اللغة العربية القرآنية وأثرها في بعث الأمة الإسلامية
ذوالفقار بلعويدي
هوية بريس – الثلاثاء 23 يونيو 2015
مما هو مُسَلَّم به، أن اللغة -بصفة عامة- هي ركن تقام عليه حضارة الإنسان، وعامل مهم في تقويم الفرد، وتكوين شخصيته، وتشكيل ثقافته، وبناء مجتمعه. وهي الرابط الفكري بين الأمة الواحدة، وأداة التواصل بينها، والشعار الذي يميزها عن غيرها من الأمم. بل هي الوعاء الذي يحفظ هويتها. وأي تغيير أو تحريف يلحق لغة ما في مضمون ألفاظها ومدلول مصطلحاتها، فهو -لا محالة- إلحاق التغيير في سير الأمة بكاملها، واقتلاع لجذورها، وفسخ هويتها، حيث تتغير التصورات، وتقلب المفاهيم، وتشوه الحقائق، وتتداخل الدلالات، فيغيب التواصل. وحينها تفقد اللغة أثرها الفعلي في توحيد الأمة. والأمة التي لا تحسن لغتها تنسلخ ضمنيا عن ثقافتها ومبادئها، وتكون عالة على غيرها وتابعة له.
اللغة العربية ووظيفتها الإسلامية
اللغة العربية مادة تعبيرية يشملها كل ما يشمل اللغات من خصائص. وتشترك معها في الأهداف. وهي تعتبر لغة رسمية ضمن اللغات الخمس الكبرى في العالم1. ضف إلى هذا أنها لغة أنزل بها القرآن، الشيء الذي تجاوز بها حد الربط بين أفراد القوم الواحد، إلى الربط بين كل من هو مسلم، بغض النظر عن جنسه وأرضه وقومه وأصل لسانه. وذلك لكونها اللسان الناطق بالإسلام، المعبر عن مدلوله، المترجم لمراده. ومن ثم فمن غير إدراك دلالة اللفظ العربي وفق المعنى الذي وضع له في أصل لغته القرآنية، فإنه يستعصي إدراك معنى الإسلام على حقيقته. وهذا يدفع تلقائيا كل مسلم أو كل من يختار الإسلام إلى تعلم اللغة العربية. وبالتالي فأي تزييف يحصل في مدلول ألفاظ اللغة العربية، فهو يؤدي إلى تزييف في مفهوم الإسلام، وانحراف في تربية المسلمين. لأن العربية لغة استوعبت كل مطالب الدين الإسلامي، فهي بنزول القرآن باتت لغة إسلامية، مهمتها في وضعها القرآني إنشاء الشخصية الإسلامية، وتشكيل هويتها عقديا وسلوكيا.
إدراك الغرب الصليبي لدور لغة القرآن
لقد أسهم عامل التاريخ والخبرة في تمكين الغرب الصليبي -وذلك بعد خوضه سلسلة من الحروب العسكرية التي أنهكت قواه ضد المسلمين- من إدراك دور اللغة العربية القرآنية وما تملكه من سلطان على روح الشعوب الإسلامية، بفضل ما تشتمل عليه من أسلوب بياني عميق، وتعبير مؤثر يهز القلب، ويستنهض المشاعر، ويوقظ الهمم، ويرفع المعنويات. في تناسق بديع متميز يبعث في النفس عزة، تخلصها من الرضى بالمذلة، وتحررها من الخضوع لغير لله. حيث خلص -الغرب الصليبي- إلى أنه يستعصي عليه إحكام قبضته على البلاد الإسلامية وبسط هيمنته الفكرية عليها، من غير الفصل بين المسلمين ولغة هذه طبيعتها. يقول الجنرال “ليوطي”: (إن العربية عنصر أسلمة لكونها لغة القرآن، أما مصلحتنا فتفرض علينا أن نجعل البربر يتطورون خارج إطار الإسلام.. إلى أن قال.. ومن الوجهة اللسانية علينا أن ننزع إلى المرور مباشرة من البربرية إلى الفرنسية)2.
فوصف “ليوطي” اللغة العربية بأنها عنصر أسلمة، يدل دلالة قوية على عمق إدراك المستعمر لسر قوة اللغة العربية في قالبها القرآني. حيث قوتها -في نظره- لا تكمن في مجرد كونها لغة -حروف وكلمات وجمل فحسب-، فهي بهذا الوصف كانت قائمة قبل الإسلام؛ بل كما كان فهو لا يزال هناك نصارى عرب، ويهود عرب، ومشركون عرب، ودهريون عرب، لكن عربيتهم لم تصنع فيهم ما صنعته عربية القرآن في فكر المسلم وتوجهه العقدي.
هذا كله يساعدنا على إدراك حقيقة المنطلق وسر مبادرة المستعمر الصليبي -بعد استيلائه على البلاد الإسلامية وسيطرته على حدودها- إلى فرض لغة بلاده في البلدان التي استعمرها، لتحل محل العربية -على الخصوص- في المؤسسات التعليمية، والدوائر حكومية كانت أو خاصة. مما يمكنه من تحوير هذا الاستيلاء تلقائيا من احتلال عسكري إلى احتلال فكري. وهذه حقيقة غفل عنها الطيبون السذج المخدوعون منا حين حسبوا وظنوا أن المقصد الأوحد لدى المحتل هو ربط المجتمع الإسلامي مع العالم الغربي ورفع الحصار الثقافي عنه. نعم إنها غايات كثيرة لكن الغاية العظمى والمصلحة الكبرى هي كما قال ليوطي تطوير المسلم خارج إطار الإسلام. وقد أيقنوا أنه لا يتم ولا يتحقق مثل هذا الأمر إلا بعد إبعاد المسلم عن لغة تربطه بالقرآن. يقول المستشرق “كامفاير” في شماتة، عندما ألغي الحرف العربي في تركيا: (إن قراءة القرآن العربي وكتب الشريعة الإسلامية قد أصبحت مستحيلة بعد استبدال الحروف اللاتينية بالحروف العربية)3.
وهذا هو ما عملت أمريكا على تحقيقه تحت غطاء: “تجديد الخطاب الديني” وذلك في حربها الأخيرة على البلاد الإسلامية تحت ذريعة الحرب على الإرهاب. حيث الغاية منه كذلك هو تغيير مفهوم الإسلام، والتشكيك في التصور الصحيح لمعاني القرآن، وتفريغها من مضمونها الأصيل، وذلك بتحريف المصطلحات الرئيسية عن مقصودها الحقيقي، أو باختزالها في معان محدودة تفقدها شمولية مدلولها، وذلك كمصطلح: الإسلام، والجاهلية، والإله، ورب، والدين، والعبادة، والعدل، والظلم، والنفاق، والجهاد، والولاء والبراء، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، …إلى غيرها من المصطلحات التي تعتبر أسس بناء الفكرة الإسلامية. وهذا كله منهم قصد تحقيق إعادة تشكيل الإسلام في أذهان المسلمين وفق ثقافتهم الغربية.
يقول فوكوياما: “أنا أرى أن التوفيق ممكن بين الإسلام كدين وبين الحداثة، فالإسلام يمثل ديناً ونظاماً ثقافياً معقداً للغاية، وقد أثبت قدرته على التوافق مع الحداثة في عدد كبير من المجتمعات والأفراد، ولا أرى هناك سبباً يمنع من وجود شكل حديث للإسلام، غير أن نوع الإسلام الصحيح لا يمكن أن يتفق مع الحداثة، والقضية الأساسية هي إمكانية وجود دولة علمانية تجعل الإسلام بين أربعة حيطان”4.
نعم هذا هو ما سعى المستعمر ويسعى مندوبوه إلى تحقيقه؛ وهو إنتاج شكل حديث للإسلام، وهذا أمر تطلب منه العمل على إنتاج جيل عقليته مزدوجة، انتماؤه يكون للإسلام، وفكره ونظرياته ومبادئه ومعاييره تكون من الغرب. جيل يقوم مقام الغرب في بلاد المسلمين يحقق له أهدافه، ويعمل لحسابه. جيل هيكله عربي لكنه منطبع بطابع غربي. جيل أكبر همه الركض وراء شهواته وشكله ومظهره، وشغله الشاغل دنياه، دون وعي بغاية وجوده، وسر حياته، وحقيقة تاريخ أمته، وقيمة دينه، ومقتضى وطنيته.
جيل يعاني من داء قلة المبالات، وغياب الرؤية الواضحة، والسير إلى غير هدف. نمط استهلاكي بامتياز؛ يأكل ليعيش، ويعيش ليأكل…، مشوه التصور يعتبر التفلت من أحكام الشريعة تحررا، والانضباط بأوامرها حرمانا. مشتت الفكر، لا يملك سياسة تجمع شمله، أو نهجا يوحد صفه، طابعه المميز له هو الفرقة والتناحر. هذا قومي، وذاك وطني، وثالث حداثي أو مدني، ورابع عصري، وخامس راديكالي… وكلها تنصهر في مخطط علمنة الإسلام. أو إنشاء إسلام علماني، أو بتعبير أصح إسلام بمعايير غير إسلامية. يقول القس زويمر في خطاب تهنئته للهيآت التبشيرية المتواجدة بالعالم الإسلامي: (إنكم أعددتم بوسائلكم جميع العقول في الممالك الإسلامية، إلى قبول السير في الطريق الذي مهدتم له كل التمهيد، إنكم أعددتم نَشْأً لا يعرف الصلة بالله ولا يريد أن يعرفها، وأخرجتم المسلم من الإسلام ولم تدخلوه في المسيحية وبالتالي جاء النشء الإسلامي طبقا لما أراده الاستعمار، لا يهتم بالعظائم ويحب الراحة والكسل، فإذا تعلم فللشهوات، وإذا جمع فللشهوات، وإن تبوأ أسمى المراكز ففي سبيل الشهوات يجود بكل شيء)5. وصدق الله العظيم: {ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا}6.
لقد استطاع الغرب تحقيق جزء وافر من الدمار الفكري، كما تطلب منه جهدا كبيرا، ووسائل كثيرة، وطاقات عدة، تمثلت في إرسال البعثات التبشيرية، وتأسيس المدارس الأجنبية، وإنشاء المراكز الثقافية، المركز الثقافي الفرنسي، المركز الثقافي الإنجليزي، المركز الثقافي الأمريكي…، وإحداث أحزاب علمانية ووسائل إعلام، ناهيك عن التدخل السافر في برامج التعليم ومناهجه، وضغوطات الصندوق الدولي واستغلاله الفاحش للتدهور الاقتصادي لكثير من الدول الإسلامية… إلى غيرها من الوسائل التي تفاوتت قوة شراستها في العمل على جعل الإسلام الصحيح غريبا بين أهله.
ومن ثم فلا يتم نجاح كامل لأي عملية إصلاح تجود بها الأمة الإسلامية لتصحيح ما أفسده المستعمر الغادر، حتى يتم أولا الابتداء بإصلاح ما أفسده المستعمر من مفاهيم وذلك عبر تقويم اللسان العربي، وتحرير دلالة الألفاظ وضبط معانيها الاصطلاحية وفق الوضع العربي القرآني في قالبها الإسلامي. فإن النفس البشرية إذا ما أشربت فعل الشر واستلذته، فلا يمكنها هجره إلا بتغيير نظامها الفكري؛ {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}.
وعليه فإنه حين تصحح المفاهيم وتُقَوَّم، وتُمَحَّص معها أخلاط الأفكار، عندئذ يظهر الإسلام جليا للعيان من غير التباس أو غموض، فتتحقق له وقتها -إن شاء الله- جولة جديدة. وبعد ذلك يفرح المؤمنون بتمكين الله.
ولا يتم إصلاح هذا الذي أشرنا إليه، إلا بإصلاح مناهج تلقين اللغة ضمن مناهج التعليم، وإلا تبقى كل المحاولات في الإصلاح هي محاولات ضعيفة جدا، محكوم عليها من بدايتها بالفشل، وذلك لأن مشروع اللغة هو مشروع نظامي لا يقوم به الفرد ولا يقوى على إصلاحه، أمام المؤسسات التعليمية التي هي المصب الذي يمد المجتمع الواحد عبر الروافد والقنوات العلمية بأطره وكفاءاته.
وفي حادثة اشتراط الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو حينها قائد أمة، فك قيد الأَسْر على أسرى بدر مقابل إسهامهم في فك قيد الأمية على أبناء أصحابه رضي الله عنهم، حيث اشترط صلى الله عليه وسلم على أسرى بدر، تعليم كل واحد منهم عشرة من أبناء المسلمين مقابل فك أسرهم. وهذا منه صلى الله عليه وسلم فك قيد مقابل فك قيد، وتحرير مقابل تحرير. فإن في هذا الفعل منه صلوات الله وسلامه عليه من الأهمية ما يستلزم منه إثارة انتباه القادة واهتمام الزعماء -وذلك باعتباره صلى الله عليه وسلم قدوتهم في القيادة والزعامة – إلى العمل أسوة به واقتفاء أثره على فك قيد تبعية الغرب على رعيتهم وتحرير أبناء شعوبهم منها، وإلا فكما أن وعد الله لا يخلف، فإن قدره لا يتخلف {وإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ}7.
ــــــــــــــــــــــــــ
(1) اللغة وبناء الذات (كتاب لأمة) العدد:101؛ ص:121.
(2) مجلة البيان العدد:178؛ ص:42؛ وفي هذا القول عظة وعبرة لعقلاء الأمازيغ حتى يدركوا أن قضيتهم مفتعلة وما هم إلا أداة لخدمة المشروع الاستعماري.
(3) الهوية أو الهاوية؛ ص:67.
(4) الولاء والبراء في الإسلام ص:401 تأليف محمد القحطاني.
(5) سورة البقرة الآية 217.
(6) سورة الرعد الآية 11.
(7) سورة محمد الآية 38.