أبسط المقال في شرح تقاعد الرجال

20 يونيو 2023 18:07

هوية بريس – محمد كرم

في الغالب، لا يشرع المرء في التأمل في مفهوم التقاعد و تجلياته و تبعاته و جوانبه الإيجابية كما السلبية إلا بحلول موعده أو باقتراب أوانه على الأقل، و في ذلك نعمة في الحقيقة حتى يظل الاهتمام و التركيز منصبين على العطاء و الإنتاج طوال فترة العمل التي قد تمتد لما يقرب من أربعة عقود في حالات كثيرة و قد تزيد عن ذلك في حالات قليلة. و بمجرد ما يزف اليوم المعلوم أو يقترب بخطى حثيثة تبدأ مرحلة جديدة في الحياة قوامها التأمل و المشاعر المختلطة. فهناك من جهة الاستحضار العفوي لذكريات الماضي المهنية و غير المهنية بما تنطوي عليه من مشاعر الانشراح و الرضى و الاعتزاز بالمكتسبات أو بما تنطوي عليه من انكسارات و إحباطات و انتكاسات، و هناك من جهة أخرى التخوف من “المستقبل” بما يفرضه من حسابات و ما قد يحمله من مفاجئات مهما كان وضع المتقاعد المادي و الاجتماعي و الصحي و حتى الاعتباري.

فعندما نصل إلى هذا الطور من الحياة نكتشف ـ و خاصة إذا كنا ننتمي إلى القطاع العام ـ بأننا كنا مجرد رقم مؤقت (رقم التأجير)، و حتى لا نقضي بقية العمر بلا تصنيف يخصص لنا رقم بديل يسمح لنا بسلك ما تبقى من الطريق (رقم صرف المعاش).

عندما نتقاعد نتخلص من الإملاءات المهنية و نستغني عن أدوات عملنا و تصبح تجاربنا المتراكمة أشبه بمشط الأصلع.

عندما نفترق ندرك بشكل متأخر بأن زملاءنا في العمل لم يكونوا مجرد أحجار بهرم المؤسسة المشغلة، بل كانوا أيضا رفاق درب حقيقيين تقاسمنا معهم كل شيء بما في ذلك ملح الطعام و إهانة الرؤساء و أرباب العمل لنا و هذا رغم الصعوبات و التوترات المسجلة من حين لآخر.

عندما نودع الزملاء لا تكون لدينا أدنى فكرة عن نوع الاستقبال الذي ينتظرنا ببيوتنا.

عندما يصبح البيت مستقرنا ننتقل بشكل قاس من حياة ملؤها العطاء و الانشغال التام إلى حياة عنوانها الفراغ  فيصبح من المشروع تخوف زوجاتنا و أبنائنا من العواقب.

عندما نترك مكاننا لجيل جديد من العمال أو الموظفين أو الأطر تتأكد لنا سنة الاستخلاف لتحقيق عمارة الأرض بشكل مسترسل.

عندما نصبح خارج دائرة الإنتاج لا ننتظر من المجتمع إلا التقدير. (لا يكفي أن نؤدي للبناء أجره، بل لابد من شكره و مدح بنيانه أيضا.)

عندما تكف سواعدنا عن العطاء لا ننتظر من الحياة سوى دوام الصحة و العافية في حدود ما يسمح لنا بالتحركات الأساسية و ليس في حدود ما يؤهلنا للمشاركة في ماراثون نيويورك أو نصف ماراثون مدينة العيون.

عندما نتوقف عن خدمة المجتمع بشكل رسمي لا نرجو غير الستر، و من حسنات هذا الزمن أن التقاعد في شقه المادي يبنى من تلقاء ذاته بفضل وجود مؤسسات متخصصة في تدبير مدخرات العاملين مع تحويلها في وقت لاحق إلى معاشات شهرية.

عندما تتزامن الإحالة على التقاعد مع ظهور أعراض الشيخوخة الأولى يتجسد أمامنا معنى المثل الشعبي “اخدم يا صغري على كبري” و تتأكد لنا حقيقة أن التوقف عن العمل إن لم يفرضه القانون فلا بد أن تفرضه الطبيعة يوما ما.

عندما نبتعد عن باب المعمل أو الإدارة أو المدرسة ندرك نعمة الانشغال و نعمة الانضباط  و نعمة الصبر في الحياة الدنيا.

عندما نكف عن العمل ندرك ـ و خاصة إذا كنا ننتسب إلى القطاع الخاص ـ الدور الكبير الذي يلعبه رجال الأعمال و المستثمرون في إدارة عجلة اقتصاد البلاد. فلولا هؤلاء ـ الذين لطالما اعتبرناهم مصاصي دماء كلما أشرق صباح فاتح ماي ـ  لما توفرت مقومات الحياة في الحواضر كما في الكثير من الأرياف و لما كان بوسعنا تأسيس أسر و تشييد بيوت و تأمين حياة كريمة في فترة الشيخوخة.

عندما نتقاعد ندرك أن ثمة أشياء في الدنيا من الأهمية بمكان بالرغم من أنه لم يرد ذكر لوجوب تبنيها لا في القرآن و لا في السنة من قبيل الزواج و الإنجاب و الانخراط في أنظمة التغطية الصحية و الحماية الاجتماعية.

… و عندما نبلغ هذا الشوط من الحياة تدخل اللغة هي الأخرى على الخط فيصبح تصريف معظم الأفعال في الزمن الماضي.

و قبل بلوغ هذه المحطة بسنوات قليلة ينتاب معظم العاملين النشيطين إحساس حقيقي بالغربة بفضاء العمل. و هذا الشعور ـ الذي يزداد حدة مع مرور الأيام ـ  غالبا ما يجد تفسيره في أمرين اثنين. فهناك من جهة ولوج عاملين جدد سوق الشغل و معظمهم في سن الأبناء مع ما يقتضيه ذلك من تقبل قسري لعقليات و سلوكات العصر، و هناك من جهة أخرى المستجدات التي تعرفها كل القطاعات بدون استثناء إن على مستوى أدوات العمل و تقنياته أو على مستوى القوانين المنظمة له، بل و حتى على مستوى التواصل المهني. وطبعا، هناك من منتسبي المدرسة القديمة من يتأقلم بسرعة نسبية مع هذه المستجدات، و هناك من “يرفض” تبنيها بشكل شبه كامل و يكتفي بأضعف الإيمان و كله رغبة في أن تمر سنوات العمل المتبقية بأقصى سرعة ممكنة.

لكن، ماذا بعد الاستفاقة من “صدمة” التقاعد و التقاط الأنفاس ؟ هل من المعقول أن يقضي المرء بقية حياته بدون برنامج كفيل بتأثيث  يومه و بدون أهداف إضافية ؟ بعبارة أخرى، ماذا أعد المتقاعد لهذه المرحلة من العمر ؟

فعلى افتراض أنه مازال في العمر بقية و أن المتقاعد ما زال ينعم بصحة جيدة إلى حد ما و لا يعاني من أي نوع من المتاعب الاجتماعية أو المادية المستعصية و يتوفر على قدر معين من التعليم فإن التوجهات لا تخرج على العموم عن أحد المسارات الثلاثة الآتية ـ مع تسجيل نسبة معينة من التداخل في بعض الحالات بين التوجهين الأول و الثاني و بين التوجهين الثاني و الثالث :

فهناك شريحة من الناس تغادر عملها على مضض و لا تقبل التقاعد إلا بمعناه الإداري و تعتبره مجرد انسحاب تكتيكي (بلغة العسكر)، أما التقاعد الحقيقي بالنسبة لها فهو ذلك المرتبط بالعجز الفعلي. أفراد هذه الشريحة يعشقون العمل و يعتبرونه أسلوب حياة و ليس وسيلة للاسترزاق فحسب. و بسبب هذه المقاربة تراهم ماضين على درب العطاء و الإنتاج بطريقة أو بأخرى و في إطار رسمي أو غير رسمي و في حدود تخصصهم الأصلي أو في نطاق تخصص جديد مستغلين ما تمنحه ظروف و وسائل اليوم من إمكانيات للبقاء في دائرة الإنتاج وهم مقتنعون بأن السن مجرد رقم بعد أن علمهم الواقع أن العطاء الغزير قد لا يحدث إلا بين سن الستين و سن الثمانين مستشهدين في ذلك بأسماء مجموعة من الزعماء و المفكرين و الأدباء و الفنانين و المدراء التنفيذيين بكبريات الشركات العالمية الذين لا يعطون أبدا الانطباع بأنهم تجاوزوا سن التقاعد بكثير.

من كان يتصور مثلا أن جو بايدن سيشرع في قيادة دفة أقوى دولة على البسيطة و هو على بعد أشهر قليلة من حاجز الثمانين ؟ من كان يعتقد بأن الشيخ محمد مكركب البليدي ـ الذي أحيل على التقاعد القانوني و هو رجل تعليم مغمور ـ سيصبح واحدا من العلماء الربانيين المحترمين بالجارة الشرقية و سيؤلف بعد تقاعده كل كتبه و التي بلغ عددها إلى حدود اليوم قرابة 30 مصنفا ؟ من كان يخطر بباله بأن السيد عثمان بنجلون سيستمر في التحكم في خيوط امبراطوريته المالية حتى بعد سن التسعين ؟ من كان يظن بأن المرحوم محمد مجيد سيستمر في تدبير شؤون جامعة كرة المضرب في أوج إنجازات الثلاثي أرازي و العيناوي و العلمي إلى أن استجاب لنداء ربه و هو في عقده التاسع ؟ و من كان ينتظر خروج موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب بعروس روائعه “من غير ليه” و هو في سن السابعة و الثمانين ؟ و من دار في خلده أن كاتب الدولة الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر ـ و الذي استكمل قرنا من الوجود قبل أيام قليلة فقط ـ سيظل متابعا إلى يومنا هذا للأحداث الكبرى مع تحليلها باحترافية و إسداء النصائح ذات الطابع الجيوسياسي لصناع القرار و حضور بعض المؤتمرات عن بعد ؟ و من اعتقد في يوم ما بأن الفيلسوف الفرنسي جان دوميرسون سيواصل التفلسف و التأليف و النشر ـ و حتى الابتسام ـ إلى حين مغادرته لدنيا الناس و هو في سنته الثانية بعد التسعين ؟

و هناك زمرة ثانية من المتقاعدين انتظرت موعد التقاعد على أحر من الجمر في الغالب و تعتبر صفحة الإنتاج صفحة مطوية إلى الأبد ـ و لها كامل الحق في تبني هذه النظرة للأمور طالما أن لديها اقتناعا بأنها أدت عملها على أكمل وجه كما و كيفا ـ فتراها منطلقة في الدنيا بخارطة طريق مدروسة بهدف الاستمتاع إلى أقصى حد ممكن بأفضل و أجمل ما فيها من موسيقى و مطالعة و سياحة داخلية و دولية و جلسات أنس و لمات عائلية و غيرها من الأنشطة المفيدة أو الجالبة للمتعة. و أفراد هذه الشريحة مقتنعون بأنه متى انتهى المرء من الاستمتاع و التسلية يتحول في الغالب إلى  مصدر للإزعاج، و هم غالبا ما يخضعون حياتهم لنظام دقيق يضبط تحركات الصباح و تحركات المساء و أنشطة الصيف و أنشطة الشتاء، و لهم نظام غذائي متوازن و يهتمون حتى بهندامهم  و يواظبون أيضا على صيانة أجسادهم بالرياضة و الحركة الدائمة و لا يترددون في وقف العلاقات التي لا تنبعث منها إلا الطاقة السلبية و لا يهمهم من قتل من أو من اعتدى على من في بغداد أو في مقدشيو و لا يعطون فرصة للملل كي ينال منهم و ينغص عليهم حياتهم، كما أنهم ليسوا أغنياء بالضرورة و يمكن لأسبوع من الاستجمام بموسم مولاي عبد الله أمغار أن يغنيهم عن قضاء شهر كامل بجزر المالديف أو جزر الباهاماس.

و هناك طائفة ثالثة ـ ربما هي الأكبر بمعظم مجتمعات العالم الثالث ـ يدور أفرادها في حلقة مفرغة لا لشيء إلا لقلة الحيلة فتراهم  يعيشون يومهم بلا أهداف و بلا نظام و بلا انتظارات وبنفسية بائسة يغذيها الفراغ و الخمول و الملل. و المنتسبون إلى هذه الشريحة يعون بسرعة بأن لا شيء يملأ الفراغ على النحو الأمثل مثل العمل الرسمي المؤدى عنه  و بأن  “ضامة” و “الكارطة” و المراجعة اليومية لمواقع الأخبار و لما يصلهم إلكترونيا من قفشات و رسائل و منشورات مكتوبة و صوتية و مرئية و حتى العبادة و المساعدة في القيام بالأعمال المنزلية لا تطرد الملل بشكل فعال، و لهذا ترى عددا منهم في حالة استعداد دائم للقيام ببعض الأعمال الصغيرة و يجدون متعة في ممارستها من قبيل اصطحاب الأحفاد إلى المدرسة أو إصلاح مصباح أو صنبور أو التكفل بأداء فواتير الماء و الكهرباء نيابة عن الجيران أو مساعدة  “السانديك” على القيام ببعض الأعمال البسيطة. فهذه المهام، رغم بساطتها، تملأ جزءا من وقتهم  و تعفيهم مؤقتا من إطالة زمن الانبطاح بالصالون أو من الاستعمال العشوائي للمحمول و غيرها من السلوكات الضارة أو المزعجة  و تمنحهم بالتالي الإحساس بأنهم لم يفقدوا كل الأدوار. للأسف، المنتسبون إلى هذه الطائفة غالبا ما يشيخون بسرعة و منهم من يسقط بسهولة في فخ الاكتئاب إذا ما انضافت إلى الفراغ  متاعب أخرى.

و على سبيل الختم، و كقاعدة عامة، يمكن الجزم بأن المتقاعد هو من  يصنع سعادته أو شقاءه. و على الرغم من أننا ما زلنا بعيدين عن مستوى الكثير من دول الشمال حيث ثقافة التطوع حاضرة بقوة في الكثير من القطاعات و حيث بإمكان المتقاعد الاستفادة من مجموعة من الحلول المبتكرة أعتقد أن الإمكانات المتاحة اليوم بوطننا من قبيل وجود العشرات من الجمعيات و الأحزاب السياسية و النوادي الثقافية و المرافق الرياضية و الفنية و الترفيهية و الوحدات الإنتاجية كفيلة بأن تساهم في تفتح المتقاعدين و في استمرار مساهمتهم في الدينامية التي يعرفها المجتمع سواء بالمقابل أو بدون مقابل. و في جميع الحالات المتقاعد هو الذي ينبغي أن يطرق الأبواب، أما من يعتقد بأن تلك مهمة المساعدين الاجتماعيين أو مديري البرامج التنموية أو أمناء الأحزاب أو رؤساء الجمعيات و النوادي فهو مخطئ بكل تأكيد.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M