العبادة بين التشريف والتكليف
هوية بريس – د. عبد الله الشارف
جمعني بمكة المكرمة قبل ست سنوات، لقاء بشابين طالبين باحثين فاضلين: عبد الله الغامدي، وعُبادة الكيلاني. وبينما نحن نتحدث في موضوع الإيمانيات، إذ توجهت بالكلام إلى عبادة قائلا:
ما أجمل “عبادة” أهل الجنة !! فرد علي: لا عبادة في الجنة.
فقلت: يا عبادة؛ العبادة نوعان: عبادة تكليف، وعبادة تشريف. الأولى في الدنيا والثانية في الجنة. ومن الأدلة على وجود الثانية، قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه عن أهل الجنة: “ويُلهمون التسبيح كما يُلهمون النفس”. أو ليست هذه عبادة يا عبادة؟
إن الله قد أكرم أهل الجنة بكل أنواع النعم، ولولا أن التسبيح من أجل النعم، لما ألهمهم إياه كما ألهمهم النَّفَسَ. وإذا كان الله عز وجل يقول في كتابه العزيز: “وإن من شيء إلا يسبح بحمده”، فكيف يستثني عباده المكرمين في الجنة ويحرمهم هذه النعمة؟
إن الآية تفيد أن كل شيء يسبح أي يعبد الله، فالتسبيح إذن عبادة، وما دام أن أهل الجنة يسبحون فإنهم يعبدون الله. بيد أن عبادتهم هذه ملهمة وخارجة عن إرادتهم إن صح التعبير.
وبما أن أهل الجنة انتقلوا من دار التكليف إلى دار النعيم، فإن الله قد أسقط عنهم عبادة التكليف، وأكرمهم بالعبادة الكونية؛ أي أنهم قد انتظموا في سلك قانون التسبيح الكوني الأبدي، وغدا كيانهم يلهج بالتسبيح، وهم في الوقت نفسه يتنعمون بنعم الجنة، ويتناولون ما يشتهون على سرر متقابلين، ولله في خلقه شؤون.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “ولهذا يكون اشتغال أهل الجنة بذلك أعظم من كل شيء كما في الحديث: “إن أهلَ الجنةِ يُلهمُون التسْبيحَ كَمَا يُلهَمُونَ النَّفَس” (رواه مسلم) وهو يبين غاية تنعمهم بذكر الله ومحبته”(الفتاوي ج 10).
فهذا نعيم لا يشغلهم عنه ولا يلهيهم ما بين أيديهم من النعيم المخلوق لأن لذّته أعظم مما هم فيه.