية([22]).
و هذه الدراسات العلمية الاجتماعية، تؤكدها الأبحاث العلمية الأركيوليوجية، في الوقت الذي تفنذ فيه المزاعم و النظريات الظنية الإيديولوجية المسوَّقة في هذا المضمار، كما يؤكد ذلك الفيلسوف الألماني ماكس مولر بالقول: “خلافاً لما تقوله النظرية الشهيرة بأنّ الدين ظهر أوّلًا بعبادة الطبيعة والأشياء والأصنام ثمّ وصل إلى عبادة اللَّه الواحد ، فلقد أثبت علم الآثار بأنّ عبادة اللَّه الواحد كانت سائدة منذ أقدم الأيّام.” ([23]).
و هو ما عبر عبر عنه الأستاذ فوركارت في موسوعة دائرة معارف القرن العشرين بالقول :” إن تصور إله السماء يرجع إلى أقدم العصور الإنسانية، و أن فكرة تعدد الآلهة فكرة لاحقة لفكرة التوحيد.” ([24]).
و دين التوحيد هو دين الإسلام ، و هو الدين الذي بٌعث به كافة الأنبياء، و أٌمروا به و أَمروا بالدعوة إليه. قال سبحانه و تعالى على لسان نوح عليه السلام: ” فإن توليتم فما سألتكم من أجر، إن أجري إلا على الله، و أمرت أن أكون من المسلمين“([25]).
و قال عز وجل مخبرا عن إبراهيم عليه السلام:” و أوصى بها إبراهيم بنيه، يا بني إن الله اصطفى لكم الدين، فلا تموتن إلا و أنتم مسلمون.” ([26]).. و قال عز من قائل مخبرا عن يعقوب عليه السلام:” أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت، إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي، قالوا نعبد إلهك و إله آبائك إبراهيم و إسماعيل و إسحاق، إله واحدا و نحن له مسلمون.” ([27]).
و قال تعالى تبارك و تعالى، مخبرا عن فرعون في قصته مع موسى عليه السلام:” حتى إذا أدركه الغرق، قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل، و أنا من المسلمين.” ([28])
و قال عز من قائل مخبرا عن حواريي عيسى عليه السلام: ” فلما أحس عيسى منهم الكفر، قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله، آمنا بالله و اشهد بأنا مسلمون.” ([29]).
و قال سبحانه و تعالى مخبرا عن ملكة سبأ بلقيس، في قصتها مع سليمان عليه السلام :” قالت يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم، إنه من سليمان، و إنه بسم الله الرحمان الرحيم، ألا تعلوا علي، و آتوني مسلمين.” ([30]).
و الدين الذي بعث به كافة الأنبياء، هو دين الإسلام مصداقا لقوله تعالى: ما كان إبراهيم يهوديا و لا نصرانيا، و لكن كان حنيفا مسلما.” ([31]). و قول النبي المصطفى صلى الله عليه و سلم في الحديث الذي رواه البخاري و مسلم و مالك في الموطأ:”ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه…”([32]).
فدين الفطرة إذن، هو دين الله تعالى، و هو الإسلام، مصداقا لقوله تعالى:” إن الدين عند الله الإسلام.” ([33]).
و الإسلام، هو الدين الذي بدأ مع آدم عليه الإسلام، و تم مع خاتم الأنبياء و المرسلين محمد بن عبد الله عليه الصلاة و السلام، و ارتضاه الله عز وجل لكافة خلقه، مصداقا لقوله عز من قائل: “ اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الإسلام دينا.” ([34]).
و هذا الإسلام، هو الدين الذي لا يقبل الله تعالى أن يتعبد بغيره، مصداقا لقوله عز وجل: ” و من يبتغ غير الإسلام دينا، فلن يقبل منه، و هو في الآخرة من الخاسرين.” ([35]).
ــــــــــــــــــــــــــــــ
[1])) نقلا عن : الدكتور عبدالله دراز: الدين بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان، صفحة 82.
[2])) صحيفة التيليغراف البريطانية العدد الصادر بتاريخ: 2012/03/12. انظر الرابط :
[3])) نقلا عن الشيخ ناصر مكارم الشيرازي : نفحات القرآن ج 3 ص 118
[4])) نقلا عن الدكتور عبدالله دراز: الدين بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديانصفحة 82
[5])) إريك فروم : الدين و التحليل النفسي. ترجمة فؤاد كامل، مكتبة غريب القاهرة مصر1977. ص 27.
[6])) ديكارت: التأملات في الفلسفة الأولى، ترجمة و تقديم و تعليق الأستاذ عثمان أمين، المركز القومي للترجمة القاهرة 2009، ص 163.
[7]))الكتاب طبع بالإنجليزية تحت عنوان : Born believers: the science of children’s religious belief و ترجمه مركز دلائل و نشره تحت عنوان: فطرية الإيمان : كيف أثبتت التجارب أن الطفال يولدون مؤمنين بالله.
[8])) جريدة الزمان الصادرة بالعربية في لندن العدد 3393 و تاريخ 2009/09/09 .
[9])) الكتاب طبع بالإنجليزية عة طبعات، تحت عنوان: جين الله: كيف يتم ربط الإيمان بجيناتنا.
THE GOD GENE : how faith is hardwired into our genes
[10])) انظر الرابط: http://content.time.com/time/magazine/0,9263,7601041025,00.html
[11])) د عمرو شريف : رحلة عقل ص173.
[12])) سورة الروم الآية 29
[13])) صحيح الإمام البخاري: كتاب الجنائز ، باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه و هل يعرض على الصبي الإسلام.
[14])) سورة الأعراف الآية 172
[15])) الإمام الحاكم: المستدرك على الصحيحين: كتاب الإيمان، باب تفسير آية : و إذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم.
[16])) سورة الروم الآية 29
[17])) سورة آل عمران الآية 66
[18])) سورة الأنعام الآية 162/161
[19])) سورة فاطر الآية 24
[20])) سورة النحل الآية 36
[21])) صحيح الإمام مسلم: كتاب الجنة و صفة نعيمها و أهلها، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة و أهل النار.
[22])) نقلا عن د أحمد عبد الرحيم السايح: بحوث في مقارنة الأديان: الدين نشأته و الحاجة إليه.دار الثقافة،الدوحة.ص 42/43 .
[23])) ناصر مكارم الشيرازي : نفحات القرآن ج 3 ص 118
[24])) نقلا عن الدكتور عبدالله دراز : الدين : بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان دار القلم، ص 82.
[25])) سورة يونس الآية 72
[26])) سورة آل عمران الآية 66
[27])) سورة البقرة الآية: 132
[28])) سورة يونس الآية:90
[29])) سورة آل عمران الآية 51
[30])) سورة النمل الآيات: 31/29
[31])) سورة آل عمران الآية 66
[32])) صحيح الإمام البخاري: كتاب الجنائز ، باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه و هل يعرض على الصبي الإسلام.
[33])) سورة آل عمران الآية 19
[34])) سورة المائدة الآية 04
[35])) سورة آل عمران الآية 84