اليونسكو في ورطة !!!
هوية بريس – محمد كرم
أقام في الآونة الأخيرة عدد ضخم من “الوطنيين” المغاربة و الجزائريين الأرض و أقعدوها و بأكثر من وسيلة و ذلك على خلفية إيداع الجارة الشرقية لطلب لدى منظمة اليونسكو التمس من خلاله محرروه تسجيل القفطان بإسم بلدهم… و كادت “شرويطة” أن تتسبب في اندلاع حرب جديدة بالمنطقة.
لحسن الحظ، لم تصل الملاسنات و المرافعات و الاستفزازات المتبادلة إلى ذلك الحد الذي يستدعي مغادرة الجنود لثكناتهم و تثبيت سلاح المدفعية على الحدود و انطلاق الطائرات الحربية في اتجاه السماء استعدادا للإتيان على الأخضر و اليابس بكلا البلدين. و قد حدث كل هذا الهرج و المرج و العالم يتفرج على تطورات الحرب الروسية الأوكرانية التي بدأت شظاياها تصلنا و في عز الحملة الأوروبية المسعورة التي تستهدف ديننا و مصحفنا و قيمنا و في وقت لم يجد فيه الصهاينة غضاضة في ارتكاب المزيد من المجازر في حق إخواننا الفلسطينيين.
و قبل هذه الواقعة بأشهر معدودة ضجت كذلك مواقع التواصل الاجتماعي بالهجومات و الهجومات المضادة و كان البلدان قاب قوسين أو أدنى مرة أخرى من الإعلان عن حالة الاستنفار القصوى عندما ادعت الجارة ذاتها بأن الزليج الفاسي جزائري و بأن الكسكس رأى النور هو الآخر بمطبخ جزائري … و لولا الألطاف الإلاهية و اعتذار شركة “أديداس” للمغرب في آخر لحظة لربما شرعت آنذاك السفن الحربية من الجانبين في الإبحار في اتجاه مياه العدو لقصف سواحله و تدمير بنياته التحتية و ترويع أهله، و لربما تمت تعبئة كل المجندين الاحتياطيين و كل الأسلحة الخفيفة و الثقيلة المقتناة على امتداد العقود الأخيرة، و لربما نزل المظليون على أكبر عدد ممكن من السطوح و الساحات و السهول لضرب أهداف محددة … و لربما ظل الشعبان يسبحان في مستنقع من الدماء إلى يومنا هذا في انتظار هدنة قد تأتي و قد لا تأتي في سياق حرب بين قوتين إقليميتين لا يستهان بهما لن تفرز أبدا الرابح من الخاسر و لن ينجم عنها سوى القتل المتبادل و التخريب الممنهج و المجاني على جانبي الحدود إضافة إلى صناعة العاهات و تشريد المدنيين و استنزاف الثروات الوطنية و كأني بالتاريخ يعيد نفسه بعد قرون من وضع حرب داحس و الغبراء أوزارها.
و على افتراض أن الطرف الجزائري تقدم بملف متكامل الأركان حول ملكيته لفكرة القفطان و أحقيته في أن تنسب إليه و أفلح فعلا في بلوغ غايته، فما هي يا ترى تداعيات هذا الإنجاز “العظيم” ؟
فهل هذا يعني بالضرورة أن استغلال هذا الزي الأنيق أصبح حكرا على الجزائريين و أن صناعته أضحت ممنوعة بمجموع ترابنا الوطني و بأن ارتداءه من قبل المغربيات سيشكل مخالفة صريحة تقع تحت طائلة القانون الدولي ؟ هل سينضاف الخياطون المتخصصون و كل من له علاقة بهذه الحرفة الجميلة إلى جيش العاطلين أو أفواج المتسولين ؟ هل من المحتمل أن يصل الأمر إلى حد إيفاد هيئة الأمم المتحدة لتجريدة من القبعات الزرق إلى المملكة لتفعيل قرار اليونسكو بتفتيش محلات بيع الألبسة التقليدية و ورشات خياطتها للتأكد من خلوها من هذا الصنف من اللباس و من كل المواد التي تدخل في صناعته مع إخضاع المخالفين أو المشتبه بهم للاستنطاق بل و حتى الاعتقال ؟ هل سترخص لنا السلطات الجزائرية على الأقل بإعادة إنتاجه ببلدنا مع تمكين خزينتهامن الرسوم المترتبة عن استغلال حقوق التصميم و الإبداع ؟ أسئلة كثيرة تبادرت إلى ذهني و أنا أتابع الموضوع و أقلبه على كل جوانبه و أرصد تطوراته و مستجداته.
و إذا كان من المفهوم إقدام دولة ما على إيداع ملتمس لتسجيل مدينة عتيقة أو بناية تاريخية معينة ضمن التراث الإنساني المادي مع ذكر موقعها الجغرافي بكل دقة فإنه من غير المنطقي في حالات عديدة ربط موروثات مادية أخرى و غير مادية بمناطق بعينها أو بأشخاص بعينهم خاصة عندما نعلم أن التاريخ نفسه عاجز عن الحسم في ذلك بما أنه يكاد يعج فقط بأسماء القتلة و الغزاة و رموز النهب و الاستبداد في حين لا نجد فيه ذكرا لأسماء معظم من ساهموا فعليا في تطور الحضارة البشرية. فنحن لا نعرف ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ لا إسم من وضع أول تصور للبنة التي هي أساس أي بناء اليوم و لا إسم من صمم أول فستان و أول قبعة ولا إسم مهندس أول جسر و أول قوس و لا إسم مخترع أول محراث و أول منجل و أول مفتاح و أول حذاء و أول طاحونة.
لقد أثبتت المعطيات الأنثروبولوجية بأن الكثير من الموروثات ـ بحكم السهولة الكبيرة التي ميزت تنقل الأشخاص و السلع في الماضي في غياب المراكز الجمركية و نقاط التفتيش الأمنية الحدودية ـ تقاسمها الناس على امتداد قرون من الزمن داخل مناطق جغرافية مترامية الأطراف ـ بالضبط كما تقاسموا جيناتهم أيضا ـ و كلهم ساهموا في تطويرها إلى أن وصلت إلينا في شكلها الحالي. فمن المرجح إذن أن القفطان تطور في أكثر من مكان و تعرض أيضا لتأثيرات واردة من هنا و هناك بمنطقة لم يتوقف فيها الاختلاط و التلاقح و التفاعل بين أفراد أهلها و حتى بين هؤلاء و مستعمريهم (المقصود هنا بالطبع بلاد الأندلس و جزء مهم من شمال إفريقيا). و عليه، فإن إسقاط جنسية وحيدة على القفطان و غيره من الموروثات أمر لا يستقيم بل و يندرج ضمن الأخطاء الفادحة. (في سياق مشابه إلى حد ما وجب التذكير بأن حتى القانون المتعلق بحقوق المؤلف و الحقوق المجاورة ينص على أن أي مصنف فني أو أدبي يصبح ملكا للإنسانية جمعاء بعد انقضاء الفترة الموالية لوفاة المبدع أوالمؤلف و المحددة في 50 سنة كحد أدنى و 100 سنة كحد أقصى.)
و ما يسري على القفطان يسري أيضا على البدلة الأوروبية المعروفة. فهذا اللباس انتشر أولا بأوروبا ثم انتقل إلى القارة الأمريكية و باقي دول المعمور بعدما أخذت القوى الكولونيالية على عاتقها مهمة فرضه بمستعمراتها بطريقة أو بأخرى حتى تبناه الجميع و كاد أن يفقد هويته الأصلية. و على الرغم من احتمال توفر معلومات عن تاريخ هذه البدلة بالأرشيف الأوروبي إلا أنني لا أعتقد بأنه ثمة من بين المتعصبين اليوم من له الجرأة على الادعاء بأن الأمر يتعلق باختراع فرنسي أو إيطالي أو ألماني أو إسباني صرف. الشيء المؤكد هو أن “الكوستيم” و “الكرافاتا” تطورا عبر التاريخ دون أن يكون وراء هذا التطور شخص وحيد بعينه، و هما الآن ملك للناس أجمعين و لا مفر من ارتدائهما بالكثير من الأوساط المهنية و المحافل الرسمية.
الأمر ذاته ينسحب على الهاتف الجوال و الحاسوب و الإنترنت، إذ لا أحد من عامة الناس يعرف أسماء من كان وراء بروز هذه الاختراعات الجديدة و العجيبة، و لولا تضافر جهود المئات من العلماء الموزعين على عشرات المراكز البحثية عبر العالم ما كان لها لتصل إلينا بقدراتها و مواصفاتها الحالية. حتى السيارة كاختراع علمي متكامل ليس من حق بلجيكا الادعاء بأنها بلجيكية. فصحيح أن من اهتدى إلى صناعة أول محرك يعمل بالاحتراق الداخلي بلجيكي الأصول (المهندس إتيان لونوار الذي عاش في القرن 19) لكن العجلة رأت النور ببلاد الرافدين قبل ميلاد المسيح بمئات السنين، كما أن التحسينات العديدة التي أوصلت السيارة إلى هيئتها الحالية هي ثمرة تراكمات هائلة من الأبحاث العلمية المنجزة بأكثر من بلد و أكثر من قارة.
و بالعودة إلى موضوع القفطان، أسجل بأسف شديد اصطفاف مجموعة ممن يدعون بأنهم من أهل الفكر إلى جانب الرعاع الإلكتروني بالبلدين. فقد تعمد عدد من هؤلاء تجميد أخلاقيات البحث العلمي و التحليل الأكاديمي و راحوا ـ من باب الاستجابة التلقائية لنداء الوطن على ما يبدو ـ يوجهون هم أيضا سهامهم في اتجاه من يعتبرونهم أعداء بدخولهم في مناقشات بيزنطية ضحلة و باعتماد لغة ساقطة بالضبط على طريقة الأميين و الجهلة غير آبهين بما ينطوي عليه هذا السلوك من تهور قد يلوي اليد الممدودة و يعصف في أي وقت بخيوط الأمل الرفيعة المتبقية. النخبة المفكرة لا تتصرف على هذا النحو العاطفي في هكذا اصطدامات و لو كان ذلك عن حسن نية ، بل واجبها يكمن في تهدئة الأوضاع و تبيان ما يمكن تبيانه بكل تجرد و موضوعية عوض صب الزيت على النار و تأجيج الحقد و الكراهية و تمهيد الطريق للفتنة و التفرقة و منح الفرصة لأمم بعينها للإمعان في احتقارنا و التهكم على حالنا.
فلماذا إذن هذه الرغبة المرضية في إلصاق أشياء بعينها بالوطن الضيق ؟ (في السياق ذاته، ما زلت أذكر كيف أن فردا من عائلة فاسية معروفة تحمل قبل أكثر من ثلاثين سنة عناء الانتقال إلى القاهرة و الإقامة بأحد فنادقها لمدة معتبرة لا لشيء إلا ليتأكد و يؤكد للعالم بأن جذور الموسيقار محمد عبد الوهاب مغربية فاسية و ليست مصرية قاهرية !!!!! … لكن في نهاية المطاف خاب سعيه و عاد بخفي حنين بعد أن أدى فاتورة الفندق بطبيعة الحال !!)
و طبعا كل هذه الشوفينية ـ في سياق القفطان و غيره ـ ما كانت لتتكرس لو كانت الحدود السياسية الفاصلة بين مملكنتنا و دولة الجزائر حدودا عادية و طبيعية لا تعرقل التنقل و التواصل و التبادل بكل أنواعه الممكنة. حتى الموسيقى الأندلسية و موسيقى الراي و ألبسة أخرى من قبيل البرنس و الجلباب هناك من يلح على إخضاعها للحدود القائمة. الأمر بالنسبة للعديدين من الأهمية بمكان و كأننا هنا أمام قضايا بالغة الحساسية و تنطوي على خطوط حمراء من شأن تجاوزها السعي إلى استصدار قرار من مجلس الأمن الدولي بل و إقحام ميليشيا فاغنر في الموضوع أيضا ـ ضمن سيناريوهات أخرى !!
و رغم هذا الواقع المضحك / المبكي هناك في تقديري أكثر من وسيلة لتحقيق تضافر جهود الاختصاصيين بكل دول المغرب الكبير للارتقاء بالقفطان و تعزيز جماليته و تكريس استهلاكه و الترويج له محليا و دوليا و تسويقه بإسم المنطقة كلها لسد الطريق في وجه التافهين و السطحيين الذين لا هم لهم سوى الترويج للأوهام و الإيقاع بين شعوب ما يجمعها أكثر و أكبر بكثير مما يفرقها.
هذا و جدير ذكره أن الحدود التي رسمها الاستعمار قد خلقت فعلا واقعا سياسيا و اقتصاديا و قانونيا جديدا بالمنطقة لكنها ظلت على العموم دون تأثير على حركية البشر. فالتنقلات العابرة للحدود مازالت مستمرة ـ و إن ليس دائما بالحجم و الوتيرة المنشودين ـ و بالتالي ليس من العقل في شيء وضع خط فاصل و واضح دائما بين ما هو مغربي و ما هو جزائري أو بين ما هو تونسي و ما هو ليبي مثلا. التأثير و التأثر مازالا حاضرين في علاقات الجيران لا في اللغة و لا في اللباس و لا في الطبخ و لا في العادات و التقاليد.
و على سبيل الختم، آمل ألا يأتي الدور أيضا في القادم من الأيام و السنين على “السبسي” و “الكالة” و “التنفيحة” و “الماحيا” و “المعجون” و “الكرداس” و “الرفيسة العمية” و “رزة القاضي” و “البطبوط” و “العصبان” و “الشخشوخة” و “الزلابية” و “المحاجب” و “الهريسة” و “بقلاوة” و “الصابون البلدي” حتى لا يهتز مقر اليونسكو على وقع اصطدامات جديدة قد تبعثر المستندات المرتبة على رفوف مكاتب هذه المنظمة و تعصف بالمعطيات المخزنة بحواسيبها فتتبخر بالتالي كل مجهودات التثمين و التوثيق التي استغرقت سنوات طويلة و همت الكثير من عناصر التراث الإنساني.