أسس ومنطلقات في بناء الأسرة المسلمة
هوية بريس-الدكتور محمد شاكر المودني
بسم الله الرحمن الرحيم
تعتبر الأسرة في المنظومة الإسلامية وحدة اجتماعية غاية في الأهمية، ولبنة أساسا من لبنات المجتمع الإسلامي إن لم تكن أهم لبناته، صلاحه في صلاحها، وفساده في فسادها، وكلما تماسكت اللبنات جيدا كلما قوي البناء واستقام، وكلما انتظمت هذه اللبنات كلما ازدان البناء، وصار صرحا متماسكا شامخا، وحصنا حصينا منيعا راسخا…
إن الأسرة في التصور الإسلامي ومنظومته التشريعية كانت دائما بمثابة وحدة ومؤسسة اجتماعية تمارس دورها في التنشئة الاجتماعية، تشيع قيم الخير والإيجابية، وتبثها في أفراد المجتمع.. بل إن المتأمل في منظومة قيم الأسرة في القرآن الكريم سيجدها تركز –في الغالب- على أدوار الأسرة باعتبارها مؤسسة لإنتاج وإعادة إنتاج القيم.. كما أنها حافظت على مر تاريخ الأمة الإسلامية وفي مختلف ظروفها -بما فيها تلك التي تعرضت فيها أمة الإسلام إلى القصف القيمي الشديد، وسهام المسخ “الهوياتي” العنيف- على الخصوصية الحضارية للأمة، والبصمة “الهوياتية” لأفرادها، بالعمل على إنشاء التدين في أبناء الأمة، والعمل على ضمان استمراره، فكانت بحق حصنا منيعا وقلعة صامدة تكسرت على جدرانها كل سهام العدو، وردت كل أفهامه ونظرياته المضللة، بما حفظ أبناءها من كل استيلاب وقابلية للإلحاق والتبعية ردحا من الزمن، فحفظت فطرة الإنسان (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [الروم: 30]، وحفظت وجوده الآدمي وكرامته الإنسانية إلى حد كبير..
إن تحولات قيمية كبيرة تعرفها الأمة الإسلامية مع زحف النموذج الاجتماعي الغربي كما أكد البحث الوطني حول القيم (ENV2004) الذي أنجز بمناسبة الإعداد لتقرير الخمسينية وهو يتحدث عن المغرب كنموذج، إذ جاء فيه: “فالواقع القيمي ليس متماسكا، بل يعكس صراعا بين القيم التقليدية والقيم الحديثة”[1].
كما أن الأسرة المغربية -ومثلها الأسرة المسلمة في كل بلاد- تعرف تحولات اجتماعيةً عميقة، بنية ووظيفة، لشدة الضربات السوسيو- ثقافية، والهجمات السياسية والقانونية، معززة بواقع دولي غالب، ومدعومة بضغط الواقع الاقتصادي الزاحف…
وإذا استطاعت الأسرة ببنيتها الاجتماعية وخصوصيتها الثقافية ووظيفتها التحصينية والحضارية أن تحمي فطرة الإنسان وتصون آدميته فيما مضى..
فهل هي اليوم قادرة على ممارسة تلك الأدوار الحضارية كما في السابق؟
كيف السبيل إلى إعادة الاعتبار لأسرنا اليوم؟
ما هي أهم الأسس والمنطلقات التي ينبغي اعتبارها عند بناء الأسرة المسلمة لتكون صرحا شامخا قادرا على الاضطلاع بمهامه والقيام بأدواره؟
هذا ما سنحاول الإجابة عنه بحول الله في هذه الورقة البحثية…
أسس ومنطلقات في بناء الأسرة المسلمة
إن بناءَ الأسرة المسلمة التي ننشدها لا يمكن أن يستويَ بَلْه أن يعجب الناظرين ويرضي المتطلعين إلى مستقبل إسلامي حضاري متميز، إلا إذا أقيم صرحه على أسس متينة ومنطلقات سديدة، بيانها كالآتي:
- الأساس التعبدي:
يقول تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات: 56] ومعلوم أن لفظ “الإنس” في الآية جامع للذكور والإناث حال الانفراد أو الاجتماع، وما الزواج وبناء الأسرة إلا صورة من صور الاجتماع بين رجل وامرأة…
ومن ثم وجب العمل على عبادة الله تحققا وتحقيقا، تمثلا ودعوة، ومنطلقا وغاية…
ومثله قوله تعالى: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) [يس: 60- 61]، فالمطلوب إذن قيام الأسرة على أساس تعبدي واضح يصير معه بيت الزوجية بيت صلاح، ومدرسة لتخريج الصالحين؛ مشاتل الصلاح في المجتمع.. لا بيت بهيمة فحسب، يأكل أهله كما تأكل الأنعام، همه الأول قضاء شهواته وتحقيق متعه الدنيوية الزائلة، قال تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ) [محمد: 12]، فضيعوا الأمانة وخانوا العهد…
إن الزواج ليس مصالح وامتيازات دنيوية، ولا حسابات ربح وخسارة مادية -كما هو واقع كثيرين اليوم- بل هو أساسا امتثال لأمر الله تعالى، واستجابة للفطرة البشرية، وتحقيق لمقاصد الشريعة الإسلامية، وعلى رأسها حفظ النسل والنوع البشري، ووعي بأهمية هذه الخطوة في مسار تحقيق غاية الوجود الإنساني، وأداء لوظيفته الاستخلافية…
إن المتأمل للقرآن الكريم سيلحظ مدى الارتباط بين الحياة الأسرية أو العلاقة الزوجية وبين الإيمان والعبادة وأداء الواجبات العبادية المختلفة، بل حتى عند تعثر الحياة الزوجية واستحالة استمرارها وجدنا آيات الطلاق في سورة البقرة يتخللها مثلا قوله تعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) [البقرة: 238]، فالعبادة لا تفرق بين وضع ووضع، فكما هي في الصلاة، كذلك في العلاقة الزوجية، وكذلك عند توقيف هذه العلاقة، وهكذا…
وحين تقف مع مثل قوله تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) [الأنعام: 162 – 163]، تعلم يقينا أن قبلة المسلمين واحدة، وهي الله تعالى، وإنما نولي وجوهنا شطر المسجد الحرام في الصلاة لأن الله أمرنا بذلك، وإلا فإن الأصل (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) [البقرة: 115]، فكل أفعال المسلم بل حياته كلها لها وجهة واحدة.. والأسرة ينبغي أن تتأسس على هذا المعنى (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) [يونس: 87] بكل دلالات القبلة ورمزيتها التي تختزن القيم التوحيدية في مؤسسة الأسرة. وحين تنضبط العلاقة الزوجية لمنهج الله، وتتأسس الحياة الأسرية على قيمة العبادة، تتغير معها فلسفة الوجود، ونظام الحياة، ووظيفة الأسرة، لتنفتح على أبواب الإعمار ومداخل التدافع.
- الوعي بالوظائف والمقاصد:
وحين تتأسس الأسرة على هذا الوعي بطبيعتها ووظيفتها ومقاصد وجودها، وتستحضر مقصد الاستخلاف والإعمار والإحصان والتحصين وغيرها من الوظائف والمقاصد الكلية خاصة، يحضر الوعي بالمسؤولية التاريخية والحضارية، ويحضر الوعي بأهمية خطوة بناء أسرة في مسيرة استخلاف الإنسان في هذه الأرض، وثقل الأمانة التي كلفه الله بها… وقد بينت في مطلع هذا البحث مدى أهمية الأسرة في مسيرة البناء والإعمار والصلاح والإصلاح إنشاء للتدين في نفوس أبناء هذه الأمة، وزرعا لبذور استمرار التدين والصلاح في قلوبهم. بما يضمن إعداد إنسان الاستخلاف، وأداءه لمهامه الحضارية.
ولعل في حديث أبي هريرة الصحيح والمعروف ما يختزن هذا المعنى، فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: “كلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ علَى الفِطْرَةِ، فأبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أوْ يُنَصِّرَانِهِ، أوْ يُمَجِّسَانِهِ”[2]، فأوكل وظيفة حفظ فطرة الإنسان إلى الأبوين بما يجلي قيمة الأسرة وأهميتها وخطورة وظيفتها، ذلكم أن الفطرة هي أمانة هذا الدين كله، كما يجلي ذلك قوله تعالى: (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [الروم: 30]، فالفطرة هي الدين القيم، (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ) [آل عمران: 19] والطفل حين يولد يولد على فطرة الإسلام، ولكن الأبوين يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه…ولم يقل (يؤسلمانه) لأنه ولد كذلك، على الفطرة، والأسرة إما أن ترعى هذه الفطرة وتحفظها، وتنمي كل نوازع الخير في الطفل، وتنشئه على قيم الصلاح والعطاء والإيجابية، بما يجعل الأسرة بابا ومدخلا للإعمار، وإما أن تسهم في تلويث فطرته وتحريف وجهته.. والمولود مشروع إحياء..
- الرسالية: من الصلاح إلى الإصلاح:
“فاقد الشيء لا يعطيه”، و”كل إناء بما فيه ينضح”، إن أسرة تفتقد إلى صلاح أفرادها ومكوناتها لا يمكن أن تكون مصلحة، والأسرة التي تفتقد إلى الإيجابية لا يمكن أن تكون إيجابية وتبث نفسا إيجابيا في المجتمع.
كما أن أسرة يفتقد أفرادها إلى التوازن الذاتي لا يمكن إلا أن تكون عنصر اضطراب وتشويش داخل المجتمع…
إن أول خطوة في الطريق الصحيح نحو بناء أسرة سليمة، هو صلاح طرفيها الأساسيين الزوج والزوجة، فإذا ما تم أرخى صلاحهما بظلاله على الأبناء، واستنارت الأسرة كلها، وأثمر الصلاح بركات وثمارا، كما قال تعالى: (وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) [الكهف:82]، وقال أيضا: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) [الأنبياء: 90].
وحين يتحقق صلاح الأسرة يمكن الحديث عن إصلاحها وإسهامها في إشاعة الصلاح في المجتمع…
إن وظيفة الإنسان في الحياة تتجاوز صلاحه الذاتي إلى انخراطه في نشر الصلاح وقيم الخير في المجتمع بنفس رسالي وهمة عالية، قال تعالى: (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) [الأعراف: 170]، ولعل المصطلح المناسب لهذا الوضع هو مصطلح “الرسالية” وهو الذي صار اليوم متداولا وحاضرا بشحناته الدلالية القوية؛ ذلك أن مادة “رسل” في اللغة تتضمن معاني[3]:
- الإرسال والتوجيه (البعد التواصلي).
- السير السهل المنظم (جماعة جماعة لا دفعة واحدة) المتضمن لحركية.
- الانبعاث والامتداد.
- السكون والثبات والطمأنينة.
- التفهم والترفق.
ونستنتج من ذلك كله أنه لا رسالية إلا بتوفر شروط في الأسرة الرسالية:
أولها: الإرسال والتوجيه بما في ذلك من معاني التواصل والبلاغ، والعمل على إصلاح النفوس والمجتمعات، ومن هنا كان الإحصان والتربية من أهم مقاصد الأسرة.
ثانيها: العمل المسترسل والمنتظم؛ إذ عمل الأسرة تنبغي فيه الاستمرارية والتخطيط والتنظيم، بلا فوضى ولا إهمال…
ثالثها: الانبعاث والامتداد، إذ تنبعث الأسرة الرسالية لتَقوم بمهامها الحضارية، تضخ دماء الحياة في المجتمع بنفس من الاستمرارية والصمود والامتداد والقصدية…
رابعها: السكون والثبات والطمأنينة، فتؤدي الأسرة مهامها على أساس من الطمأنينة ووضع من الاستقرار، فلا تزل قدمها بعد ثبوت..
خامسها: التفهم والترفق، حيث تحرص الأسرة في مسيرتها العمرانية وهي تبني الإنسان وتُقوم المجتمع على أن تتسلح بمعاني التفهم والترفق بين مكوناتها، أولا بما يضمن تماسكها، ثم في انفتاحها على محيطها ومع مختلف من تتفاعل معهم، وتقوم بواجباتها الإحيائية تجاههم بما يكفل تأثيرها وفاعليتها..
ومن هنا نقول إن من أهم أسس بناء الأسرة المسلمة السليمة تأسيسها على الصلاح، وانطلاقها سعيا وضربا في الأرض من منطلق الرسالية بكل ما تحمله من دلالات وامتدادات كما أسلفنا، فنجد بحضور هذا الأساس المتين أننا بصدد أسرة -فضلا عن وعيها بوظائفها ومقاصدها واستشعارها لعظم مسؤوليتها وأهمية رسالتها- تحسن ترتيب أولوياتها، تعيش بهمة عالية وطموح دائم، شغوفة بالتحليق وتكره الإسفاف، تتقاسم الهموم وتتعاون على النجاح، تتشارك المرح وتحرص على البقاء على قيد الفرح، تقاوم الكآبة والرتابة وتدافع الآلام والأحزان… تعيش الحاضر وعينها على المستقبل، تعمل لدنياها وتتطلع لآخرتها…تلكم هي الأسرة الرسالية، التي نقصدها.
- الارتباط الزوجي الموفق:
ومن الأسس كذلك بناء الأسرة على قدر كبير من التوافق بين الزوجين، فكلما كان الاختيار موفقا لشريك الحياة، مستحضرا لمقاصد بناء وتأسيس هذه المؤسسة الاجتماعية المهمة، كلما أمكننا الحديث عن أسرة مسلمة ناجحة فاعلة في محيطها…
ويستوقفني هنا ما يلي:
أولا: قوله تعالى: (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ) [البقرة: 187] وهو تعبير قرآني بديع، استعمل لفظ اللباس بكل ما يفهم منه من معاني الستر والحماية والوقاية، وللصيف لباسه المناسب الذي يدفع الحر، وللبرد لباسه المناسب الذي يغالب القر، كما أن لكل لباسه المناسب لمقاسه، والذي يضفي جمالا على صاحبه، فإذا لبس شخص لباس غيره غير الموافق لمقاسه نفرت العين واشمأزت النفس، والزوجة لباس لزوجها وهو لباس لها، جماله من جمالها وجمالها من جماله، وكلما كان التوافق الفائق تجلى الذوق الرائق.
وثانيا: قوله صلى الله عليه وسلم: “تُنْكَحُ المَرْأَةُ لأرْبَعٍ: لِمالِها، ولِحَسَبِها، وجَمالِها، ولِدِينِها، فاظْفَرْ بذاتِ الدِّينِ، تَرِبَتْ يَداكَ”[4] وفي رواية أحمد “فعليكَ بذاتِ الدِّينِ والخُلُقِ ترِبتْ يمينُكَ”[5].
والخلق من الدين، ولكن إفراده بالذكر له دلالته؛ فأول ما ينبغي الحرص عليه في الارتباط الزوجي الموفق والذي سيؤسس لأسرة سليمة وناجحة هو الدين، وضمانته الخُلق، فليس الدين بالمظاهر، ومن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الدين، وصاحب الأخلاق الحسنة أقرب الناس منزلا من الرسول صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، لأنه أكثر الناس استيعابا لرسالته عليه السلام، وأكثر الناس مجاهدة لنفسه لتمثلها، وقد قال عليه السلام: “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”.
وكما يطلب من الرجل الحرص على ذات الدين والخلق، كذلك المرأة ينبغي أن تحرص من بين كل من تقدم لخطبتها والاقتران بها على صاحب الدين والخلق، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: “إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ، وَفَسَادٌ عَرِيضٌ”[6].
فالحرص على الدين والخلق أول خطوة في طريق النجاح في بناء الأسرة، ثم تأتي قضايا الجمال والمال والنسب والحسب مكملات في سلم التوافقات وضمانات إضافية لمزيد استقرار أسري.
ولعل مسألة الجمال فيها من النسبية ما فيها، ومبناها أساسا على الذوق، والأذواق تختلف؛ فما قد يروق أحدا قد لا يروق غيره، وهكذا، ولهذا دعى النبي صلى الله عليه وسلم إلى نظر المرء إلى من سيقترن بها حين قال: “اذهبْ فانظرْ إليها فإنَّه أحْرى أنْ يؤدمَ بينكُما”[7]، فنظر كل طرف إلى صاحبه أدعى إلى الاطمئنان، واتخاذ القرار الصائب إقبالا أو إدبارا، موافقة أو معارضة…
ولعل النظر هنا يتجاوز مجرد النظر بالعين -المنضبط بضوابط الشرع- إلى مطلق النظر الذي يمكن أن يؤسس لتحقيق مقصد التعارف، كما قال تعالى: (يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) [الحجرات: 13]، حيث تجاوز الجسد والمظاهر إلى العمق والمخبر، وهنا نحتاج إلى تجاوز البصر إلى البصيرة، وإلى أعمق من نظر العين الجارحة إلى النظر العقلي والروحي الذي يدفع إلى الاقتناع والاطمئنان، ويحقق المقصد من النظر “فإنه أحرى أن يؤدم بينكما”.
فالاختلاف والتنوع في الاجتماع البشري عموما وبين الذكر والأنثى على وجه التخصيص، واقع أقره القرآن الكريم، وقرر أن غايته هو “التعارف” بما في اللفظة من التداخل الذي لا يناسب أن يكون من طرف واحد، لأن المسؤولية مشتركة، وتبعات القرار يتحملها كل واحد.
وأخلص من كل ما ذكرت إلى أن الاختيار الموفق لشريك الحياة وبناء أسرة سليمة وناجحة لا يكون إلا باستحضار خطوات، والعمل ما أمكن على تحقيق توافقات[8]، أهمها:
- التوافق على مستوى الدين والخلق.
- التوافق الثقافي والاجتماعي.
- التوافق العلمي والفكري.
- التوافق على مستوى الاهتمامات والطموحات.
- ثم يتوج بالتوافق على دستور أخلاقي.
- بناء الأسرة على القيم الإيجابية:
لنتأمل هذه الآية أولا، قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الروم: 21] ففي هذه الآية ارتبط الزواج بقيمتي المودة والرحمة، بدل منطق التعاقد المادي؛ إذ قد نوفر كل الشروط المادية لبناء أسرة، ونلتزم بكل الأحكام الشرعية والقوانين المنظمة والشروط المطلوبة من (صداق، وحضور ولي، وشهود… وغير ذلك)، ولكن لا يتحقق مقصد السكينة، وسرعان ما يتهدم البناء، وتتحول العلاقة الزوجية والحياة الأسرية إلى جهنم يحترق بلهيبها كل من الزوجين والأبناء، ويمتد اللهب إلى المجتمع كله…
فالضمانة الكبرى إذن هي قوله تعالى: (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) إلى جانب (من ترضون دينه وخلقه) و(ذات الدين والخلق)، ولهذا وجدنا الفقهاء يميزون بين عقد النكاح وغيره من العقود، فهم يعتبرون مبنى النكاح على المسامحة والمكارمة، بخلاف البيع فمبناه على المشاحة والمكايسة، وقد اشتهرت عندهم قاعدة نفيسة: “النكاح مبني على المكارمة، والبيع مبني على المكايسة”، إذ معنى التعاقد في آصرة النكاح عارض غير مقصود، والنكاح قد وضع في منزلة أسمى من منازل العقود[9]، وهذا يفيد عندهم أن الأسرة والعلاقة الزوجية على وجه الخصوص تحتاج إلى الأساس الأخلاقي أكثر منها إلى الأساس القانوني، وأن لا تدخل المشاحة في العلاقة الزوجية وإلا أفسدتها، لأن التحايل على القوانين ممكن، وهو ما لا ينبغي في علاقة الأزواج التي ينبغي أن تتأسس على الثقة والسماحة وعفة النفس والتغاضي، وقبلها ومعها وبعدها على المحبة والمودة والرحمة، على خلاف عقود البيوع المختلفة فإنها قائمة أساسا على المشاحة والمشارطة.
والمتتبع لنصوص الوحي قرآنا وسنة سيجد أن هناك مجموعة من القيم التي ارتبطت بالحديث عن العلاقة الزوجية أو عن العلاقة الأسرية عموما، أجملها في الآتي:
- المودة والرحمة والحب.
- الحوار والتعاون والتشارك في البناء ورسم ملامح العلاقة والمسار.
- الاحترام والتقدير.
- الفاعلية والإنتاج والإبداع.
- الواقعية والتنظيم والتخطيط.
- الفرح والمرح.
- سماحة النفس
- الصدق
- الصبر
- الأمل.
ولعل كل قيمة من هذه القيم وغيرها مما لم أشر إليه، لا يسعها هذا البحث والحيز الضيق، بل تحتاج إلى عمل علمي مستقل يوفيها حقها، أسأل الله تعالى أن ييسره ويوفقنا لإنجازه.
والملاحظ أن منظومة قيم الأسرة في القرآن الكريم تركز على مهام الأسرة ووظائفها باعتبارها مؤسسة لإنتاج وإعادة إنتاج القيم.
ومن ثم لا سبيل إلى تجاوز التحديات والانخراط الواعي في مسار البناء الحضاري، إلا ببناء الأسرة على مثل هذه الأسس التي تعيد لها الحياة، وتعيد لها الاعتبار، وتعيد لها مكانتها ووظائفها الحيوية والحضارية.
والحمد لله رب العالمين.
لائحة المصادر والمراجع:
- تاج العروس من جواهر القاموس: لمرتضى الزبيدي، تحقيق مجموعة من المحققين الناشر: دار الهداية.
- التعريفات للشريف علي بن محمد بن علي الجرجاني، تحقيق إبراهيم الأبياري، دار الكتاب العربي – بيروت، ط1، 1405هـ.
- تفسير التحرير والتنوير: الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون للنشر والتوزيع، تونس.
- جامع البيان في تأويل القرآن (تفسير الطبري): أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان. ط 1: 1412هـ-1992م.
- سنن أبي داود: أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني الأزدي، مراجعة محمد محيي الدين عبد الحميد، دار إحياء السنة النبوية.
- سنن الترمذي، للإمام أبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي، تحقيق: بشار عواد معروف، دار الغرب الإسلامي، ط1، 1996م.
- سنن النسائي: أحمد بن شعيب النسائي، دار إحياء التراث العربي.
- الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، لأبي نصر إسماعيل بن حماد الجوهري، تحقيق أحمد عبد الغفور عطار، دار العلم للملايين – بيروت، ط4، 1407هـ – 1987م.
- صحيح البخاري: محمد بن إسماعيل البخاري، حقق أصوله ووثق نصوصه وضبطه ورقمه طه عبد الرؤوف سعد، دار نشر سوماكرام، 1423هـ – 2003م.
- صحيح مسلم: للإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري (طبعة مرقمة بترقيم المعجم المفهرس لألفاظ الحديث)، دار الاعتصام.
- العين لأبي عبد الرحمن الخليل بن أحمد الفراهيدي، تحقيق د: مهدي المخزومي ود: إبراهيم السامرائي، دار الهلال.
- القاموس المحيط: مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي، تحقيق أنس محمد الشامي وزكريا جابر أحمد، دار الحديث – القاهرة، 1429هـ 2008م.
- لسان العرب: لابن منظور، دار صادر، بيروت، ط1.
- المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم: محمد فؤاد عبد الباقي، دار الفكر – بيروت.
- معجم مفردات ألفاظ القرآن: للعلامة الراغب الأصفهاني، تحقيق نديم مرعشلي، دار الفكر- بيروت
- معجم مقاييس اللغة، لأبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا، راجعه تحقيق أنس محمد الشامي، دار الحديث – القاهرة، 1429هـ – 2008م.
- المغرب الممكن: 50 سنة من التنمية البشرية، وآفاق 2025، مطبعة دار النشر المغربية، الدار البيضاء 2006م.
- مقاصد الشريعة الإسلامية: للشيخ الطاهر ابن عاشور، دار النفائس – الأردن، ط2، 1421هـ / 2001م.
[1] – “المغرب الممكن”، مطبعة دار النشر المغربية، الدار البيضاء 2006م. وإن كان التقرير عن الواقع المغربي، فيمكن تعميمه على المجتمعات الإسلامية الأخرى حيث الصراع بين القيم التقليدية والقيم الحديثة في ظل زحف القيم الغربية المتواصل.
[2] – أخرجه البخاري: ح 1385.
[3] – انظر مادة (رسل) في مختلف المعاجم: معجم مقاييس اللغة: لابن فارس، دار الحديث – القاهرة، 1429هـ – 2008م، ولسان العرب: لابن منظور، دار صادر، بيروت، ط1، الصحاح، للجوهري، تحقيق أحمد عبد الغفور عطار، دار العلم للملايين – بيروت، ط4، 1407هـ – 1987م.
[4] – أخرجه البخاري: ح 5090، ومسلم: ح 1466.
[5] – أخرجه أحمد: ح 11782، وفي صحيح الترغيب والترهيب للألباني: 1919.
[6] – رواه الترمذي (1084) وابن ماجة (1967)، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي.
[7] – رواه الترمذي: ح 1087، وقال حديث حسن، وانظر صحيح الجامع للألباني: ح 859.
[8] – اكتفيت بذكر عناوين كبرى لهذه التوافقات لأن المقام لا يسمح بالتفصيل، وهي إشارات أسأل الله تعالى أن ييسر تفصيلها في بحث آخر إن شاء الله.
[9] – يراجع كتاب مقاصد الشريعة الإسلامية: للشيخ الطاهر ابن عاشور، دار النفائس – الأردن، ط2، 1421هـ / 2001م ص 445.