إلى سلطان المحراب.. “رسالة محب لأئمة التراويح”
هوية بريس – نور الدين درواش
إن أئمة التراويح هم أنوار الهدى ومصابيح الدجى، ومنارات الخير… يشنفون مسامع المؤمنين بآيات الذكر الحكيم، ويبلغون رسالة ربهمإلى العباد، فهم زينة المساجد وسلاطين المحاريب وتاج الأمة وفخرها، فما أعظم أثرهم على الناس. رفعهم الله بالكتاب ، وحببهم إلى العباد.
كان الله في عونكم يا معشر أئمة التراويح فإن المسؤولية عليكم جسيمة والحمل ثقيل، والأمانة كبيرة… أسأل الله لكم جميعا العون والتوفيق والسداد والإخلاص والقبول.
ولتسمحوا لي أحبتي ببعض الملاحظات والتنبيهات التي أرجو أن تتفضلوا بتقبلها بقبول حسن، إذ الغرض منها هو الارتقاء برسالتكم الربانية في رمضان، بما يعود بالخير عليكم وعلى المصلين خلفكم بل وعلى الأمة كلها في الدنيا والآخرة:
1- أنصحكم أحبتي بالإخلاص، وإفراد الله بالقصد و دوام معالجة النية ودفع نواقض الإخلاص والاستعانة بالله سبحانه وتعالى على دفع العجب والرياء قال سفيان الثوري: “ما عالجت شيئًا أشد عليّ من نيتي؛ لأنها تتقلب عليّ” [جامع العلوم والحكم]
فما أشد أن يتعب الإنسان في حفظ القرآن وتعلم العلم وتعاهد ذلكوتبليغه ثم يقال له يوم القيامة”تَعَلَّمْتَ العِلْمَ لِيُقالَ: عالِمٌ، وقَرَأْتَ القُرْآنَ لِيُقالَ: هو قارِئٌ، فقَدْ قيلَ، ثُمَّ أُمِرَ به فَسُحِبَ علَى وجْهِهِ حتَّى أُلْقِيَ في النَّارِ” [رواه مسلم].
2- عليكم بتعظيم ما يقرأ بين يدي الله في المحاريب والعناية به من جهة حسن الأداء كالعناية بما تقرأون على شيخ الإجازة بل أشد من ذلك… ولا أقصد درجات سرعة القراءةبما أنتم أعلم بمدى قبوله والترخيص فيه ودرجاته تحقيقا أو تدويراأوحدرا حسب ما يناسب الصلاة وما تمليه قواعد القراءة وضوابط فن الأداء… ولكن أقصد كل القواعد وبخاصة مراعاة مواضع الوقف والابتداءوالسكت، حسب ما قيده السمع والرواية، والمدود وغيرها من أحكام القراءة التي أنتم -في الغالب الأعم- أعلم بها وأنتم مصدر الأمة في تعلمها وتعليمها، كما أنصح بعدم مراعاة النغم والمقامات على حساب قواعد التلاوة.
3- كما أنصح بعدم التفريق من جهة تحسين التلاوة ومراعاة أحكام أدائها بين ما يسجل ويعد للنشر والإذاعة، وبين ما لا يسجل ولا ينشر ولا يعرض على شيخ، لأن كثرا من القراء إذا علم أنه غير متابَع ولا مسجل ولا مُذاع فإنه يتهاون في تحسين تلاوته. فحسبك أيها الإمام المبارك أنك تقرأ بين يدي ملك الملوك، وهمساتُك فضلا عن تلاوتك مسجلة مدخرة ليوم العرض على الله. (مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ). ومن علامة الإخلاص عدم مراعاة الناس والإقبال على الله بالصفة التي ترضيه سبحانه وتعالى.
4- عدم المبالغة في التخفيف والتقليل من المقروء في شهر القرآن فإن المغاربة كانوا إلى عهد قريب يقرأون بربع في الركعة ويختمون مرتين في الشهر وبخاصة في البوادي، ثم خففوه لثمن في الركعة ليختموا مرة واحدة، ولم ينزل بعض القراءلنصف ثمن في الركعة إلا عند تأخر العشاء واشتداد الحر لما كان رمضان في الصيف في العقد الماضي حيث النهار أقصى طولا والحرارة أقسى ارتفاعا و يا ليتهم ما فعلوا فقد سنوا سنة صَعُب تركها إلى الآن ولو مع برودة الجو وقصر النهار لم يعد كثير منالأئمة للثمن ولو فعلوا لكان في ذلك خير عظيم للمصلين، فعلة التقصير زالت والحمد لله.
5- المبالغة في الإسراع في الركوع والسجود وفسح المجال للمصلين لتسبيح الله وتعظيمه والثناء عليه، ومناجاته وحسن سؤاله ودعائه والتضرع إليه في صلاة القيام فهذا من أعظم ما يغتنم في هذه الليالي العظيمة المباركة.
6- عدم الالتفات لضغط الناس المبالغين في طلب التخفيف وقد شرع الجلوس في النافلة توسيعا في الترخيص للمتعب فضلا عن المريض والشيخ والعاجز، فلا يُحرم الشباب والأصحاء وهم الأكثرون، بسبب عدم المبالغة في السرعة وعدم التمكين للركوع والسجود، مع أن الواقع يبين أن العجزة والشيوخ أصبر وأشد تحملا في الغالب وكلكم ترونهم في الحرمين يصلون القيام والتهجد ويثبتون في وقت ينصرف فيه مع الأسف كثير من الشباب بل رأيناهم وما نزال في أكبر مساجد المغرب يصلون خلف مشاهير الأئمة والقراء الذين لا ينقص أكثرهم عن الثمن في الركعة.
7- لقد صليت في كثير المساجد الممتلئة التي لا ينقص أئمتها في قيامهم عن ثمن في الركعة والناس متحملة ومعجبة ومسرورة بأجواء القيام الربانية خاصة وأنهم قد حرموا منها لسنتين متتاليتين بسبب ظروف الوباء، فلا داعي للإسراع المبالغ فيه.
8- ينبغي فهم النصوص الآمرة بالتخفيف على ضوء السنة الفعلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة والسلف، في رمضان وفي غيره. بل وفي الفريضة فإن النبي صلى الله عليه وسلم كما تحكي السيدة عائشة –رضي الله عنها- كان “يصلي أربعاً فلا تسل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعاً فلا تسل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثاً” [متفق عليه] وهي رضي الله عنها تحكي عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان “يمكُثُ في سُجودِهِ قدرَ ما يقرأُ أحدُكُم خَمسينَ آيةً قبلَ أن يرفعَ رأسَهُ” [رواه أبو داود] ويحكي السائب بن يزيد أنه على عهد عمر رضي الله عنه “كَانَ الْقَارِئُ يَقْرَأُ بِالْمِئِينَ حَتَّى كُنَّا نَعْتَمِدُ عَلَى الْعِصِيِّ مِنْ طُولِ الْقِيَامِ” [الموطأ]. ونحن جميعا لا نقوى على هذا ولا نطالب به، ولا نطمع به؛ لكن القصد أن مناقشة التخفيف ومفهومه في السنة تكون على ضوء السنة العلمية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الخلفاء وغيرهم رضوان الله على الجميع.
9- إن صلاة القيام وسماع القرآن من أعظم ما يؤثر في الناس ويدعوهم للتوبة والإنابة وبسببه تزكو النفوس وتصلح القلوب وتهذب الأخلاق، وسماع كلام الله من مقاصد الصلاة والقيام وهو خير من كثير المواعظ فاستكثروا يا رعاكم الله من فرص هداية الناس بالسماع القرآني المبارك ليكون التائبون المنيبون وأعمالهم في موازين حسناتكم لدلالتكم إياهم على الهدى والخير والصلاح.
10- إياك أخي الإمام وتكلف البكاء واستجلابه، بما يشوش على المصلين ويَذهب بالخشوع، وبخاصة إذا كان في بعض المَواطن التي لا يناسبها البكاء والتباكي، فإن غلبك البكاء فادفعه واكتمه قدر ما تستطيع فهذا أدعى للقبول وأحفظ للإخلاص، فإن خنقتك العَبرة ومنعتك من القراءة السوية بحث طغى الصراخ والنحيب والبكاء على الحروف وحُجبت القراءة؛ فاركع لتستأنف القراءة السليمة في الركعة الموالية.
11- لقد تسبب التخفيف المبالغ فيه في عدم تمكن الأئمة من ختم القرآن في القيام، إذ بعضهم يكتفي بقراءة الشطر الأول من القرآن وبعضهم –وهو الأغلب اليوم- يقرأ جزءا ويقفز على آخر وهذا أمر جائز؛لكن استحب كثير من العلماء ختم القرآن في قيام رمضان ولم يوجبوا ذلك ولا ألزموا به، فمن تيسر له المرور على القرآن كاملا في صلاة التراويح فحسن، ومن لم يتمكن من ذلك فليس عليه شيء.
وبغض النظر عن الخلاف في مشروعية دعاء ختم القرآن من عدمها؛ وهل يشرع الإتيان بدعاء الختم أم لا ؟ وهل يكون داخل الصلاة أم لا؟ وهل يجوز في ركعات الشفع أم لا بد أن يكون في الوتر في محل القنوت…؟
بغض النظر عن ذلك كله؛ أنبه إلى أنه ليس من الصدق ولا من الأمانة ولا من بواعث الإخلاص، أن يؤتى بدعاء الختم في قيام مسجد لم يتيسر فيه الإتيان بالقرآن كاملا في التراويح من قبل الأئمة وإن تعددوا في التراويح الأولى والثانية (التهجد). ففي القنوت الوتري الوارد في السنة مندوحة وغنية عن تكلف التظاهر بالختم غير الصادق، مع النصح بعدم المبالغة والإطالة في دعاء القنوت والخروج به عن الصفة النبوية ذات الأدعية القصيرة الجامعة من غير تكلف ولا تقعر ولا صراخ ولا ضجيج.
12- ومما يحسن التنبيه عليه من الأخطاء؛ تكاسل كثير من الأئمة بعد ليلة السابع والعشرين أو بعد ليلة الختم فيترك بعضهم القيام ويتغيب بعضهم ويبالغ في التقصير أكثرهم وهذا يناقض اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم في كل ليالي العشر استمرارا في تحري ليلة القدر.
13- مهما بلغ المرء في الضبط والحفظ والإتقان للقرآن؛ فإنه أحيانا يسقط أو يُغلق عليه أو يخطئ وإن كبار الحفاظ يخطئون في المحارب في مواضع لا تكاد تقبل، لكن هيبة المحراب لا يعرفها إلا من جربها… والقرآن ” أشَدُّ تَفَلُّتاً مِنَ الإبلِ فِي عُقُلِهَا” [متفق عليه]. فيحتاج الإمام في هذه الأحوال إلى من يفتح عليه ممن يليه من الحفظة المتقنين وفق آداب الفتح على الإمام، وليس في ذلك منقصة لإمام ولا حافظ، فهذا المسور بن مخرمة يقول: ” شَهِدتُ رَسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ يقرأُ في الصَّلاةِ فترَكَ شيئًا لم يقرَأهُ، فقالَ لَه رجُلٌ: يا رسولَ اللَّهِ ترَكتَ آيةَ كَذا وَكَذا، فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ:”هلَّا أذكَرتَنيها” [رواه أبو داود].
فمن تعظيم القرآن وإجلاله وصيانته عن التحريف والتغيير استعانة الإمام بمن يفتح عليه من الحفظة ولا ينبغي التضجر من ذلك ولا التسخط فجل من لا ينسى ولا يخطئ، وأقبح من ذلك وأشنع ما يعمد إليه بعض الحفظة من التواطؤ بينهم على عدم الفتح والتصحيح حتى لا ينقص مقدار الإمام وضبطه في أعين الناس.
هذه توجيهات أخوية ونصائح ودية أضعها بين يدي إخواني وأحبتي أئمة التراويح ويشهد الله أني لا أرجو منها إلا الخير لهم وللامة في العاجلة الآجلة.
(وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰمَا أَنْهَىٰكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا ٱلْإِصْلَٰحَ مَا ٱسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِى إِلَّا بِٱللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ).