العقد الإلكتروني وتطبيقاته المعاصرة
هوية بريس – ابراهيم بوحمرة
الحمد لله الملك العلام ذي الجلال والإكرام، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد خير الأنام، وعلى آله وصحبه وأتباعهم الكرام، أما بعد.
فقد عرف العالم المعاصر تقدما علميا وتقنيا وتكنولوجيا لم يَسْبِقْ له مثيل خاصة في مجال المعلوميات و وسائل الاتصال الرقمية، مما أدى إلى إنشاء عقود مالية مُسْتَحْدَثَة في المبادلات التجارية المحلية والدولية والمعاملات المالية والمصـرفية المعاصرة غير معروفة في الفقه الإسلامي منها: العقد الإلكتروني.
فما المقصود بالعقد الإلكتروني؟ وما هي مجالات تطبيقاته المعاصرة؟ وما تكييفه الفقهي؟
وتفصيل متعلقات هذا المقال يمكن رَصْدُهَا من خلال ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: التعريف بالعقد الإلكتروني
المطلب الثاني: التطبيق المعاصر بواسطة العقد الإلكتروني عبر الإنترنت
المطلب الثالث: تكييفه الفقهي
المطلب الأول: التعريف بالعقد الإلكتروني
أولا: التعريف بالعقد الإلكتروني في الاصطلاح المعاصر
العقد الإلكتروني هو« اتفاق يتلاقى فيه الإيجاب بالقبول على شبكة دولية مفتوحة للاتصال عن بعد، وذلك بوسيلة مسموعة مرئية بفضل التفاعل الموجب والقابل» ([1]).
وعليه فإن هذا العقد يندرج ضمن زمرة العقود المبرمة عن بعد حسب جميع التشـريعات والقوانين الدولية المنظمة لعقود التجارة الإلكترونية([2]) العالمية، ويتميز على باقي العقود العادية – التي لا تُبْرَم إلكترونيا- ببعض الخصوصيات منها:
-عدم وجود مجلس عقد مادي بين الأطراف أثناء تبادل التراضي.
-صدور الإيجاب واقتران العرض به يتم بطريق سمعي بصـري عبر شبكة المعلومات والاتصالات الدولية بالتفاعل بين طرفين يضمهما مجلس واحد حكمي افتراضي.
-أن أطراف العقد موجودون في أماكن مختلفة.
-أن الـمبيع لا يمكن رؤيته والحكم عليه تماما إلا بعد الحصول عليه وتَسَلُّمِه([3]).
ثانيا : تعريف العقد الإلكتروني في القانون المغربي
اهتم الـمُشَـرِّع المغربي على غرار باقي التشـريعات الدولية والعربية بإصدار قانون تَمَّ بموجبه تنظيم المعاملات الإلكترونية منذ سنة: 2007 م([4])، مما يوضح انخراط المغرب في تكنولوجيا وسائل وتقنيات الاتصال الرقمية من أجل تسهيل عمليات التبادل التجاري الإلكتروني.
وقد عَرَّف المشـرع المغربي العقد الإلكتروني بما يلي: «العقد المبرم بشكل إلكتروني والموجه بطريقة إلكترونية يمكن أن يتم باستخدام الوسائل الإلكترونية، لوضع عروض تعاقدية أو معلومات متعلقة بسلع أو خدمات رهن إشارة العموم من أجل إبرام عقد من العقود»([5]).
المطلب الثاني: التطبيق المعاصر بواسطة العقد الإلكتروني عبر الإنترنت
قبل التطرق للتطبيق المعاصر المتعلق بالبيع بواسطة العقد الإلكتروني، أود التنبيه إلى أن هذا العقد يختص بجميع أنواع البيوع المتداولة في الفقه الإسلامي وهي: ببع الأعيان و بيع المنافع وبيع الموصوف في الذمة، وأن التطبيق المعاصر للعقد الإلكتروني في هذا المقال سيقتصر على نموذج من بيع الأعيان باعتباره الأصل الغالب في البيوع،
مما لاشك فيه أن العقد الإلكتروني يُعَدُّ من العقود ا لمالية المستحدثة التي اعتمدتها القوانين والتشـريعات الدولية والعربية والمنظمات العالمية، وأن البيوع المتعلقة به هي الأكثر شيوعا في المعاملات المالية والتجارية المعاصرة، وأن هذا العقد يُعَدُّ من العقود العملاقة لعدة اعتبارات منها: أنه غَطَّى سائر أقطار المعمور جغرافيا، وعَمَّ مختلف الشـرائح الاجتماعية لساكنة العالم بشريا، وتتجلى أهميته في الأطراف المتعاقدة فيه؛ حيث يتم التعاقد في العقد الإلكتروني بين مختلف دول العالم في عملتي الاستيراد والتصدير، وبين المقاولات فيما بينها، وبين الإدارات والمؤسسات العمومية للدولة من جهة والمقاولات الخاصة من جهة ثانية، وبين سائر أفراد المجتمعات وغيرهم من الأطراف المتعاقدة، ويختص هذا العقد بالتجارة الإلكترونية ، ويعتمد في مبادلاته التجارية على استخدام التقنيات الحديثة لوسائل الاتصال، وعلى رأسها شبكة المعلومات العالمية «الإنترنت»([6]) .
ولبيان ما يتعلق بالتطبيقات المعاصرة، سيتم التركيز على البيوع الأكثر شيوعا في المعاملات المالية والتجارية المعاصرة، وهي بيوع الأعيان.
ومعلوم أن بيع الأعيان بواسطة العقد الإلكتروني عبر الإنترنت يتم في مجلس افتراضي وغالبا ما تكون السلعة المبيعة غائبة عن المشتري؛ لأن هذه الأنواع من العقود يتم إبرامها عن بعد؛ نظرا لكون المتعاقديْن متواجديْن في أماكن مختلفة، كما أن القبول والإيجاب يتم بطريق سمعي بصـري عبر شبكة المعلومات الإنترنيت، لذلك فإن السلعة المبيعة لا يمكن رؤيتها والحكم عليها إلا بعد تَسَلُّمِها من المشتري، ويجب أن تكون مطابقة للصفات الواردة في العقد المبرم إلكترونيا.
ومن الأعيان المبيعة التي يتم بيعها بواسطة العقد الإلكتروني عبر شبكة المعلومات الإنترنت: الهواتف النقالة و أجهزة الكمبيوتر و آلات الغسيل و الأحذية والملابس وما إلى ذلك من الأعيان.
وتتم عملية البيع عبر شبكة الإنترنت بعرض بضاعة ما في موقع من المواقع، ويتم اختيار البضاعة المعروضة من لدن المشتري، وبعد التوافق والتراضي على ثمنها، يرسل المشتري الثمن للبائع الذي يرسل البضاعة للمشتري بعد تَسَلُّمِهِ الثمن، وللمشتري خيار الرد في حالة عدم مطابقة البضاعة للأوصاف المذكورة في العقد، كما يجب على البائع أن يصف السلعة المعروضة بأدق تفاصيلها للمشتري، وهذا ما قررته جميع التشـريعات القانونية العربية والدولية المُنَظِّمَة لعقود التجارة الإلكترونية التي تركز على مراعاة أوصاف المبيع بدقة متناهية كما نص على ذلك القانون الفرنسـي الذي أكد على: «وجوب تحديد الصفات الرئيسية للسلع المعروضة»([7]).
ويُشْتَرَط في السلعة المبيعة عبر شبكة الإنترنت أن تكون موافقة لضوابط الشـرع في الفقه الإسلامي([8])، كما نصت معظم القوانين والتشـريعات العربية والدولية على أن يكون المعقود عليه (السلعة االمبيعة) مشــروعا في قوانينها وأن لا يخالف النظام العام، وهذا ما تَبَنَّاه كل من القانون المصـري والفرنسي وكذلك الأمريكي([9]).
وإذا كان جماهير فقهائنا من الحنفية والمالكية والحنابلة قد أجازوا بيع الأعيان الغائبة على الصفة بشـرط خيار الرد للمشتري – بعد رؤيته المبيع- بحيث يمكنه رد المبيع في حالة عدم مطابقته للأوصاف الواردة في العقد، فإن القوانين الدولية والعربية نَحَتْ نفس المَنْحَى في السلع المبيعة في العقد الإلكتروني، حيث جعلت للمشتري خيار الرؤية، فإن كان المبيع مطابقا للأوصاف التي أقرها البائع أمضـى العقد وإلا فله فسخه.
والحاصل أن فقهاءنا الأعلام قد راعوا في بيوع الأعيان الغائبة على الصفة مصلحة المشتري، وجعلوا تنفيذ العقد متوقفا على رؤيته، وأثبتوا له حقَّ الخيار بعد رؤية المعقود عليه، وتخييره بين تنفيذ العقد أو إلغائه، تحقيقا للمساواة بين طرفي العقد، ويُعَدُّ هذا إحدى اللبنات الأساسية الذي انْبَنَتْ عليه العديد من الصور والتطبيقات المعاصرة لكثير من العقود المالية المُسْتَجِدَّة التي اعتمدتها القوانين والتشـريعات الدولية والعربية والمنظمات العالمية.
المطلب الثالث: التكييف الفقهي للعقد الإلكتروني
مما لاشك فيه أن التقدم التكنولوجي واكبه تطور في وسائل الاتصال في عصـرنا، مما أدى إلى إبرام كثير من عقود البيع بواسطة تقنيات وآلات الاتصال الحديثة أبرزها العقد الإلكتروني الذي يتم عبر شبكة الإنترنت، ويتعلق هذا العقد عامة بالتجارة الإلكترونية.
فما هو الحكم الشرعي لهذا العقد؟ وما تكييفه الفقهي؟
لقد صدرت في هذا العقد قرارات المجامع الفقهية وهيئات المعايير الشـرعية، واتفقت على جوازه أذكر من ذلك:
أولا: قرار مجمع الفقه الإسلامي
قد بحث هذا الموضوعَ وأصدر قراره رقم: (54/3/6) المتعلق بإجراء العقود بآلات الاتصال الحديثة ومنها شبكة الإنترنت وجاء في القرار: «نظرا إلى التطور الكبير الذي حصل في وسائل الاتصال وجريان العمل بها في إبرام العقود لسـرعة إنجاز المعاملات المالية والتصـرفات، وباستحضار ما تعرض له الفقهاء بشأن إبرام العقود بالخطاب والكتابة وبالإشارة وبالرسول، وما تقرر من أن التعاقد بين الحاضرين يشترط له اتحاذ المجلس _ عدا الوصية والوكالة _ وتطابق الإيجاب والقبول، وعدم صدور ما يدل على إعراض أحد العاقدين عن التعاقد، والموالاة بين الإيجاب والقبول بحسب العرف، وقرر ما يلي:
1- إذا تم التعاقد بين غائبين لا يجمعهما مكان واحد، ولا يرى أحدهما الآخر معاينة، ولا يسمع كلامه، وكانت وسيلة الاتصال بينهما الكتابة أو الرسالة، وينطبق ذلك على البرق والتلكس والفاكس وشاشات الحاسب الآلي (الكمبيوتر)، ففي هذه الحالة ينعقد العقد عند وصول الإيجاب إلى الموجه إليه وقبوله.
2 – إذا تم التعاقد بين طرفين في وقت واحد وهما في مكانين متباعدين وينطبق هذا على الهاتف واللاسلكي فإن التعاقد بينهما يعتبر تعاقدا بين حاضرين وتطبق على هذه الحالة الأحكام الأصلية المقررة لدى الفقهاء.
3 – إذا أصدر العارض بهذه الوسائل إيجابا محدد المدة يكون مُلْزَما بالبقاء على إيجابه خلال تلك المدة، وليس له الرجوع عنه.
4 – إن القواعد السابقة لا تشمل النكاح لاشتراط الإشهاد فيه، ولا الصـرف لاشتراط التقابض، ولا السَّلَم لاشتراط تعجيل رأس المال.
5 – ما يتعلق باحتمال التزييف أو التزوير أو الغلط يرجع فيه إلى القواعد العامة للإثبات»([10]).
يمكن أن نستشف من القرار أنه استند للقول بمشـروعية العقود الإلكترونية إلى قاعدة مقاصدية مفادها: أن للوسائل حكم المقاصد؛ على اعتبار أن هذه الوسائل الحديثة وعلى رأسها الإنترنت لايترتب عليها محظور شـرعي، وتحقق مصالح اقتصادية ومالية واجتماعية مهمة، كما أنها تُفْضـِي إلى تحقيق مقاصد شـرعية تتمثل في التعاقد بالعقود الإلكترونية التي أصبحت تُشَكِّلُ عصب المبادلات التجارية العالمية بين دول العالم في عصرنا الراهن.
ثانيا: المعيار الشرعي رقم 38 المتعلق بأحكام المعاملات المالية بالإنترنت
يتناول هذا المعيار بيان الأحكام المتعلقة بإبرام العقود المالية باستخدام شبكة الإنترنت، وبيان التكييف الفقهي لإبرام هذه العقود، وقد نص على ما يلي: «يجوز إبرام العقود المالية بواسطة الإنترنت، وتخضع العقود التي تبرمها المؤسسات مع عملائها عن طريق الإنترنت للقواعد العامة للمعاملات المالية في الشريعة الإسلامية»([11]).
وعَلَّقَ الخبير الاستشاري في المعاملات المالية المعاصرة حسين شحاتة على نَصِّ هذا المعيار بقوله: «ومُسْتَنَدُ جواز إبرام العقود المالية بواسطة الإنترنت أنه لا يترتب على ذلك محظور شرعي، وأن العقود التي تُبْرَمُ بواسطة الإنترنت لا تختلف عن العقود التي تُبْرَمُ بالطرق التقليدية إلا من جهة وسيلة إبرامها، وأنه إذا كان الأصل في العقود الإباحة ما دامت تخلو مما يصادم قواعد المعاملات في الشريعة الإسلامية، فإن الأصل في وسائل إبرام العقود الإباحة أيضا ما دامت الوسائل تتحقق بها المتطلبات الشرعية لإبرام العقود»([12]).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) خصوصية التعاقد عبر الإنترنيت لأسامة مجاهـد، ص: 23.
([2]) التجارة الإلكترونية: هـي عملية تبادل السلع والخدمات بغرض الربح عبر الوسائل الإلكترونية، ينظر: الأحكام الفقهـية للتعاملات الإلكترونية لعبد الرحمان السند، ص: 117.
([3]) الأحكام الفقهـية للتعاملات الإلكترونية، ص: 125_126.
([4]) ظهـير شريف رقم 129_07_01 الصاد رفي 30 نونبر 2007م، بتنفيذ القانون رقم 05.53 المتعلق بالتبادل الإلكتروني، وقد صدر بالجريدة الرسمية عدد 5584 بتاريخ 6 دجنبر 2007م، ص: 3879.
([5]) قانون رقم: (05.53) المتعلق بالتبادل الإلكتروني للمعطيات القانونية، الفصل: 3_65، ص: 04.
([6]) الإنترنت اختصار لعبارة International Net Work وتعني الشبكة العالمية وهـي عبارة عن مجموعة كثيرة من أجهـزة الحاسب الآلي حول العالم، ينظر الأحكام الفقهـية للتعاملات الإلكترونية، ص: 33.
([7]) العقد النموذجي الفرنسي للتجارة الإلكترونية الفقرة الأولى من البند الرابع الموسوم بالصفات الرئيسية للأمور والخدمات المعروضة، بتاريخ 30 أبريل 1998.
([8]) ينظر شروط المعقود عليه (المبيع) في كتب فقه المعاملات المالية المعاصرة باب البيوع.
([9]) خصوصية العقد الإلكتروني، ص: 64.
([10]) مجمع الفقه الإسلامي بمنظمة المؤتمر الإسلامي في دورة مؤتمره السادس من 14 إلى 20 مارس 1990م، مجلة مجمع الفقه الإسلامي العدد السادس: 2/785، 20 مارس سنة 1990م.
([11]) المعيار الشرعي رقم: 38، المتعلق بأحكام المعاملات المالية بالإنترنت، البند: 2/2، ص: 961.
([12]) التجارة الإلكترونية في ضوء أحكام الشريعة الإسلامية لحسين شحاتة، ص: 41.