النخب العالمة وواجب إنهاض الأمة
هوية بريس – إبراهيم الطالب
وأنا أكتب مقالا في ملف هذا العدد حول الحصاد المر للحملات الغربية بقيادة أمريكا واستغلالها للجهاد إيجابًا وسلبا في محاربة ما أسمته الإرهاب خلال العقدين الفارطين، تأملت في حال مئات العلماء المسجونين في معتقلات الدول على امتداد ربوع الكوكب الأرضي من السعودية إلى الصين مرورا بكل دول الإسلام فك الله أسرهم، وفي الكم الهائل من مؤسسات تحفيظ القرآن وتدريس علومه التي أقفلت في العالم بأسره أو هدمت أو حُلَّت، وفي العدد المهول للمساجد التي هدمت في بلدان الطغيان الاستبدادي في سوريا والعراق مثلا، وتفكرت في الفضائيات التي أقْفلت أو اغتصبت، وفي الجمعيات التي حُلت وفي الجماعات التي فككت، وفي المقررات التي عدلت تعديلا علمانيا، وفي المنابر المسجدية التي تم تكميم أفواه فرسانها باسم الإصلاح، وفي العلماء الذين قتلوا، والآخرين الذين ماتوا بالقتل الأدبي البارد، فأهدرت قيمتهم بحملات التشويه الكاذبة، فبدا لي بوضوح أننا نحتاج إلى نخبة صادقة مع أمتها، فما مر على المسلمين خلال الحرب على الإرهاب ليس بالشيء الهين.
نحتاج إلى نخبة ناصحة تبعث الأمل في شعوب الإسلام، بعد مئات المجازر التي تعرضت لها طيلة 20 سنة من عمر الحرب على الإرهاب.
لقد أفلست النخبة الموجودة المستهلكة والتي لعبت دور الأقماع (المحقن أو المدوز بالدارجة المغربية)، نخبة كانت تعمل على تمرير الكذب ومنها من كان يعمل على تسويغ الباطل وتورية الجرائم، نخبة مفلسة فكريا مهزومة نفسيا، بقايا مسوخ من زمن الحرب الباردة، لا يهمها من سُجن ظلما ولا من قتل عدوانا، ولا مَن ترملت لتعيش ضنك الحياة في البحث عن لقمة لأيتامها في ظل تهمة الإرهاب التي ألصقت بزوجها الذي قضى نحبه في السجن مظلوما.
وأنا هنا لا أتحدث عن الذين تورطوا حقيقة في دماء المسلمين، فهؤلاء لا كلام معهم وهم في عداد المجرمين.
نحتاج إلى نخبة عالمة تعيد ما شوهته آلة محاربة “الإرهاب” وآلة الاستبداد المستغلة لتداعيات ما بعد 11 ستنبر 2001، نحتاج إلى من يجدد الدين ويرجعه كما خرج من منبعه الصافي فأكسب وحدة وقوة وتقدما ونهضة وحضارة، لا من يرى فيه ثقلا تاريخيا ينبغي التخلص منه، ويلصق به كل أسباب الفشل والتخلف.
نحتاج إلى من يزيل عن الدين ما لحق بمفاهيمه وشرائعه وعقائده من تشوهات وتحريفات لتنصلح به دنيا الناس وآخرتهم، فمثل هؤلاء يرون أن الدين رأسمال لا مادي ينتج الثروة عندما ينضبط أفراد المجتمع بتعاليمه وشريعته، ويحقق العدالة الاجتماعية ويكبل يد الاستبداد، ويزجر الفساد ويشيع الصلاح في كل الميادين.
النخبة اليوم خصوصا منها العالمة مدعوة إلى إصلاح الميزان الذي دخله الخلل، خلال العشرين سنة الماضية، حيث أصبحت حمى الدين مستباحة لكل من هب دب، فرأينا النساء تصلي في مساجد أمريكا دون حجاب ولا وضوء، وفي اختلاط تام بين الرجال والنساء واقفين كتفا إلى كتف، في محاولة لهدم ما بني لدى المسلمين من سمو الشريعة والعبادات عن عبث “الحداثيين” المفلسين الذين لا يرعون للمقدس مكانة ولا قدرا.
ورأينا من يخلط عمدا بين الجهاد الذي هو شرع من الله بنص القرآن للذين استبيحت ديارهم وأوطانهم، وقتلوا وشردوا، وبين الإفساد في الأرض وتفجير المساجد وقتل الأبرياء.
لقد عملت استخبارات الدول الكبرى عملها القذر واخترقت أغلب الجماعات المقاتلة في ساحات الموت، وارتكبت الفظائع باسم الله واسم الإسلام، لكي تصدَّ الناس عن دين الحق ودين العدل، يسهل عليها التحكم في سيكولوجيا الجماهير، والضغط على الدول للانخراط في حرب دينها بيدها، وسجن أبنائها بنفسها.
ورأينا كيف تم اتهام التراث وكتب السنة وتفاسير القرآن بأنها الأساس الفكري للإرهاب، فانتهكت حرمات الصحابة واتهمت رسائل النبي صلى الله عليه وسلم بأنها إرهابية، وطعن في كل ما هو ديني.
فهل يمكن بعد عشرين سنة من العبث والمكر وإلباس الباطل لبوس الحق، وتحريف التصور الإسلامي للكون والإنسان والحياة، أن يجرؤ عالم رسمي أو داعية من دعاة الإسلام أو حزب ذو مرجعية هوياتية على رفع مطلب المسلمين الدائم باستئناف العمل بشريعتهم؟؟
للأسف نجد الجرأة على النقيض تماما، حيث تجرأت دول نشأت في الإسلام في بدايات القرن بأقاصي صحراء الخليج على أن تلفق دينا تجمع فيه بين الإيمان والكفر، فأدمجت النصرانية واليهودية والإسلام الحنيف في ملة واحدة وسمتها زورا بالدين الإبراهيمي، في محاولة لتكذيب القرآن وتزييف الوعي الإسلامي لدى المسلمين؛ فنبي الله إبراهيم الخليل عليه السلام لم يكن يعبد الصليب ولَم يكن يُؤْمِن بما في التلمود والعهد القديم من شركيات ونصوص تتهم الأنبياء بارتكاب أكبر الفواحش التي يستنكف عنها الإنسان السوي بله المتدين الحنيف.
بل ازداد الأمر طغيانا فرأينا نفس الدولة العربية تستورد صنم بوذا وتقيمه في الفضاء العام، إظهارا لاعتناقها الدين الجديد دين الإيمان بلا حدود الذي يؤمن مريدوه بإعدام الحدود بين الكفر والإيمان والرذيلة والفضيلة، حيث تنمحي لديه كل المعايير التي أرسل بها النبي صلى الله عليه وسلم، للتمييز بين الكفر والإيمان والضلال والهدى.
الدولة إياها بعد 20 سنة من الاندماج في الفكر الصهيوني والرأسمال الصهيوأمريكي أصبحت رائدة لحملة التطبيع الثالثة مع الصهاينة، وقبل أن تكلل مسارها المخزي بعار المؤامرات على الأمة، أنشأت منظمة دولية تشكك في أصول الدين وتحارب الإسلام من بوابة الفكر والدراسات، سمتها “مؤمنون بلا حدود” رصدت لها الملايير لصرف الناس عن الإسلام وهدم بنائه العقدي والمعرفي، فنشرت مئات الكتب وعشرات المئات من المقالات والندوات والمحاضرات كلها تستهدف الإسلام شريعة وعقيدة وسلوكا، استصنمت مفهوما للإيمان بلا حدود، أي إيمان لا يعترف بماهية إيمانية محددة، سوت فيه بين من يعبد الأصنام ومن يعبد الله الواحد الأحد، وسوت فيه بين شريعة الإسلام وكل الشرائع البشرية، وصرفت الملايير من الدولارات من أجل التبشير بمعتقداتها وتصوراتها.
20 عاما من التشويه والتحريف والتلفيق والقتل والتهجير وتكميم الأفواه في العالم، عاش خلالها المسلمون في جل بلدانهم حالة سياسية يهيمن عليها الخوف، أثرت فيها الحالة الدولية التي هيمن عليها منطق الحرب التي صنعتها أمريكا ووضعت لها خططها في العالم لتعيد صياغة الجغرافيا والسياسة والاقتصاد والثقافة والدين، ألا تحتاج هذه المدة الزمنية الهامة والفاصلة من النخبة العالمة والمثقفة الواعية دراسة علمية تستشرف مستقبل بلداننا، الذي سيخرج من رحِمِ مرحلةِ حربٍ عالمية ضد المجهول، زادها ضرواة وخطورة أنها خُتمت بتداعيات انتشار وباء كوفيد 19؟؟
ومعلوم لدى أرباب التاريخ أن الحروب والأوبئة هي من العوامل التي تحدث المنعطفات الهامة والخطيرة في تاريخ الأمم، فهل تحس نخبنا بأننا نجتاز اليوم منعطفا خطيرا يحتاج إلى الانتباه القوي واليقظة الكاملة حتى لا نسقط في هاوية سحيقة لا قيام لنا بعدها إلا بعد قرون إن قدر لنا القيام؟
فما فقدته الدعوة الإسلامية من منابرَ لإنتاج الخطاب الشرعي، وما تم اجتثاثه من قنوات إعلامية، ومؤسسات جمعوية، بالإضافة إلى ما تم عزله من علماء الإسلام وما تم قتله وسجنه منهم، وما تم من تغييرات في مقررات التعليم، لا بد أن يكون لهذا كله أثر فادح في السنوات المقبلة؛ من هنا صار واجبا على العلماء والدعاة والمثقفين والمفكرين أن يضاعفوا جهودهم لسد الفراغ وملء الخصاص الذي أحدثته الحرب العالمية على الإسلام.
لست هنا أدافع عن تيار ديني بعينه، وإنما أتحدث عن هوية البلاد وعن الأساس المتين الذي قامت عليه هذه الهوية ألا وهو الإسلام.
ولقد أصبح الجميع في العالم يعي أن المقصود بالحرب على الإرهاب والهدف من حملاتها هو الإسلام شريعة وعقيدة وسلوكا، والبديل المفروض له وجهان وجه رسم عليه التطبيع مع الصهاينة ووجه رسمت عليه العلمانية نظاما إجباريا للحكم.
وللأسف رأينا أن دولنا خضعت خلال 20 سنة الماضية لخلاصات التقارير التي خرجت بها مراكز الدراسات الاستراتيجية الغربية، وارتكبت أخطاء فادحة في حق ضميرها الجمعي الذي تم العبث به، فزاد من التردي والتخلف وفقدان الثقة وتعميق الهوة بين الدولة ومواطنيها، فصار المجتمع يسير دون بوصلة نحو مستقبل ندفع إليه دفعا كما تدفع القطعان إلى المسالخ.
فهل ستتحمل النخب العالمة والمفكرة مسؤوليتها فتخرج من حالة اللامبالاة بما يجري في الواقع، التي فرضتها عليها قوانين الإرهاب لتشارك في وضع خارطة الطريق التي ينبغي أن تسلكها البلاد حتى لا تسقط في براثن الاستعمار الصهيوني كما سقط الآباء في الاستعمار العلماني/الصليبي؟؟
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.