كيف تعامل النبي أيوب مع فيروس Variola؟ (دراسة في ضوء القرآن والسنة والتاريخ)
هوية بريس – ذ.حماد القباج
الجدري وفيروس Variola:
الجدري هو مرض تلوّثي يسببه فيروس يدعى Variola (فاريولا).
وهو مرض تلوثي معدٍ ينقل من شخص إلى آخر.
في الماضي قبل تطوير التطعيم ضد الجدري كان هذا المرض منتشرًا في جميع أنحاء العالم؛ وتميز كمرض موسمي يكون شائعًا أكثر في فصل الشتاء وبداية فصل الربيع.
وهو مرض خطير، يظهر على جلد المريض في شكل بثور، ثم تتكون قشرة على البثور ما تلبث أن تسقط تاركة ندبة في مكانها، يتسبب في موت صاحبه أو إصابته بتشوهات مستديمة.
وأول إنسان أصيب بهذا الداء هو نبي الله أيوب عليه السلام:
قال مجاهد: “كان أيوب عليه السلام أول من أصابه الجدري”.
قال السدي: “تساقط لحمه حتى لم يبق إلا العظم والعصب”.
قال ابن كثير في كتابه قصص الأنبياء: “ابتلي في جسده بأنواع من البلاء، ولم يبق منه عضو سليم سوى قلبه ولسانه، يذكر الله عز وجل بهما.
وهو في ذلك كله صابر محتسب، ذاكر لله عز وجل في ليله ونهاره وصباحه ومسائه.
وطال مرضه حتى عافه الجليس، وأوحش منه الأنيس، وأخرج من بلده وألقي على مزبلة خارجها، وانقطع عنه الناس”اهـ.
في سنة 1796، قام الطبيب الإنجليزي “إدوارد جينر” بتحضير أول لقاح ضد الجدري، وفي سنة 1967، بدأت منظمة الصحة العالمية في تنظيم حملة للقضاء عليه.
وفي سنة 1977، ظهرت آخر إصابة بالجدري في الصومال، وفي سنة 1980 أعلنت المنظمة أنها نجحت في القضاء على المرض.
فمن هو أيوب؟ وما هي قصته مع الفيروس الفتاك؟
هو نبي من أنبياء الله تعالى، بعث بعد يونس عليه السلام.
قال ابن إسحق: كان رجلا من الروم.
وهو أيوب بن موص بن رزاح بن العيص بن إسحق بن إبراهيم الخليل.
وحكى ابن عساكر أن أمه بنت لوط عليه السلام.
وامرأته من بنات يعقوب عليه السلام، قيل: اسمها “ليا”.
وقد شرف الله تعالى نبيه أيوب عليه السلام؛ وجعله من الخمس والعشرين نبيا الذين ذكرهم سبحانه بأسمائهم في كتابه الكريم.
وهو من الأنبياء المنصوص على الإيحاء إليهم في سورة النساء في قوله تعالى: “إنا أوحينا إليكم كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده، وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والاسباط وعيسى وأيوب“.
قال علماء التاريخ: “كان أيوب رجلا كثير المال من سائر صنوفه وأنواعه؛ من الأنعام والعبيد والمواشي، والأراضي المتسعة بأرض الثنية من أرض حوران من أعمال دمشق”.
وحكى ابن عساكر: أن حوران كلها كانت له.
أيوب عليه السلام في القرآن والسنة:
إن أوثق النصوص التي أرّخت إصابة نبي الله أيوب بابتلاء شديد وأشادت بموقفه وطريقة تعامله مع الابتلاء؛ هي الآيات القرآنية من سورة الأنبياء وسورة ص.
إن سلوك أيوب في مواجهة ابتلائه جعله يتبوأ منزلة سامية في تاريخ البشرية؛ حيث خلّد الله ذكره ونوه بسلوكه في موطنين من كتابه:
قال الله تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 41، 44]
وقال سبحانه: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء: 83، 84]
وعن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
“إن نبي الله أيوب صلى الله عليه وسلم لبث به بلاؤه ثمان عشرة سنة، فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين من إخوانه كانا يغدوان إليه ويروحان، فقال أحدهما لصاحبه ذات يوم: “تعلم والله لقد أذنب أيوب ذنبا ما أذنبه أحد من العالمين”.
فقال له صاحبه: وما ذاك؟
قال: منذ ثمان عشرة سنة لم يرحمه الله فيكشف ما به”.
فلما راحا إلى أيوب، لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك له، فقال أيوب: لا أدري ما تقولان غير أن الله تعالى يعلم أني كنت أمر بالرجلين يتنازعان، فيذكران الله فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما كراهية أن يذكر الله إلا في حق.
قال: وكان يخرج إلى حاجته، فإذا قضى حاجته أمسكته امرأته بيده حتى يبلغ، فلما كان ذات يوم أبطأ عليها، وأوحي إلى أيوب أن {اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب}.
فاستبطأته، فتلقته تنظر وقد أقبل عليها قد أذهب الله ما به من البلاء وهو أحسن ما كان، فلما رأته قالت: أي بارك الله فيك هل رأيت نبي الله هذا المبتلى، والله على ذلك ما رأيت أشبه منك إذ كان صحيحا”؟
فقال: فإني أنا هو.
وكان له أندران (أي بيدران، والبيدر خزان كبير): أندر للقمح وأندر للشعير، فبعث الله سحابتين، فلما كانت إحداهما على أندر القمح أفرغت فيه الذهب حتى فاض وأفرغت الأخرى في أندر الشعير الورق (الفضة) حتى فاض“. [رواه أبو يعلى في مسنده وصححه الألباني].
قطوف دانية وثمار غالية:
إن حديث نبي الله أيوب عليه السلام: أصل شريف جليل القدر في فقه الابتلاء.
وهو أشبه ما يكون بشجرة امتلأت أغصانها بثمار حلوة طيبة، تغذي فؤاد المريض وتجمه ..
فهاك أخي المريض بعضها؛ قطوفا دانية، لا تجد فيها كلمة لاغية، تسكب في جوفك حلاوة تمحو مرارة الدواء، وتروي غليلك بسقيا تطفئ لهيب الأوجاع والأدواء.
لا يلزم من الابتلاء الإهانة:
لو كان الابتلاء دليل الإهانة، لما ابتلي هذا النبي الكريم ..
وفي كتاب الله ما يؤصل لهذا المعنى؛ قال سبحانه: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا} [الفجر: 15 – 17]
قال العلامة السعدي: “يخبر تعالى عن طبيعة الإنسان من حيث هو، وأنه جاهل ظالم، لا علم له بالعواقب، يظن الحالة التي تقع فيه تستمر ولا تزول، ويظن أن إكرام الله في الدنيا وإنعامه عليه يدل على كرامته عنده وقربه منه، وأنه إذا {قدر عليه رزقه} أي: ضيقه، فصار يقدر قوته لا يفضل منه، أن هذا إهانة من الله له، فرد الله عليه هذا الحسبان بقوله {كلا}.
أي: ليس كل من نعمته في الدنيا فهو كريم علي، ولا كل من قدرت عليه رزقه فهو مهان لدي، وإنما الغنى والفقر، والسعة والضيق، ابتلاء من الله، وامتحان يمتحن به العباد، ليرى من يقوم له بالشكر والصبر، فيثيبه على ذلك الثواب الجزيل، ممن ليس كذلك فينقله إلى العذاب الوبيل”اهـ. [تيسير الكريم الرحمن]
ثمان عشرة سنة:
وهو الراجح في عدد السنين التي قيل بأن نبي الله أيوب عليه السلام مكثها في ابتلاءه …
وهذه مدة طويلة وزمان ممتد، وكان عليه السلام مستعدا لصبر أضعافها:
قال السدي: “كانت امرأة أيوب تأتيه بالرماد تفرشه تحته، فلما طال عليها قالت: يا أيوب; لو دعوت ربك لفرج عنك.
فقال: قد عشت سبعين سنة صحيحا، فهل قليل لله أن أصبر له سبعين سنة؟
فجزعت من هذا الكلام”.
إنه صبْر من انقلبت مرارة الصبر في جوفه حلاوة، وأضحت شدة البلاء في حقه رخاوة وطلاوة ..
ومن هنا نفهم ما رواه ابن عساكر عن مجاهد أن الله يحتج يوم القيامة بسليمان عليه السلام على الأغنياء، وبيوسف عليه السلام على الأرقاء، وبأيوب عليه السلام على أهل البلاء”.
والغريب أن النبي المبتلى صبر، بينما نفذ صبر صاحبه الذي لم يستوعب الحكم والأسرار كما استوعبها أيوب عليه السلام.
حكم وأسرار:
لقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى يباهي الملائكة بعباده الواقفين في عرفة ..
وفي الوقت الذي نؤمن فيه بأن أسماء الله وصفاته وأفعاله موقوفة على الخبر؛ فإننا نجد في النصوص ما يدل على حب الله تعالى لمن يذكرونه شكرا عند النعمة وصبرا عند الشدة، وأنه سبحانه يذكرهم في الملأ الأعلى ويثني عليهم:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: “إذا أحب الله عبدا نادى جبريل: إن الله يحب فلانا فأحبه، فيحبه جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض“. [متفق عليه]
وعنه أيضا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي، وأنا معه حين يذكرني؛ فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منه، وإن اقترب إلي شبرا، تقربت إليه ذراعا، وإن اقترب إلي ذراعا، اقتربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة” [متفق عليه]
وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى قال: “عبدي إذا ذكرتني خاليا ذكرتك خاليا وإن ذكرتني في ملأ ذكرتك في ملأ خير منهم وأكبر“. [رواه البيهقي وصححه الألباني]
وعن معاذ بن أنس مرفوعا قال الله تعالى: “لا يذكرني عبد في نفسه إلا ذكرته في ملأ من ملائكتي، ولا يذكرني في ملأ إلا ذكرته في الرفيق الأعلى” [رواه الطبراني وحسنه الألباني]
فكيف بمن ابتلي فصبر وذكر الله ذكرا كثيرا؟؟
وكأني بأهل الابتلاء الصابرين الراضين؛ قد ذكرهم الله في الملأ الأعلى وباهى بهم ملائكته، ورضي سبحانه أن يراهم يقابلون البلاء بالرضا، ولا يزيدهم اشتداد البلاء إلا إيمانا وتسليما ..
وما ظنك بقلب لامست شغافَه هذه المعاني الجليلة، وخالطت مهجته هذه الحقائق الشريفة؛ لا شك أنه يجد للصبر لذة وللرضا نشوة ..
فلا جرم أن قال أيوب: “هل قليل لله أن أصبر له سبعين سنة؟”
فاللهم أكرمنا بقلب صابر ولسان شاكر ونفس راضية مطمئنة.
وهذا المعنى مما يدخل في قول نبينا عليه السلام:
“..ولمن ابتلي فصبر فواهاً” [رواه أبو داود وصححه الألباني]
قال العلماء: “قوله “فواها“: بالتنوين؛ اسم صوت، وضع موضع المصدر، سد مسد فعله، معناه التلهف، وقد يوضع موضع الإعجاب بالشيء والاستطابة له؛ أي: ما أحسن وما أطيب صبر من صبر، وقيل: معناه فطوبى له“اهـ
قال الطيبي رحمه الله: “ويجوز أن يكون (فواها) خبرا لمن، والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط، فعلى هذا فيه معنى التعجب؛ أي: من ابتلي فصبر فطوبى له“اهـ
خذلان ونكران:
إن عدم استيعاب حِكَم الله سبحانه في ابتلاء أصفياءه وعباده الصالحين؛ حمل أحد صاحِبَي أيوب على أن قال للثاني: “تعلم والله؛ لقد أذنب أيوب ذنبا ما أذنبه أحد من العالمين”!
والظاهر أن هذا الثاني تأثر هو بدوره بهذه الشبهة؛ ولذلك “لما راحا إلى أيوب، لم يصبر حتى ذكر ذلك له“.
ومع هذا كله؛ يبقى هذان الأخوان أفضل من أولئك الخاذلين الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: “فرفضه القريب والبعيد ..”.
وقد ذكر المؤرخون عن نبي الله أيوب؛ أنه كان كريما عظيم البذل، ويشير إلى ذلك قوله عليه السلام عن نفسه، ردا على الذين قالا: “لقد أذنب أيوب ذنبا ما أذنبه أحد من العالمين“.
قال أيوب: “لا أدري ما تقولان؟؟ غير أن الله تعالى يعلم أني كنت أمر بالرجلين يتنازعان، فيذكران الله فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما كراهية أن يذكر الله إلا في حق“.
ومع ما كان عليه أيوب من جود وكرم وإحسان في عبادة الله وإحسان للناس؛ فإنه لما ابتلي بمرض الجدري وصارت تنبعث منه رائحة كريهة؛ “عافه أهل بلدته وأوحشوا منه، وأخرج من البلدة وألقي على مزبلة خارجها، وانقطع عنه الناس، ولم يبق أحد يحنو عليه سوى زوجته وصاحبيه”.
قال أنس: “ألقي على مزبلة لبني إسرائيل تختلف الدواب في جسده”[1].
وهذا ابتلاء آخر؛ فإن من أشد ما يبتلى به المريض: خذلان محيطه له وتخليه عنه، وأعني المحيط بنوعيه؛ القريب ممثلا في الأسرة والأقارب، والبعيد؛ وهو الذي يمثله اليوم: المجتمع والدولة.
فالمجتمع بتركيبته المعاصرة ينبغي عليه أن يكفل مرضاه العاجزين أو على الأقل يعينهم بما يخفف الأعباء عنهم، وهو الواجب الذي ينبغي على الدولة أن تنظمه وتضع له الآليات والوسائل.
قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]
وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل: 90]
ويتأكد هذا الواجب في حق الأقارب؛ قال الله تعالى: {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الروم: 38]
وإن من أبشع مظاهر الظلم الاجتماعي؛ أن تقصر الدولة في المحاسبة والدعم والتوزيع العادل للثروات؛ حتى تضيع حقوق الضعفاء لصالح اللصوص الذين يحققون بفسادهم ثراء فاحشا، بينما لا يجد مئات المرضى ما ينفقون على التداوي والعلاج.
وقد تفتح لهم الدولة طريقا للدعم أو التكفل بمصاريف العلاج، لكن سرعان ما يقطعها عليهم المفسدون من أرباب الرشوة والمحسوبية.
ومن أقبح مظاهر الاستغلال البشع الذي يجب على الدولة أن تضع له حدا؛ استغلال “تجار الآلام” حاجة المريض؛ ومطالبته بمقابل مرتفع لعلاجه أو لتزويده بما هو مضطر إليه من دواء ونحوه، فيخضع تحت وطأة الضرورة لذلك الابتزاز القبيح ..
فهذا واقع مر ينبغي أن يعالج بتفعيل الرقابة والتسعير المشروع وخلق تنافس حقيقي وإحداث صناديق دعم من الزكاة وغيرها ..
وبهذه المناسبة؛ يحتم علي الواجب أن أشكر الدولة المغربية بقيادة جلالة الملك محمد السادس حفظه الله؛ على الخطوات المهمة التي تم اتخاذها في مواجهة تفشي فيروس ووباء كوفيد 19؛ بدءا بإحداث صندوق الدعم، وانتهاء بالتعجيل بتوفير اللقاح للمواطنين، بل والسعي لتصنيع هذا اللقاح ..
ثم إن صورة المجتمع تزداد قتامة؛ حين تفشو فيه ظاهرة خذلان ذوي القربى وتخليهم عن أقاربهم المرضى المستضعفين:
قال الشاعر:
وظلم ذوي القربي أشد مضاضة .. على المرء من وقع الحسام المهند
أشد مضاضة: أي أشد حرقة.
وقد شاهدنا في مجتمعنا من هذا الظلم ما يندى له الجبين؛ وكم في الملاجئ والمستشفيات من عجزة ومرضى تخلى عنهم أبناؤهم أو إخوانهم أو أعمامهم أو أخوالهم أو أبناء أعمامهم أو أبناء أخوالهم .. وهم قادرون على إعانتهم.
وهذا الخذلان من قطيعة الرحم، وهو ذنب عظيم:
عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “الرحم متعلقة بالعرش تقول من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله” [متفق عليه]
ومن الخذلان أيضا؛ خذلان الصاحب لصاحبه؛ فيعاشره في الرخاء والسعة ويتخلى عنه في البأساء والضراء:
ولا خير في ود امرئ متلون … إذا الريح مالت مال حيث تميل
جواد إذا استغنيت عن أخذ ماله … وعند احتمال الفقر عنك بخيل
فما أكثر الإخوان حين تعدهم … ولكنهم في النائبات قليل
إن مواساة المريض ونجدته بما ينفس عنه كربة أو يقضي له حاجة أو يدخل عليه سرورا؛ من أعظم الأعمال وأجل الأحوال:
عن ابن عمر أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله؛ أي الناس أحب إلى الله وأي الأعمال أحب إلى الله؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور يدخله على مسلم أو يكشف عنه كربة أو يقضي عنه دينا أو تطرد عنه جوعا، ولأن أمشي مع أخ في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد (يعني مسجد المدينة) شهرا، ومن كف غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رجاءً يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى تتهيأ له أثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام، وإن سوء الخلق يفسد العمل كما يفسد الخل العسل“[2].
وفي شعب الإيمان للبيهقي وحسنه الألباني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من أفضل الأعمال: إدخال السرور على المؤمن؛ تقضي عنه دينا، تقضي له حاجة، تنفس له كربة“.
وقد كان هذا من صفات نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم؛ حيث كان يزور المرضى ويبشرهم ويواسيهم.
عن أنس بن مالك قال: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعود المريض” [رواه ابن ماجه والترمذي في الشمائل]
قال في جمع الوسائل:
“أي: أي مريض كان؛ حرا أو عبدا، شريفا أو وضيعا، حتى لقد عاد غلاما يهوديا كان يخدمه، وعاد عمه وهو مشرك، وعرض عليهما الإسلام؛ فأسلم الأول، وقصته في البخاري.
وكان صلى الله عليه وسلم يدنو من المريض، ويجلس عند رأسه ويسأله عن حاله، ويقول: “كيف تجدك” أو “كيف أصبحت” أو “كيف أمسيت” أو “كيف هو“.
ويقول: “لا بأس عليك طهور إن شاء الله” أو “كفارة وطهور“.
وقد يضع يده على المكان الذي يألم، ثم يقول: “بسم الله أرقيك من كل داء يؤذيك الله يشفيك“.
وفي الصحيحين عن جابر: مرضت فأتاني النبي صلى الله عليه وسلم يعودني وأبو بكر، وهما ماشيان، فوجداني أغمي علي، فتوضأ النبي صلى الله عليه وسلم ثم صب وضوءه علي، فأفقت فإذا النبي صلى الله عليه وسلم ..
وعند أبي داود: “فنفخ في وجهي فأفقت”، وفيه أنه قال: “يا جابر لا أراك ميتا من وجعك هذا“.
وصح عند مسلم: “يجب للمسلم على المسلم ست“، وذكر منها: “عيادة المريض“.
فهو فرض كفاية خلافا لمن قال: بسنيته المؤكدة.
وصح: “أطعموا الجائع وعودوا المريض“.
وصح عن زيد بن أرقم: “عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجع كان بعيني”اهـ.
لكل مواس حد ينتهي إليه:
مهما كانت رحمة المواسي ودرجة مواساته للمريض؛ فإن له حدا ينتهي إليه ..
وقد رأينا كيف قال صاحب أيوب لأخيه: “تعلم والله لقد أذنب أيوب ذنبا ما أذنبه أحد من العالمين“!
وروى ابن أبي حاتم بسنده عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال: “كان لأيوب أخوان، فجاء يوما فلم يستطيعا أن يدنوا منه من ريحه، فقاما من بعيد، قال أحدهما لصاحبه: لو كان الله علم من أيوب خيرا ما ابتلاه بهذا”!
فجزع أيوب من قولهما جزعا لم يجزع مثله من شيء قط، فقال: “اللهم إن كنت تعلم أني لم أبت ليلة قط شبعانا وأنا أعلم مكان جائع فصدقني”، فصدق من السماء وهما يسمعان.
ثم قال: “اللهم إن كنت تعلم أني لم يكن لي قميصان قط وأنا أعلم مكان عار فصدقني”، فصدق من السماء وهما يسمعان ..
زوجة عظيمة:
تقدم قول زوجة أيوب رضي الله عنها: “يا أيوب; لو دعوت ربك لفرج عنك؟”
فقال: “قد عشت سبعين سنة صحيحا، فهل قليل لله أن أصبر له سبعين سنة؟”
فجزعت من هذا الكلام.
قال المؤرخون: “وكانت تخدم الناس بالأجر وتطعم أيوب عليه السلام”.
ثم إن الناس لم يكونوا يستخدمونها، لعلمهم أنها امرأة أيوب، خوفا أن ينالهم من بلائه أو تعديهم بمخالطته.
فلما لم تجد أحدا يستخدمها، عمدت فباعت لبعض بنات الأشراف إحدى ضفيرتيها بطعام طيب كثير، فأتت به أيوب، فقال: من أين لك هذا؟ وأنكره.
فقالت: خدمت به أناسا.
فلما كان الغد لم تجد أحدا فباعت الضفيرة الأخرى بطعام فأتته به، فأنكره أيضا، وحلف لا يأكله حتى تخبره من أين لها هذا الطعام؟
فكشفت عن رأسها خمارها، فلما رأى رأسها محلوقا قال في دعائه: “رب إنى مسنى الضر وأنت أرحم الراحمين“.
فانظر إلى هذه المرأة العظيمة؛ كيف ضحت إلى آخر “شعرة”، ومع ذلك وصلت إلى حد وقفت عنده مضطرة مكرهة ..
ألا كل شيء ما خلا الله باطل:
وهذا يعطي المريض درسا بليغا؛ يحمله على صدق التوكل على الله تعالى ويرشده إلى ضرورة قصر التعلق به سبحانه، وأن المعول عليه أولا وآخرا إنما هو الله عز وجل ..
قال الله تعالى: {وأن إلى ربك المنتهى} “أي: إلى الله المنتهى في كل حال؛ فإليه ينتهي العلم والحكم، والرحمة وسائر الكمالات”.
توكل على الله في النائبات … ولا تبغ فيها سواه بديلا
وثق بجميل صنيع الإله … فما عوَّد الله إلا جميلا
ومن هنا كان ذلكم التوجه من أيوب عليه السلام إلى ربه تبارك وتعالى.
الرضا التام:
ونسجل هنا؛ أنه لم يحفظ عن نبي الله أيوب أنه تكلم بكلمة تشم منها رائحة التسخط أو الجزع، وقوله: “مسني الضر“؛ دعاء وليس شكوى لغير الله ..
وقد يظن أنه بهذا كان أكمل من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إذ قال: “بل أنا وارأساه“.
وقد بدا لي جواب على هذا الإيراد؛ وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك تعليقا على عائشة حين اشتكت إليه بقولها: “وارأساه”، فقال: “بل أنا وارأساه“.
فهو نوع مواساة للتخفيف عنها بإظهار أن لها شريكا فيما تعاني منه ..
فإن مما يخفف على المبتلى؛ أن يعلم بأن له شريكا في بلائه؛ كما قالت الخنساء:
فلولا كثرة الباكين حولي … على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن … أعزي النفس عنه بالتأسي
يذكرني طلوع الشمس صخراً … وأذكره لكل غروب شمس
تحية إكبار وإجلال:
وهنا أجدني مدفوعا لتوجيه تحية إجلال إلى أولئك الصابرين الراضين الذين لا تكاد تسمع منهم شكوى لغير الله ..
قال لي أحدهم: “إذا كان الله أخذ منا شيئا فلقد أبقى لنا أشياء”.
وكان أحدهم لا يجيب السائل عن حاله بغير الحمد؛ كلما سئل قال: “الحمد لله”.
وثالث كانت الابتسامة لا تفارق محياه، وكأنه جعلها عنوان رضاه وتسليمه.
ورابع: يعتصره الألم فلا تسمع في تأوهه إلا: يا الله .. يا رب ..
قال العلماء: “لَا أحد من بني آدم إلاَّ وَهُوَ يألم من الوجع ويشتكي من الْمَرَض إلاَّ أَن المذموم من ذَلِك ذكره للنَّاس تضجراً وتسخطاً، وَأما من أخبر بِهِ إخوانه ليدعوا لَهُ بالشفاء والعافية وَأَن أنينه وتأوهه استراحة فَلَيْسَ ذَلِك بشكوى”.
دعاء وأدب:
لما رأى أيوب عليه السلام اشتداد البأس على زوجته؛ طلب العافية من ربه وحده لا شريك له، وكان دعاؤه الذي ذكره الله عنه محفوفا بالأدب مع الله: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء: 83]
وفي سورة “ص“: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص: 41]
قال المفسرون: “المس: الإصابة الخفيفة؛ والتعبير به حكاية لما سلكه أيوب في دعائه من الأدب مع الله؛ إذ جعل ما حل به من الضر كالمس الخفيف”.
قال في التحرير والتنوير (17 / 127):
“وفي قوله تعالى: {وأنت أرحم الراحمين} التعريض بطلب كشف الضر عنه بدون سؤال؛ فجعل وصف نفسه بما يقتضي الرحمة له، ووصف ربه بالأرحمية تعريضا بسؤاله، كما قال أمية بن أبي الصلت:
إذا أثنى عليك المرء يوما … كفاه عن تعرضه الثناء”اهـ
وقد راعى أيوب الأدب مع ربه أيضا في قوله: {مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} حيث لم ينسبه إلى الله ..
الفرج بعد الشدة:
وهنا يأتي الفرج بعد الشدة؛ مصداقا لقول نبينا صلى الله عليه وسلم: “واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا” [رواه عبد بن حميد في مسنده]
قال الله تعالى: {اركض برجلك}؛ أي اضرب الأرض برجلك، فأنبع الله له عينا باردة الماء، وأمره أن يغتسل فيها ويشرب منها، فأذهب الله عنه ما كان يجده من الألم والمرض ..
كما تقدم في أول هذه الدراسة؛ فإن البشرية لم تكتشف لقاح الجذري إلا في القرن الثامن عشر بعد ميلاد السيد المسيح عليه الصلاة والسلام؛ أما نبي الله أيوب فشفي بأمر الله تعالى الذي هو فوق الأسباب، ولا تتوقف إرادة الله تعالى على سبب أو قانون من قوانين الطبيعة التي خلقها جل وعلا: {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون}.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: “وكان يخرج إلى حاجته، فإذا قضى حاجته أمسكته امرأته بيده حتى يبلغ، فلما كان ذات يوم أبطأ عليها، وأوحي إلى أيوب أن {اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب}.
فاستبطأته، فتلقته تنظر وقد أقبل عليها قد أذهب الله ما به من البلاء، وهو أحسن ما كان (أي جمالا وبهاء).
فلما رأته قالت: أي بارك الله فيك؛ هل رأيت نبي الله هذا المبتلى؟ والله على ذلك؛ ما رأيت أشبه منك إذ كان صحيحا“.
فقال: فإني أنا هو“.
قال المؤرخون: “وأخلف الله له أهله؛ كما قال تعالى: {وآتيناه أهله ومثلهم معهم} فقيل: أحياهم الله بأعيانهم، وقيل: آجره فيمن سلف، وعوضه عنهم في الدنيا بدلهم وجمع له شمله بكلهم في الدار الآخرة.
وقوله تعالى: {رحمة من عندنا} أي رفعنا عنه شدته، رحمة منا به ورأفة وإحسانا.
{وذكرى للعابدين} أي تذكرة لمن ابتلي في جسده أو ماله أو ولده، فله أسوة بنبي الله أيوب; حيث ابتلاه الله بما هو أعظم من ذلك فصبر واحتسب حتى فرج الله عنه.
إكرام وبركة:
قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديثنا: “وكان له أندران (أي بيدران، والبيدر خزان كبير): أندر للقمح وأندر للشعير، فبعث الله سحابتين، فلما كانت إحداهما على أندر القمح أفرغت فيه الذهب حتى فاض، وأفرغت الأخرى في أندر الشعير الورِق (الفضة) حتى فاض“.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “بينما أيوب يغتسل عريانا خر عليه رجل جراد (أي جماعة جراد) من ذهب، فجعل أيوب يحثي في ثوبه.
فناداه ربه عز وجل: يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى؟ قال: بلى يا رب، ولكن لا غنى لي عن بركتك” [رواه البخاري]
قال الحافظ ابن كثير: “عاش أيوب بعد ذلك سبعين سنة بأرض الروم على دين الحنيفية، ثم غيروا بعده دين إبراهيم”.
وقد ذكر ابن جرير وغيره من علماء التاريخ أنه أوصى إلى ولده “حومل”، وقام بالأمر بعده ولده “بشر” ابن أيوب، وهو الذي يزعم كثير من الناس أنه “ذو الكفل” والله أعلم..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] قصص الأنبياء (1 / 363).
[2] أخرجه الطبراني في المعجم الكبير وصححه الألباني.
مسألة أن نبي الله أيوب عليه السلام قد ألقي في المزبلة هذا خبر غير مسند نعم ذكره الطبري و إبن كثير رحمهما الله ولكن لم يسنداه أي لم يصح هذا الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يحسن إطلاقه على أيوب عليه السلام