باب الرزق.. مفاتيحه، أسباب كثرته، وموانعه
هوية بريس – د. محمد الويلالي
باب آخر جليل، نكد ليل نهار من أجل ولوجه، ونجتهد بكل قوتنا العقلية والبدنية في سبيل تحصيله، إنه باب: “الرزق”، الذي ـ ربما ـ ضاق على بعضنا في غمار هذه الجائحة، التي سَدت منافذ الطلب أو كادت، وعطلت سبل الكدح والكد أو أوشكت.
لقد جعل ابن القيم ـ رحمه الله ـ لباب الرزق ثلاثة مفاتيح، هي يسيرة على من يسرها الله عليه:
المفتاح الأول: السعي في تحصيل الرزق
أي: الاجتهاد في سلوك السبل الشرعية لتحصيل الرزق. قال ـ تعالى ـ: (فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ الله). وقال ـ عز وجل ـ: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ).فالمسلم مأمور بأن يسعى في الأرض، باحثا عن الرزق الحلال، وظيفة، أو تجارة، أو فلاحة، أو صناعة.. وقد يسافر من أجل ذلك، كما قال ربنا ـ عز وجل ـ: (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ ـأي: يسافرون ـ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ الله).
ولا شك أن السعي في الأسباب خير لمن يلوم القدر ويتكاسل، منتظرا الإحسان من الناس، قد يعطونه، وقد يمنعونه. قال صلى الله عليه وسلم: “لأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ، فَيَأْتِيَ بِحُزْمَةِ الْحَطَبِ عَلَى ظَهْرِهِ، فَيَبِيعَهَا، فَيَكُفَّ اللهُ بِهَا وَجْهَهُ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ، أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ” البخاري. وقد جاء رجلان إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو “يَقْسِمُ الصَّدَقَةَ، فَسَأَلاَهُ مِنْهَا”. قالا: فَرَفَعَ فِينَا الْبَصَرَ وَخَفَضَهُ، فَرَآنَا جَلْدَيْنِ، فَقَالَ: “إِنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا، وَلاَ حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ وَلاَ لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ” صحيح سنن أبي داود.
المفتاح الثاني: تقوى الله تعالى
فمن جعل رضا الله بين عينيه، والتقرب إليه أسمى مطامحه، ضاعف الله رزقه من حيث لا يحتسب. وفي القرآن آية كريمة، جعلها عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أسرع آية فرجا، وهي قوله ـ تعالى ـ: (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًاوَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ).
قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: “(وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا)، أي: ينجيه من كل كرب الدنيا والآخرة.(وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ)، أي: من حيث لا يرجو ولا يأمُل”.
وقال ابن كثير ـ رحمه الله ـ: “(وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ)، أي: من جهة لا تخطر بباله”.
ـ هذه هاجر أم إسماعيل ـ عليهما السلام ـ، التقية النقية، المتعلقة بربها، الموقنة بأنه لن يضيعها، تقول لزوجها نبي الله إبراهيم ـ عليه السلام ـ، وقد تركها هي وابنها في صحراء لا ماء فيها ولا طعام: “آللهُ الَّذِي أَمَرَكَ بِهَذَا؟”. قَالَ: :نَعَمْ”. قَالَتْ: “إِذًا لاَ يُضَيِّعُنَا”. وكذلك كان الأمر، فَجَّر الله لها ماء زمزم، الذي كان بركة عليها وعلى المسلمين.(وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ).
ـ وهذا صاحب ورشة، مكث ثمانية أشهر بلا عمل، حتى اضطر إلى أن يدفع أجرة العمال من رأسماله، ويأتيه طلب مغر يمتد لعدة أشهر، ولكن في صناعة ملابس النساء الداخلية الخاصة بالسباحة، بما يعتبر إعانة على نشر العري والفساد على الشواطئ، فتذكر أنه محاسب عليها يوم القيامة، فرفض العرض مع شديد حاجته للمال. وبعد مدة، جاءه من يطلب بضاعة حلالا تشغل عماله سنة كاملة. (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ).
ـ وهذا صاحب مطبعة، يعرض عليه طباعة مجلة شهريا بشكل مستمر، غير أن موضوع المجلة ساقط، وأهدافها دنية، فلم يرد أن يعين على الإثم والعدوان، فأبى طباعتها، فبعث الله إليه من يطلب طباعة خمسين ألف نسخة من القرآن الكريم، وبربح محترم. (اللهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ).
والأمثلة على ذلك لا تحصى. قال سفيان الثوري ـ رحمه الله ـ: “اتق الله، فما رأيتُ تقيا محتاجا”.
عليك بتقوى الله إن كنت غافلًا * سيأتيك بالأرزاق من حيث لا تدري
المفتاح الثالث:كثرة الاستغفار
قال ـ تعالى ـ على لسان سيدنا نوح ـ عليه السلام ـ: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَّكُمْ أَنْهَاراً).
قال القرطبي ـ رحمه الله ـ: “في هذه الآية دليلٌ على أن الاستغفار يُستنزَل به الرزق والأمطار”.
وقال ابن كثير ـ رحمه الله ـ: “أي: إذا تبتم إلى الله، واستغفرتموه، وأطعتموه، كثر الرزق عليكم، وأسقاكم من بركات السماء، وأنبت لكم من بركات الأرض، وأنبت لكم الزرع، وأدرَّ لكم الضرع”.
وشكا رجل إلى الحسن البصري ـ رحمه الله ـ قلة المطر، فقال له: “استغفر الله”. وشكا آخر الفقر، فقال له: “استغفر الله”. وسأله آخر قلة الولد، فقال له: “استغفر الله”. وشكا إليه رجلٌ جفاف بستانه، فقال له: “استغفر الله”. فتعجبوا من ذلك، فقال: “ما قلتُ من عندي شيئاً، إن الله ـ تعالى ـ يقول في سورة نوح: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراًيُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً)”. و”طُوبَى لِمَنْ وَجَدَ فِي صَحِيفَتِهِ اسْتِغْفَارًا كَثِيرًا” ـ كما قال صلى الله عليه وسلم. صحيح سنن ابن ماجة.
غير أنه الاستغفار الذي لا يقتصر على اللسان، ولا يقصد إلى مجرد العدد. بل الاستغفار الذي يحضر معه القلب، ويصحبه البكاء على ما فَرَط من الذنوب والمعاصي، مع العزم على التوبة والندم وعدم الرجوع.
صبراً على ضَيْقَةِ الأيامِ إنَّ لها* فَتْحًا وما الصَّبر إلَّا عند ذي الأدَبِ
سَيَفْتَحُ اللهُ أَبْوَابَ الْعَطَاءِ بِمَا *فِيهِ لِنَفْسِكَ رَاحَاتٌ مِنَالتَّعَبِ
من أسباب كثرة الرزق
قد يلحظ أحدنا أن من الناس من يفتح الله لهم أبواب الرزق، فيغدق عليهم بغير حساب، بل قد يُرزَق أحدهم وهو لا يعرف كيف زاد ماله ونما، وكيف فاضت عليه الخيرات من كل جانب من غير سابق تخطيط، ولا سالف تصميم.
ومن أعظم ما يحقق ذلك، العفة عما في يد الناس، والطمع فيما عند الله وحده، وهي درجة تحتاج إلى قوة في الإيمان، وصلابة في منع أهواء النفس، وكبح أطماعها، فالله وحده هو الذي يعطي، وهو الذي يغني، وهو الذي يكفي. قال ـ تعالى ـ: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَىوَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى). وقال ـ تعالى ـ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى الله وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ).
وكان من توجيهات النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب، وقد سأله رجل قال: يَا رَسُولَ الله، دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا أَنَا عَمِلْتُهُ، أَحَبَّنِيَ الله، وَأَحَبَّنِيَ النَّاسُ.فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: “ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللهُ، وَازْهَدْ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ يُحبَّكَ النَّاسُ” صحيح سنن ابن ماجة. فكان الزهد فيما في أيدي الناس، هو عين الغنى عن الناس، وتحقيق محبتهم. بل قد يتحقق منه الغنى المادي ـ أيضا ـ، حين تختلط القناعة بالرضا عن الله، كما قال r: “اتَّقِ الْمَحَارِمَ، تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ، وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللهُ لَكَ، تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ” صحيح سنن الترمذي.
ومن أروع الأمثلة في تجسيد العفة المفضية إلى الغنى المادي، قصة عبد الرحمن بن عوف، الذي آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ بعد الهجرة إلى المدينة ـ بينه وبين سعد بن الربيع، هذا الأخير اقترح على ابن عوف أن يقتسم معه ماله، وكان ماله وفيرا، وأن يتنازل عن إحدى زوجتيه، فيزوجها له. فقابل ابن عوف هذا الكرم الاستثنائي بتعفف نبيل، فقال له: “بَارَكَ اللهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ، دُلُّونِي عَلَى السُّوقِ. فَأَتَى السُّوقَ“البخاري. وسرعان ما نما ماله، وكثر خيره، فما هي إلا أيام، حتى تزوج أنصارية، وقد أمهرها وزن نواة من ذهب.
وبلغ ابن عوف من بركة التجارة أن كادت رمال الصحراء تستحيل له ذهبا. يقول عن نفسه رضي الله عنه: “لَقَدْ رَأَيْتُنِي لَوْ رَفَعْتُ حَجَرًا، لَوَجَدْتُ تَحْتَهُ فِضَّةً وَذَهَبًا”.
وانتقل رضي الله عنه من الفقر والحاجة، إلى الغنى الكثير، حتى قيل: “كان أهل المدينة عيالا على عبد الرحمن بن عوف: ثلث يقرضهم ماله، وثلث يقضي دينهم، ويصل ثلثا”.
فانظر إلى التعلق بالله كم يجني صاحبه من الخير؟ وكم يفتح له من أبواب الرزق من حيث لا يدري؟
ولقد جعل الله لنا في ديننا أسبابا أخرى تحقق الغنى المادي، ويكون منها كثرة الرزق والبركة. من ذلك:
1ـ صلة الرحم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: “مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ” متفق عليه. وتكون صلة الرحم سببا في الزيادة في الرزق، ولو كان المتواصلون من الفجرة. قال صلى الله عليه وسلم:”إنَّ أَعجلَ الطاعةِ ثوابًا، لَصِلَةُ الرَّحِمِ، حتى إنَّ أهلَ البيتِ لَيكونُونَ فجَرةً، فتنمو أموالُهم، ويكثُرُ عددُهم إذا تواصَلوا” صحيح الجامع.
2ـ الإنفاق في سبيل الله، ولو من القليل.قال ـ تعالى ـ: (وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ). وفي الحديث القدسي، يقول اللهُـ عَزَّ وَجَلَّ ـ: (أَنْفِقْ، أُنْفِقْ عَلَيْكَ)” متفق عليه.
وزيادة المالإما بالبركة فيه، أوبدفع المضرات عنه، فيحفظه الله ـ تعالى ـ ويبارك فيه.
3ـ ومن هذه الأسباب: الزواج المبني على التعفف والإحصان وابتغاء الولد، فهو من أعظم أسباب البركة في الرزق. قال صلى الله عليه وسلم: “ثَلاَثَةٌ حَقٌّ عَلَى الله عَوْنُهُمُ. ومنهم: النَّاكِحُ الَّذِي يُرِيدُ الْعَفَافَ” صحيح سنن الترمذي.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “عجبت لرجل لا يطلب الغنى بالباءة، والله ـ تعالى ـ يقول في كتابه: (إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ)”.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: “التمسوا الغنى في النكاح”.
4ـ بر الوالدين، والإحسان إليهما، والسعي عليهما، والعمل على إرضائهما، كل ذلك من أسباب مضاعفة الرزق. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُمَدَّ لَهُ فِي عُمُرِهِ، وَأَنْ يُزَادَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، فَلْيَبَرَّ وَالِدَيْهِ، وَلْيَصِلْ رَحِمَهُ” أحمد وهو في صحيح الترغيب.ورزق الآخرة خير وأبقى. قال النبي صلى الله عليه وسلم: “الْوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، فَإِنْ شِئْتَ فَأَضِعْ ذَلِكَ الْبَابَ أَوِ احْفَظْهُ” صحيح سننالترمذي.
وأوصى النبي صلى الله عليه وسلم معاوية السلمي بأمه فقال له: “الْزَمْ رِجْلَهَا، فَثَمَّ الْجَنَّةُ” صحيح سننابن ماجة.
ولذلك الذي يعنف أبويه أو أحدهما ـ كما نشاهده من بعض الشباب اليوم ـ، تراه مهموما طول حياته، مرتكسا بين مخالب الفقر النفسي وإن كان ذا مال، خائبا في مساعيه وإن كان ذا جاه وسلطان، لم يتسلح بدعوة صالحة من أبويه، ولا برضا الله المنوط برضاهما. قال صلى الله عليه وسلم: “رِضا اللهِ في رِضا الوالدِ، وسَخطُ اللهِ في سَخَطِ الوالدِ” صحيح الترغيب.
5ـ حُسن الجوار، والرفق في معاملة الجار، الذي كاد أن يجعله شرعنا وارثا في جاره. بل إن امتحان الخيرية في مقدار الإحسان إلى الجار. قال النبي صلى الله عليه وسلم: “خَيْرُ الأَصْحَابِ عِنْدَ اللهِ، خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ، وَخَيْرُ الْجِيرَانِ عِنْدَ اللهِ، خَيْرُهُمْ لِجَارِهِ” صحيح سننالترمذي.
ولا شك أن هذا الصنف من الناس يصير موفور الرزق، عميم الخير. قال صلى الله عليه وسلم: “حُسْنُ الْخُلُقِ، وَحُسْنُ الْجِوَارِ، يَعْمُرَانِ الدِّيَارَ، وَيَزِيدَانِ فِي الأَعْمَارِ”. صحيح الترغيب.
وجُعل الجار الحَسَن في الإسلام من أعظم أسباب السعادة. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “أربعٌ من السعادةِ:المرأةُ الصالحةُ، والمسكنُ الواسعُ، والجارُ الصالحُ، والمركبُ الهنيءُ. وأربعٌ من الشَّقاءِ: الجارُ السوءُ، والمرأةُ السوءُ، والمركبُ السوءُ، والمسكنُ الضَّيِّقُ” صحيح الترغيب.
6ـ الإكثار من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم r. فقد أجاب النبي صلى الله عليه وسلم أُبَيًّا رضي الله عنه حين قال له: “أَجْعَلُ لَكَ صَلاَتِي كُلَّهَا”: قال: “إِذًا تُكْفَى هَمَّكَ، وَيُغْفَرُ لَكَ ذَنْبُكَ” صحيح سنن الترمذي.
لا تَخْضَعَنَّ لِمَخْلُوقٍ عَلَى طَمَعٍ وَاسْتَرْزِقِ اللهَ مِمَّا فِي خَزَائِنِهِ أَلا تَرَى كُلَّ مَنْ تَرْجُو وَتَأْمَلُهُ | فَإِنَّ ذَاكَ مُضِرٌّ مِنْكَ بِالدِّينِ فَإِنَّما هِيَ بَيْنَ الْكَافِ وَالنُّونِ مِنَ الْبَرِيَّةِ مِسْكِينُ ابْنُ مِسْكِينِ؟
|
عشرة أسباب تحجب الرزق
غير أن أحدنا قد يقول: إنه ربما سلك كل هذه الطرق، وقام بكل هذه الأسباب، ولا يزال ينتظر أن تيسر له طرق الرزق. والجواب يتمحور حول ضرورة تجنب موانع استدرار الرزق، التي يمكن تركيزها في عشرة أشياء:
1ـ ترك الأخذ بالأسباب، تواكلا واعتمادا على القدر، وأن الرزق مقسوم، والأجل مضروب. وهذا فهم ضعيف لحقيقة القَدَر، إذ الإنسان مطالب بالاجتهاد في اتخاذ الأسباب المشروعة، والسعي في الأرض لتحصيل قوته، وإحراز رزقه، كما قال ـ تعالى ـ: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ).وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “لا يقعدنَّ أحدكم عن طلب الرزق، ويقول: اللهم ارزقني، وقد علم أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة”.
ومن طلب العُلا من غير كَدٍّ * أَضَاع العُمْرَ في طلب الْمُحَالِ
2ـ أكل الحرام، أو ما فيه شبهة، لأن الله ـ تعالى ـ طيب لا يقبل إلا طيبا. قال ـ تعالى ـ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُم).
فالذي يأكل الربا، يمحق الله ماله: (يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ).
والذي يأكل أموال الناس بالباطل، تقل بركة رزقه وإن رآه كثيرا، كالذي يحتال في البيع والشراء، كذبا وحلفا وتزيينا. قال صلى الله عليه وسلم: “اليمينُ الكاذِبَةُ مَنْفَقَةٌ للسِّلعَةِ،مَمْحَقَةٌ للكَسبِ”. وفي لفظ: “مَمْحَقَةٌ لِلبَرَكَةِ” الصحيحة.
لاَتَرغبنْ في كثيرِ المالِ تكنِزهُ * من الحرامِ فلا يُنمَى وإِن كَثُرا
واطلبْ حلالاً وإِن قلَّتْ فواضلهُ * إِن الحـلالَ زَكِيٌّ حيثــما ذُكِـرا
3ـ كفر النعم، وازدراء عطايا الله وإن قلت. قال ـ تعالى ـ،: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ). قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ: “أي: لئن شكرتم نعمتي عليكم، لأزيدنكم منها، ولئن كفرتم النعم وسترتموها وجحدتموها، (إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)، وذلك بسلبها عنكم”.
4ـ البخل والشح، لأنهما يدفعان إلى كنز المال، وعدم التصدق منه، فيخلو المال من بركة الصدقة. قال ـ تعالى ـ: (وَلاَيَحْسَبَنّ الَّذِين يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ). وقال صلى الله عليه وسلم: “اتَّقُوا الشُّحَّ، فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ، وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ” مسلم.
5ـ القيام بالأعمال الشركية المنافيةِ للعبادة الحقة، كمن يحلف بغير الله، أو يذبح لغير الله، أو يعتقد في استمداد النفع والضر من الأموات.. قال ـ تعالى ـ: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ)، أي: إن الإطعام والأمن (وهما رزق) منوطان بتوحيد الله، وتحقيق العبادة الصحيحة.
6ـ الإعراض عن القرآن الكريم، واعتقاد أن غيره من القوانين الوضعية، والإعلانات العالمية البشرية خيرٌ منه. قال ـ تعالى ـ: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا). قال الضحاك: (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا): العمل السيئ، والرزق الخبيث”.
7ـ عدم نسبة الفضل في الرزق إلى الرزاق المنعم، الذي يستحق منا كل الحمد والثناء.وقد ضرب الله لنا مثلا قصة قارون الذي ملك الدنيا، فلم يعترف بالمنعم المتفضل، وقال: (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي)، أي: إن الله يعلم قدري، وأنني أستحقه بجهدي وذكائي. فكان جزاؤه أن خسف الله به وبداره الأرض.
8ـ الانشغال بطلب الرزق عن الفرائض، لأن الذي يرزقك، هو الذي أمرك بترك الدنيا والإقبال عليه في أوقات مخصوصة، كما قال ـ تعالى ـ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ). قال ابن عجيبة: “بادِروا إلى تجارة الآخرة، واتركوا تجارة الدنيا”.
9ـ ترك إخراج الزكاة، لقوله صلى الله عليه وسلم: “وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلاَّ مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ، وَلَوْلاَ الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا” صحيح سنن ابن ماجة.
10ـ الذنوب والمعاصي، وهي من أعظم أسباب منع الرزق، ومحق بركته. وما أهلك اللهُ مَن قبلَنا من الأمم إلا بسبب المعاصي، ومنها الظلم، الذي كان سببا في حرمان بني إسرائيل من كثير من الأرزاق والخيرات. قال ـ تعالى ـ: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيرًا وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا).
فإذا قال القائل: إن كثيرا من غير المسلمين هم اليوم في عيش رغيد، مع إقامتهم على المعصية، قيل: إن ذلك استدراج. قال النبي صلى الله عليه وسلم: “إِذَا رَأَيْتَ اللهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنَ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ، فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ”. ثُمَّ تَلاَ صلى الله عليه وسلم: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ)” أحمد، وهو في الصحيحة. وقال ـ تعالى ـ: (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ).
وبين صلى الله عليه وسلم كيف أن الذنب يمنع الرزق فقال: “إِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ” صحيح سنن ابن ماجة. أي: يمنع الرزق الحلال، أو يمنع البركة.
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: “ومن عقوباتها (أي: المعاصي) أنها تمحق بركة العمر، وبركة الرزق، وبركة العلم، وبركة العمل، وبركة الطاعة“.
فَلا تَجزَع وَإِن أَعسَرتَ يَوماً * فَقَد أَيسَرتَ في الزَمَنِ الطَويلِ
وَلا تَيأَس فَإِنَّ اليَأسَ كُفرٌ * لَعَلَّ اللَهَ يُغني عَن قَليلِ
وَلا تَظنُنْ بِرَبِّكَ ظَنَّ سَوءٍ فَإِنَّ اللَهَ أَولى بِالجَميلِ
والحمد لله رب العالمين.