تهافت أسماء المرابط في الشأن الديني
هوية بريس – د. محمد عوام
نشرت جريدة هسبريس يوم الجمعة 7 أبريل 2023، تقريرا مقتضبا عن جلسة حوارية للطبيبة والكاتبة أسماء المرابط بمؤسسة أبي بكر القادري بسلا، وقد تضمن التقرير نتفا من كلامها، ونحن نعلق عليه لانطوائه على مغالطات علمية ومنهجية، لا يليق بمن تريد أن تتكلم في الشأن الديني، وتطمح أن تصير بين عشية وضحاها من العالمات أو في صف العلماء من غير رسوخ علمي، أو إلمام بآليات الاجتهاد، والتمكن من الفهم السليم للنصوص الشرعية. فمن رام مثل هذا المهيع يصدق عليه قول أبي علي الفارسي رحمه الله لتلميذه ابن جني وما أدراكما هما، حين تصدر ابن جني للتدريس، وهو ما زالا فتى صغيرا إبان التحصيل، فقال له: تزبَّبْت قبل أن تحصرم. وهذا ليس سلوكا خاصا بالطبيبة وحدها، وإنما هو سلوك كثير من المتطفلين على العلوم الشرعية، لأنهم يحسبونها حائطا قصيرا وهينا، من هب وذب يمكن أن يتسلقه.
ونحن نعلق ولو بإجمال واختصار على ما جاء في كلامها، فيما يلي:
أولا: ادعت الكاتبة الطبيبة أن “الشأن الديني شأن الجميع، وفي الإسلام لسنا مضطرين إلى تتبع فتوى هذا أو ذاك، ولذا هناك مدارس وآراء…” فهذا الكلام يحمل تهافته في نفسه، ولا يقره العقلاء فضلا عن العلماء، إذ أصبح معلوما منذ زمن غير يسير أن العلوم إنما هي تخصصات، مثلها في ذلك مثل الصنائع والحرف، فمن لم يتقن تخصصا علميا معينا، أو صناعة من الصنائع، فلا يعتد بكلامه، ولا يلتفت إلى قوله. وأنا على يقين أن الطبيبة التي درست الطب لمدة حتى حصلت على الدكتوراه، ثم إن هي تخصصت في مجال طبي معين، لا يمكنها أن تكون ملمة بسائر المجالات الأخرى، بل إنها لن تقبل أن يتطبب من لم يدرس الطب، وإلا حوكم قانونيا، واعتبر منتحل صفة ليست له. فكذلك الشأن في العلوم الإسلامية، فإنها علوم تقعيدية نسقية، وتخصص لا بد من دراسته وإتقانه، وداخل هذه العلوم نجد تخصصات، كالفقه وأصوله، والحديث، والقرآن، والعقيدة…فبهذا يتضح أن الشأن الديني ليس شأنا للجميع، وإلا فجميع العلوم شأنا عاما وهذا لا يقول به أحد من العقلاء. فالشأن الديني إنما هو تخصص، من لم يحصله لا يحق الحديث عنه أو فيه.
أما قضية الفتوى (لسنا مضطرين إلى تتبع فتوى هذا…) فهذا ينم عن جهل بطبيعة الفتوى، التي يعرف معناها المبتدئين في العلوم الإسلامية، فليس فيها إلزام ابتداء، لأن المفتي يجيب المستفتي عن سؤاله، فيخبره بالحكم الشرعي من غير أن يلزمه، ولذلك قرر العلماء أن: المفتي مخبر والقاضي مجبر. لأن القاضي يصدر حكما قانونيا شرعيا يلزم به الناس. لكن المستفتي إذا استفتى العالم عن حكم شرعي يخصه، فإنه يصبح مطوقا به في نفسه من غير إلزام.
ثانيا: قضية فهم النصوص الشرعية: حيث ذهبت الطبيبة المرابط إلى أن “الإشكال ليس مع الإسلام أو النص أو الرسالة الروحية بل الإشكال كامن في “فهم هذا النص، والفهم يتغير، ولم يجبروننا على أن يكون لنا نفس فهم من كان لهم اجتهاد عصرهم وعرفهم وسياقهم وفهم زمنهم…” هذا الكلام لا معنى له، ويحمل ضعفه في نفسه، وينم في الوقت ذاته عن جهل بطبيعة النصوص الشرعية وعن الاجتهاد. فالنص الشرعي لا يمكن فهمه إلا على ضوء القواعد اللغوية والأصولية والفقهية والحديثة والعقدية…، فهناك ترسنة من القواعد الحاكمة في فهم النص الشرعي، وليس نصا مرسلا هكذا على عواهنه، لا تحكمه ضوابط ولا قواعد. وهذا بالمناسبة ليس خاصا بالعلوم الشرعية ذات طبيعة تقعيدية، وتحتكم إلى نسق في الاجتهاد، وإنما هو أيضا سبيل كل العلوم، إذ العلوم لا بد لها من منهج وقواعد.
وينبني على هذا أن من لم يحط بقواعد الفهم والاستنباط، لا يمكنه بأي حال من الأحوال أن يفهم النص الشرعي، ويكون بذلك متطفلا، وكلام العلماء الخبراء بهذا الشأن كثير جدا، طفحت به المصنفات، وقررته التواليف عبر قرون، حتى أصبح من البدهيات والمسلمات.
ثم إن النصوص الشرعية ليست على وزان واحد، أو ذات طبيعة موحدة، فمنها ما هو مقطوع به دلالة وثبوتا، وهذا لا يمكن الاجتهاد فيه البتة، لأنه لا يحتمل إلا معنى واحد، ومنها ما هو مقطوع به ثبوتا لكنه ظني الدلالة، ومنها ما هو ظني الثبوت والدلالة….إلخ فالنصوص الشرعية متفاوتة ودرجات، وقد تكفل علماء أصول الفقه ببيانها وشرحها وتوضيحها، وعليها وقع الاجتهاد الفقهي، ويمكن مراجعة دلالة الألفاظ وطرق استثمارها في أي مصنف أصولي وسيتضح ذلك بجلاء تام. وبهذا يستبين أن من ليس على إلمام بقواعد فهم النص الشرعي، لا يمكنه أن يفهمه، بل يحرم عليه ذلك، لأنه سيفسد معناه، ويحرف مبناه.
ثالثا: هل العلماء الرسميون قليلو الشجاعة الأدبية كما ادعت المرابط أم أن كلامها من قبيل رمتني بدائها ثم انسلت؟
الذي لا تفهمه الطبيبة المرابط أن الاختيارات الفقهية مبنية على أدلة، ولا يمكن إلزام العلماء بما لم يقتنعوا به بناء على أدلتهم، فالشجاعة الحقيقية هي أن تفهم منطلقات العلماء وقضاياهم وقواعدهم، وتفهم أيضا اختياراتهم المؤسسة على ضوابط، وفي الوقت الذي تلوم فيه العلماء تسكت عن دعاة العلاقات الرضائية (الزنا)، والانفتاح الذي تدعينه لا يمكن أن يكون على حساب الثوابت الدينية والقطعية.
رابعا: أهمية العدل: تتمسك الطبيبة بأهمية العدل، ومركزيته في الإسلام، ورأت أن “كل ما هو تمييزي، بما في ذلك ضد المرأة، يعارض الإسلام”. ونحن نسلم أن العدل من أسس الإسلام، وأن الإسلام هو من عند الله تعالى المتصف بالعدل، ومن أسمائه العدل، فكل ما يصدر عن الله تعالى فهو من عدله وحكمته ورحمته، فما من حكم شرعي إلا وتحفه حكمة الله تعالى وعدله ورحمته، فهو الذي ميز بين الذكر والأنثى، الرجل والمرأة قال تعالى: “وليس الذكر كالأنثى” وساوى بينهما في كثير من الأحكام، وخالف بينهما في بعضها، مما تقتضيه الفطرة، وكل ذلك وفق عدله وحكمته. وهذا مقتضى الإيمان المطلوب والحقيقي أن يسلم المسلم بكل أحكام الله تعالى. قال عز وجل: “وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن تكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا.”
والبحث العلمي اليوم تطور جدا، فكشف عن الفروق الفيزيولوجية والبيولوجية والنفسية بين المرأة والرجل، ومنذ ستينيات القرن الماضي تحدث ألكسيس كاريل عن ذلك في كتابه (الإنسان ذلك المجهول)، وجاءت من بعده دراسات كثيرة، فهل يعقل أن تختلف المرأة عن الرجل ثم تتساوى معه أو هو معها في ما اقتضت الفطرة الاختلاف فيه، وإلا لم يعد للتفريق بينهما من حيث الجنس أي معنى؟ هذا شيء غريب. فالإسلام يميز بين الرجل والمرأة، ولكل واحد منهما وظيفته، ولكلٍّ أحكامه الخاصة به، لكن في الوقت ذاته أنهما يشتركان في معظم الأحكام، وليس في ذلك أي تفاضل، لأن التفاضل بينهما، بل بين سائر الناس إنما هو بالتقوى “إن أكرمكم عند الله أتقاكم” وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إنما النساءُ شقائق الرجال.”( رواه أبو داود) فهن شقائق الرجال، أي أنهن كما قال ابن منظور والمناوي نظائر الرجال وأمثالهم في الأخلاق والطباع والأحكام. كما قرره غير واحد من العلماء منهم: ابن منظور (لسان العرب)، والمناوي (فتح القدير)، وابن الأثير (النهاية)، والخطابي (معالم السنن) وغيرهم، وهذا هو منطق الشريعة المبنية على العدل، وليس العدل كما تفهمه الطبيبة المبني على الندية المطلقة، حتى تذوب فيه الفوارق، وإنما العدل الذي يراعي خصوصية كلا الجنسين، إذ هما معا يمثلان التكامل الذي ينشده الإسلام لتستمر الحياة، وهو –لا ريب في ذلك- تكامل وظيفي.
خامسا: هل تنكر المرابط أحاديث صحيحة؟ قالت: “لا نجد نقص العقل في القرآن، أو ضعف المرأة، بل وخلق الإنسان ضعيفا” وتقول الآية: “يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة” لا من ضلع آدم… ومثل هذه القراءات التي تقول هذا متأثرة بسياقها، والنصوص المسيحية.”
ولو كانت للمرابط مسكة من عقل لما أنكرت أحاديث صحيحة، وإنما لفتشت ونقبت عن معناها كما فهمها العلماء، أو كما جاء بيانها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما حديث أن المرأة خلقت من ضلع أعوج فثابتَةٌ صحته. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “استوصوا بالنساء فإن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته وإن تركته لم يزل أعوج فاستوصوا بالنساء.” (رواه البخاري وغيره) ويشهد له الآية الكريمة التي استدلت بها المرابط ولم تتم معناها وهي قوله تعالى: ” يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفۡس وَٰحِدَة وَخَلَقَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا وَبَثَّ مِنۡهُمَا رِجَالا كَثِيرا وَنِسَآءۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِۦ وَٱلۡأَرۡحَامَۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيۡكُمۡ رَقِيبا” [النساء: 1] وقال عز وجل: “هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفۡس وَٰحِدَة وَجَعَلَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا لِيَسۡكُنَ إِلَيۡهَاۖ” [الأعراف: 189] وقال سبحانه وتعالى: “خَلَقَكُم مِّن نَّفۡس وَٰحِدَة ثُمَّ جَعَلَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا” [الزمر: 6]
والمفسرون يقولون على أن النفس الواحدة المعني بها آدم عليه السلام، وساق في ذلك الطبري روايات. ومعنى (وخلق منها زوجها) قال الطبري: “وخلق من النفس الواحدة زوجها، يعني بالزوج، الثاني لها. وهو فيما قال أهل التأويل، امرأتها حواء.” (جامع البيان). وقال ابن عاشور: “والنفس الواحدة: هي آدم. والزوج: حواء، فإن حواء أخرجت من آدم من ضلعه، كما يقتضيه ظاهر قوله منها. ومن تبعيضية. ومعنى التبعيض أن حواء خلقت من جزء من آدم.” (التحرير والتنوير)
وأما حديث نقصان العقل فهو كذلك ثابت في كتب السنة ومنها صحيح البخاري، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أضحى أو فطر إلى المصلى، ثم انصرف، فوعظ الناس وأمرهم بالصدقة، فقال: “أيها الناس تصدقوا”. فمر على النساء فقال: “يا معشر النساء تصدقن، فإني رأيتكن أكثر أهل النار”. فقلن: وبم ذلك يا رسول الله؟ قال: تكثرن اللعن، وتكفرن العشير، ما رأيت من ناقصات عقل ودين، أذهب للب الرجل الحازم، من إحداكن.”
كان على المرابط الطبيبة أن تبحث في معنى الحديث، وعن المراد منه، وهل يقصد التنقيص من المرأة وتحقيرها أم يراد منه شيء آخر؟ وهل نقصان العقل حكم كلي أم حكم جزئي؟ ناهيك عن البحث في ما كشفه العلم الحديث عن طريقة تفكير المرأة والرجل هل هما متساويان أم مختلفان؟ أما أن تقوم برد الأحاديث من غير تمعن ولا بحث إلا بالهوى والتشهي فهذا لا يليق بأولى الأحلام والنهى.
فحديث نقصان العقل عند المرأة ليس المقصود منه قطعا تحقير المرأة، والانتقاص من كرامتها وازدرائها، وإنما يقرر حقيقة علمية ثابتة، تنسجم مع وظيفة المرأة الطبيعية، وهي وظيفة الأمومة والتربية، التي تحتاج معها المرأة إلى قدر كبير من العاطفة ومشاعر الانفعال، فهي بذلك تتكامل مع وظيفة الرجل التي تقوم أساسا على الحماية والرعاية والقوامة، فمن ثم كانت كل واحد منهما له دوره ووظيفته، فإذن نحن أمام وظيفتين متكاملتين منسجمتين. وأما من حيث الكلية، فإن تفوق الرجال بصفة كلية مشهود وملموس، لكن من حيث الجزئية فإن بعض النساء يتفوقن على بعض الرجال.
ومن الناحية العلمية فإن البحوث العلمية المعاصرة تثبت “أن دماغ المرأة وعقلها مركب عصبيا للتعاطف، بينما دماغ الرجل وعقله مركب عصبيا للتصور وبناء المنظومات. كما يثبت العلم أن دماغ الرجل يشتغل عصبيا بشكل ثنائي، بشكل ذكوري 90% و10% أنثوي، بينما دماغ المرأة يشتغل 90% أنثوي، و10% ذكوري، مما له تأثير على ميولات ومهارات كل من المرأة أو الرجل. وليس فقط ذلك متعلقا بالذكورة أو الأنوثة، وإنما يرجع ذلك إلى عوامل وراثية وتربوية ونفسية. هذا ما تثبته الدراسات العلمية الغربية، حيث تقر بالاختلاف، وهو بالنسبة إلينا وباعتبار ديننا اختلاف وظيفي، واختلاف تكامل وتنوع، وليس اختلاف تضاد وصراع. ولست أدري كيف تتجاهل الطبيبة المعطيات العلمية الحديثة، فتنكر الأحاديث الثابتة والصحيحة، فهلا سألت، فإنما شفاء العي السؤال. ويمكنها مراجعة كتاب: دماغ المرأة ودماغ الرجل الحقيقة حول التوحد الفروقات الأساسية لكاتبه سايمون بارون كوهين
Male and female brains and the truth about autism , The essential difference. Simon Baron-Cohen
وصفوة القول مما سبق، أن العبث بالنصوص الشرعية، والتماس تأويلها تأويلا فاسدا، أو تحميلها ما لا تحتمل، هو من باب الفساد في الدين. فالنصوص الشرعية لا تفهم إلا على ضوء أصولها وقواعدها ومقاصدها، ومن رام غير ذلك فقد ابتغى الفتنة، وأصبح من الزائغين.