“الفكرة الإبراهيمية”.. من التطبيع إلى التهويد..
هوية بريس – راغدة عسيران
قبل شهور، شرح د. أنور أبو طه، عضو المكتب السياسي لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، في مقابلة على فضائية “فلسطين اليوم”، خطورة ما سمي بـ”اتفاق ابراهام” بين دولة الإمارات العربية المتحدة والكيان الصهيوني، كونه يتجاوز التطبيع ليتخذ شكل التحالف. وحول تسمية هذا التحالف، كشف تورّط دولة الإمارات ومشاركتها الفاعلة في “الفكرة الابراهيمية” أو ما يراد لها ان تكون، الديانة “الابراهيمية”، حيث تطرّق الى “الديبلوماسية الابراهيمية” التي تم تأسيسها في الولايات المتحدة، لتمكين الصهاينة من الاستيلاء على المنطقة، بحجة “المشترك الإبراهيمي”.
وقد أضاف كتاب “الديبلوماسية الروحية والمشترك الابراهيمي” للباحثة هبة جمال الدين محمد العزب (مركز دراسات الوحدة العربية)، معلومات حول هذا المخطط التهويدي للمنطقة، الذي تسعى اليه كل من الولايات المتحدة والكيان الصهيوني وهيئات دولية ومراكز بحثية وأكاديمية ودينية في العالم، والذي تشارك فيه دولة الإمارات وغيرها من الدول العربية التي انضمت الى الحلف “الابراهيمي”.
تنطلق الفكرة الابراهيمية من السياسة بغطاء ديني، أي أنها محاولة إقناع الشعوب العربية والإسلامية بشرعية وجود الكيان الاستيطاني الصهيوني على أرض فلسطين بالعودة الى “المشترك الإبراهيمي” والترويج له. فتمّ اختراع دين جديد يتجاوز الأديان السماوية، الإسلام والمسيحية واليهودية، كما يروّجون له، بعد إدراك القائمين على هذه الديانة الجديدة أن المعتقد الديني، الذي يرفض الظلم والاستبداد أساسا، هو من يواجه العدوان الصهيوني الغربي ويحصّن الشعوب ضد فكرة التأقلم معه.
ولأن العمل السياسي والحربي فشل في ترويض شعوب المنطقة، التي لم تستسلم أمام الضغوط التي مارسها ويمارسها الأعداء (كيان العدو والدول الغربية)، فكان لا بدّ، بالنسبة لهم، من أن يخترعوا الفكرة الابراهيمية وتقديمها على أساس أنها دين يجمع الأديان، يسعى الى حلّ النزاعات والصراعات، وخاصة الصراع العربي – الصهيوني، وإشاعة السلام بين الشعوب المؤمنة وغير المؤمنة في العالم.
تنتهج الفكرة الابرهيمية عدة مسارات لتحقيق هدفها، منها المسار الديبلوماسي أو ما يسمى الديبلوماسية الروحية، التي “تستهدف حل النزاع أو منع حدوثه من أجل بناء سلام ديني عالمي، يتم عبر الجمع بين القادة الروحيين والساسة داخل آلية المسار الثاني للمفاوضات باستخدام المدخل النفسي لدحض الأصولية في الأديان الثلاثة”. وقد مأسست وزارة الخارجية الأميركية الفكرة الإبراهيمية في العام 2013 بتجنيد فريق من مئة شخص من السياسيين ورجال الدين يقدمون التوصيات للوزارة ويروّجون لفكرة الديانة الابراهيمية الجامعة.
تقوم الديبلوماسية الروحية على “تمرير الأفكار والرسائل غير الرسمية الى الطرف الآخر” خلال المفاوضات و”تسهّل البحث عن المصالح المشتركة”، وما يسمى بالمسار الثاني للمفاوضات هو آلية تركّز “على خلق بيئة من الرأي العام، متهيئة ومؤيدة”، تكون ضاغطة “لخوض المخاطرة للحديث عن السلام”.
يشكل المسار الثاني، “مسار إبراهيم” الجغرافي والسياحي التطبيق العملي للفكرة الابراهيمية. يمر هذا المسار، الذي وضعته جامعة هارفرد الأميركية، بعشر دول إسلامية وعربية، و”يسير عليه أتباع الديانات الثلاث للتقارب كرمز للتسامح الديني وقبول الآخر”. فتم في العام 2007 تأسيس “مبادرة مسار ابراهيم” كمشروع ثقافي سياحي “لحل الصراع والتقارب”، في ولاية كولورادو الأميركية. فأكدت المؤسسة، التي يديرها ويليام أوري، على أن هدفها هو “إحياء التاريخ المشترك وبناء الثقافة التاريخية المشتركة لأتباع الأديان الإبراهيمية”. وقد أنشأت المبادرة فروعا لها في عدة دول، وفتحت مكاتب لها في كل من بيروت وبيت لحم والقدس وباريس وأوكسفورد… وتعمل إحدى الشخصيات المؤسسة، استفاني سالدانا، في جامعة بارد في القدس حيث تعلّم الطلبة الفلسطينيين أفكار المشروع. للمبادرة منسقون محليّون يعملون في مجال السياحة، وكانت مؤسسة الوليد بن طلال للأعمال الانسانية من أوائل المانحين لنشاطها، وتشارك جامعة بيت لحم الى جانب جامعة بن غوريون الصهيونية في هذه المبادرة.
تكمن خطورة “مسار إبراهيم” السياحي كونه يرسم خارطة الحلم الصهيوني التوسعي من “النيل الى الفرات” لتهويد المنطقة التي سار عليها النبي ابراهيم، عليه السلام، وفقا للروايات الدينية. وبحسب القائمين على المبادرة، تم مناقشة موضوع امتلاك أرض “المسار”، “هل للقدماء، أم لأصحاب المبادرة، أم لسكان الإقليم الذين لا يعلمون شيئا عنه، أم لمن يسير على الطريق ؟” دون حسمه نهائيا، بسبب الأوضاع غير المستقرة في المنطقة.
بدأ العمل بالمسار في عدة بلدان، بما فيها فلسطين (الضفة الغربية والكيان الصهيوني). ويشير د. أنور ابو طه الى أن “جمعية مسار ابراهيم بالضفة الغربية وداخل فلسطين تسيّر الرحلات على هذا المسار باعتبارها رحلات سياحية، ووزارة السياحة الفلسطينية وقعت اتفاقيات مع “مسار إبراهيم” وبلديات كبلدية بيت لحم ورام الله”، إذ يمّر هؤلاء “السوّاح” على الحواجز “الإسرائيلية” دون إعاقة، “لأن المسار بحسب المخططين يؤكد الحق “الإسرائيلي” في هذه الأرض”.
يعمل المسار الثالث على تجنيد المنظمات غير الحكومية والرأي العام العالمي ليشكلوا ضغطا معنويا وإعلاميا باتجاه هذا السلام التهويدي. ومن أهم هذه المنظمات العالمية، الجماعات والحركات الصوفية التي تركّز على القيم الروحية والأخلاقية والتي تحاول تجنيدها للفكرة الإبراهيمية “حركة صوفية غربية عالمية غير إسلامية”، الرابطة الصوفية العالمية، التي أنشئت قبل قرن، ولكن تم تطويعها للمشروع الإبراهيمي مع بداية الألفية. وتشارك هذه الرابطة في المحافل الدولية وتجتمع مع الحركات الصوفية الإسلامية. شارك رئيسها إلياس عميدون في تأسيس “مبادرة مسار إبراهيم” وهو “أبرز القيادات الصوفية العالمية لمنظمة الطريقة الصوفية التي تساوي بين الصوفية والماسونية”، كما أشارت اليه الباحثة هبة العزب.
من أهم الأدوات التي تستخدمها الصوفية العالمية للترويج لأفكارها إطلاق مفاهيم جديدة كـ”المواطن العالمي” وبناء ذاكرة تاريخية مشتركة خلال مسارات الحج الديني. أنشأت الصوفية العالمية كيانات تابعة لها، منتشرة في جميع الدول الإسلامية. ومن أبرز مموّلي هذه الكيانات رجل الأعمال اليهودي جورج سورس.
إضافة الى هذا المسار “الروحاني”، تغلغلت الفكرة الإبراهيمية في أروقة الأمم المتحدة ومنظماتها، التي تدعم كل من يتكلّم عن السلام، دون النظر الى خلفياته، لاسيما وأن الفكرة الإبراهيمية تروّج للتنمية المستدامة والبيئة ومحاربة الفقر والتقارب بين الأديان. لقد تبنّت الأمم المتحدة مصطلح “الأديان الإبراهيمية” بدلا من الأديان السماوية، وأقامت منتديات دولية للصلوات المشتركة رافعة شعارات “السلام الديني العالمي”، للتغطية على العدوان الصهيوني، وكأن المشكلة هي صراع بين الأديان وليست صراع ضد الظلم واحتلال فلسطين واستيطانها، وتهجير أهلها.
تروّج الفكرة الإبراهيمية لشعار السلام، بدلا من إعادة الحق الى أصحابه ليسود السلام في العالم ورفع الظلم عن الشعوب المظلومة. وتسعى لاختراع تاريخ جديد “مشترك” يحلّ مكان تاريخ المنطقة وحضاراته وتنوّع شعوبه. وكما أشار اليه د. أنور ابو طه، تعمل الفكرة الإبراهيمية على “إعادة تأويل النص الديني وإعادة قراءة التاريخ. الهدف الخفي هو استيلاء اليهود على القدس بدعم مؤسسات دولية، وعمليا، نسخ الإسلام وتزييف التاريخ وتغيير الوقائع لصالح الكيان الإسرائيلي”.
ومشاركة بعض الدول العربية في “الحلف الإبراهيمي” الذي تقوده الولايات المتحدة لصالح الكيان الصهيوني وتوسّعه في المنطقة، تجاوزت عملية التطبيع مع العدو والتحالف الأمني معه ضد الشعوب الأمة، بل تعني أساسا الموافقة الضمنية على تهويد التاريخ والجغرافيا واستعباد الشعوب ونسخ الإسلام.