المسجد وحفظ الأمن الروحي والمادي للمغاربة
هوية بريس – د.الحسين الموس
دفعتني الجائحة الصحية التي أصابت العالم – نسأل الله أن يرفعها- وما رافقها من إجراءات تخص المساجد إلى الكتابة في هذا الموضوع، أي دور المسجد في إشاعة الأمن الروحي والمادي والمجتمعي. لقد كان موقف الإغلاق الكلي، ثم الفتح التدريجي للمساجد، مع استمرار توقف الجمعة قرارا في غاية الصعوبة،حرم الأمة من بركات المسجد وروحانيته. لقد تجاوب المغاربة مع هذا القرار وتفهموا دواعيه، والتزم المصلون بتلقائية بمقتضياته، لكن استمراره حرم فئة كبيرة من ارتياد المساجد بسبب البعد، وعدم التوفر على وسائل للتنقل، ومن تأمّل واقع المساجد المفتوحة سيجد أنها رغم التباعد المفروض فهي لا تملأ عن آخرها، مع أنها كانت قبل الحجر وبتراص الصفوف تكاد تمتلئ عن آخرها.
إننا نرى ضرورة النظر المتجدد في قرار الهيئات المختصة حول الإبقاء على مساجد محدودة للصلاة وإغلاق البقية، وكذلك استمرار توقف صلاة وخطبة الجمعة، والموازنة في كل ذلك بين المفاسد والمصالح، والبحث عن إمكانية الجمع بين تحقيق المصالح مع تجنب المفاسد المترتبة عن الاجتماع.
لقد حرص المغاربة منذ دخل الاسلام إلى المغرب على بناء المساجد، ووقف الزروع والثمار والعقارات عليها لأجل تغطية مصاريفها وتلبية حاجياتها. ولقد كانت المدن العتيقة تتوفر على مساجد جامعة بمرافق متنوعة كمسجد سيدي الغندور بالرباط أو المسجد الأعظم بها،وكانت تتوفر علىساحات كبيرة، تجعلها مُشمسة طيلة السنة، يتجدد فيها الهواء باستمرار. كما وجدت في هذه المدن ما يسمى اليوم بمساجد القرب، وهي مساجد صغيرة في كل درب، غايتها تيسير أداء الصلوات وقراءة الحزب، يعمرها جيران المسجد من العجزة والضعاف وكبار السن. ولاشك أن ذلك يبارك في أعمار الناس، ويُوفر لهم المتنفس التربوي للاجتماع في بيت الله قراءة أو استماعا للقرآن ولدروس العلم والوعظ.
ولا عجب أن نقول إن عناية المسلمين جملة بمساجدهم فاقت عناية كل الأمم بأماكن عبادتها: من حيث العدد الكبير للمساجد، والارتباط الشديد بها. فالمساجد بنيت وعمرت منذ الماضي ولا زالت حتى الآن تتابع مسيرتها في ثقة وثبات، حتى لا تكاد توجد جماعة من المسلمين تجاراً أو طلاباً أو مهاجرين في بقعة من بقاع الأرض وإلا وكان الهاجس الأول لهم إنشاء مسجد يجمع شتاتهم، ويوحد كلمتهم، ويشعرهم بانتمائهم الديني بوجودهم،
وكان للمسجد أدوار متعددة أسهمت ولا تزال في حفظ ليس فقط الأمن الروحي للمغاربة، وإنما أيضا جوانب متعددة من الأمن المادي والمجتمعي، ومن ذلك:
أولا:المسجد مؤسسة لأداء العبادة:
أول دور للمسجد هو أنه مصدر لتثبيت هوية المجتمع والدولة خمس مرات في اليوم، حيث يرفع الآذان الذي يذكر بالتوحيد، ويتجمع المسلمون لأداء الصلوات الخمس جماعة فيه. وقد كان السلف يحرصون على عمارة المساجد استجابة لنداء الله عز وجل: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ. رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور: 36- 37]} . ورغب النبي عليه السلام أيضا في عمارة المسجد وبيّن أجر الحريصين عليها كما حذرمن هجرانها. روى مالك عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ” أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عِنْدَ الْمَكَارِهِ وَكَثْرَةُ الْخُطَى إِلَى الْمَسَاجِدِ وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَذَلِكُمْ الرِّبَاطُ فَذَلِكُمْ الرِّبَاطُ فَذَلِكُمْ الرِّبَاطُ”.([1]). ونقل البيهقي في شعب الإيمان عن الأوزاعي خصالا خمسا حفظها أصحاب النبي عليه السلام والتابعون لهم بإحسان منها عمارة المساجد .
ثانيا: المسجد مؤسسة لغرس القيم الدينية والوطنية واستنهاض الهمم لتمثلها:
أما الرسالة الثانية للمسجد فهي التوجيه والتذكير، ويكون ذلك خلال خطبة الجمعة التي يحرص المسلمون رجالا ونساء على حضورها، والانصات لخطبتها. والخطيب في الإسلام نائب عن الإمام، فهو يُسهم في غرس القيم الوطنية والدينية، وفي معالجة الاختلالات والآفات التي تنخر مجتمعه وحيه أو مدينته.ومن جهة أخرى فإن عمار المسجد يتعودون على قيم التراحم والنظام واحترام الغير، فصلاة الجماعة اصطفاف ، وملء للصفوف الأول فالأول، ومتابعة للإمام، كما أنها سماحة وشفقة ورحمة ولين بالضعاف. وفي الحديث (أَقيموا الصفوفَ وحاذُوا بالمناكبِ وسُدُّوا الخَلَلَ ، ولِينوا بأيدي إخوانِكم) صحيح سنن أبي داود.
ثالثا : المسجد مؤسسة لتعليم القرآن وغيره.
والمسجد أيضا كان ولايزال بحمد الله تعالى في المغرب مؤسسة لتعليم القرآن وأحكامه، ولنشر دروس العلم بين أفراد الأمة. وقد أطلق المغاربة على المسجد لفظ الجامع لأنه يجمع الكثير من الخيرات وفي مقدمتها نشر العلم وبثه بين الناس. روى مالك عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ أَنَّ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ كَانَ يَقُولُ : ” مَنْ غَدَا أَوْ رَاحَ إِلَى الْمَسْجِدِ لَا يُرِيدُ غَيْرَهُ لِيَتَعَلَّمَ خَيْرًا أَوْ لِيُعَلِّمَهُ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى بَيْتِهِ كَانَ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ رَجَعَ غَانِمًا” . وقد عرف المسجد بالمغرب خلال السنوات الأخيرة طفرة نوعية تمثلت في دروس محو الأمية التي تلقى فيه ويستفيد منها الرجال والنساء، وفي حلقات تعليم القرآن وتحفيظه.
رابعا: المسجد مؤسسة اجتماعية لنشر السكينة وإصلاح ذات البين:
وكان المسجد منبعا لتحقيق الاستقرار الأسري، حيث يتدخل الإمام لإصلاح ذات البين بين الزوجين أو الأقارب والجيران. ويتفقد الناس بعضهم البعض يسألون عن المريض والمبتلى، ويواسي بعضهم بعضا. روى أبو داود عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – : قال : « دخل رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- ذاتَ يَوم المسجدَ ، فإذا هو برجلٍ من الأنصار – يقال له : أبو أُمامة – جالسا فيه ، فقال : يا أبا أُمامةَ ، مالي أراك جالسا في المسجد في غَير وقتِ صلاة ؟ قال : هُمُومٌ لَزِمَتْني ودُيُونٌ يا رسولَ الله ، قال : ألا أُعَلِّمُك كلاما إذا قلتَه أذْهَبَ الله عز وجل هَمّكَ ، وقضى عنك دَيْنك ؟ فقال : بلى يا رسول الله ، قال : قل – إذا أصبَحتَ وإذا أمسَيْتَ – : اللَّهمَّ إني أعوذ بك من الهَمِّ والحَزَنِ ، وأعوذُ بك من العجْزِ والكَسَلِ، وأَعوذُ بك من البخْلِ والجُبْنِ ، وأعوذ بك من غَلَبَةِ الدَّيْنِ وقَهرِ الرجال ، فقلت ذلك ، فأَذهَبَ الله همِّي ، وقضى عني دَينْي».
خامسا: المسجد مؤسسة للتزكية القلبية والتطهر الحسي والمعنوي:
والمسجد أيضا جعله الله تعالى مكانا للطهارة الحسية والمعنوية، لا يدخله إلا طاهر يحب الطهارة. وقد قال الله تعالى في وصف أهل قباء: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ } [التوبة: 108] وهكذا فالمسجد هو بيت كل مؤمن وتقي. وفي المسجد يتعلم المسلم قواعد الطهارة التي تعتبر شرطا من شروط ملازمتها كما في قول الله تعالى «يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ» (الأعراف:31) قال القاضي أبو محمد ابن عطية :” ويدخل فيها ما كان من الطيب للجمعة والسواك وبدل الثياب، وكل ما وجد استحسانه في الشريعة ولم يَقصد به مستعمله الخيلاء”.
ولقد اعتنى المسلمون المغاربة بالطهارة المادية، وخصصوا أماكن لها في مساجد القرى والمدن، وأوقفوا عليها الغلات كي تستمر في أداء دورها.
مقترحات قصد تفعيل الأمن الروحي والبدني والمجتمعي للمساجد
حسن استغلال وتطوير أوقاف المساجد:
نعتقد أنه يجب تحيين النظر في أوقاف المساجد، ووضع مقترحات تناسب العصر بين يدي المُحبسين، تراعي الحاجيات الجديدة لأمن المسجد وحسن أدائه لمهمته، مع ضرورة أن يتم الالتزام بشرط الواقف كما هو منصوص عليه في المذهب المالكي، ومنع اختلاط أوقاف المساجد قصد حصول التنافس الشريف في توفرها على الحاجيات المطلوبة، والتي نقترح منها:
تحفيز المحسنين على بناء مساجد ذات فضاءات متعددة وواسعة، كمكتبات وقاعات لتحفيظ القرآن الكريم ، ومرافق الطهارة والوضوء، وساحات لركن السيارات وفضاءات خضراء وغيرها …
توفير أجهزة تدفئة الماء للوضوء والطهارة، سواء بتحبيس حاجيات المسجد من الغاز، أو باستعمال الطاقة الشمسية أو الكهرباء.
توفير أكياس ذات استعمال وحيد صديقة للبيئة لوضع الأحذية بداخلها، ومواد تعقيم الأيدي عند خول المساجد.
توفير منح قيمي المساجد والرفع منها، والعناية حاصة بمن يتكفل بمرافق الوضوء ويسهر على نظافتها.
العناية بتأهيل القيمين وخاصة الأئمة والخطباء:
يروم هذا المقترح انخراط المسجد في أوراش الإصلاح المجتمعي، بعيدا عن التجاذبات السياسية التي لها مؤسساتها الخاصة. وذلك لن يتحقق دون تمكين الإمام والخطيب من حسن الفهم للواقع، ومن تكوينه ليس علميا وفقهيا فحسب وإنما أيضا تزويده بالمهارات اللازمة كي يستشعر دوره التوجيهي في جل مناحي الحياة، ويدخل في ذلك الإصلاح الأسري، وحفظ البيئة والسلامة الطرقية، وتتبع بعض الانحرافات السلوكية والتوجيه بشأنها. فالإمام منوط به توجيه الناس إلى ما يحقق لهم السعادة الدنيوية والأخروية، وما يرتقي بهم في حياتهم ويزكي نفوسهم ويبقيهم على توافق وانسجام مع ذاتهم ومع مجتمعهم.
نظافة وطهارة المساجد:
كان المسجد ولا يزال مكانا للطهارة والنظافة، وقد كانت دورات المياه وأماكن الوضوء أمكنة يرتادها التجار والصناع ممن يسكنون بعيدا عن المسجد. وقد كتب علماء المغرب حول هذا الجانب وأوقافه . وكان للعالم الاسلامي السبق في التوفر على دورات المياه والاسهام في حفظ البيئة. إن مدننا تشكو من الافتقار إلى المرافق الصحية العمومية، وقد كان المسجد يغطي بعض الخصاص، لكن إغلاق مرافقه خلال الحجر زاد من حالات تلويث البيئة والتبول في الطرقات والأزقة.
ولعل المفروض عقد شراكات بين الأوقاف والجماعات المحلية بغية تطوير المرافق الصحية للمساجد وعصرنتها، بحيث تحفظ من العدوى ونقل الأمراض.
الاستمرار في أداء الرسالة ولو بأشكال مختلفة
وإذا كان للمسجد تلكم الأدوار الكبيرة فإنه ينبغي البحث عن الوسائل التي تعين على الاستمرار في أداء الرسالة في كل الظروف والأحوال. وإن الفقه والاجتهاد المقاصدي كفيل بالتفاعل مع المقترحات التي تجمع بين تحقيق المصالح ودرء المفاسد. وقد اعتمد مسلمو الغرب في بعض المدن تقسيم المصلين يوم الجمعة قسمين نظرا لضيق المسجد وتحديد السلطات لعدد الرواد المتناسب مع أبواب الاغاثة.
إن وقوع البلاء وحدوث المحن يحتاج ممن يهمه الأمر ومن له مسؤولية إلى توجيه مستمر لتجاوزه، ولاشك أن لمؤسسة المسجد وللإمام دورا كبيرا في جبر المصائب ورفع الهمم، لذلك نحتاج إلى العناية به كمؤسسة تشتغل ولو في أوقات الحروب والمآسي، وتكون ملجأ لكل ممتحن ومبتلى. كما أن المسجد مؤسسة للرجال والنساء، فلا يجوز إهمال موقع المرأة في المسجد، والا الاستهانة بتهيئة مسجد النساء وفتح بانتظام لهن.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]أخرجه البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل صلاة الفجر، (1/ 119) رقم: (574)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاتي الصبح والعصر، والمحافظة عليهما، (1/ 440) رقم: (635).
السلام عليكم
كل هذه المصالح
هناك مصلحة اجتماعية الأئمة
بعد إغلاق المساجد توقف أداء الشرط عن عدد كبير من الأئمة
وهناك من لا يتقاضى راتبا شهريا لا من الأوقاف ولا من الجماعة
فرج الله همنا جميعا وفقكم الله وسدد خطاكم ورفع الله قدركم ونفع بكم