القلب بين زمنين
هوية بريس – د. عبد الله الشارف
“زمنك النفسي، أيها الإنسان، فصلك عن حقيقتك، وأخضع قلبك لمحسوساتك، فشق عليك أن تعقل ما لا تلمسه، وإن عقلته فلا أثر. فإن رمت الحق، أي؛ الله، وجب كسر قيد القلب المقيد، لأن الأول؛ الله، لا يحده شيء؛ (وسع كرسيه السماوات والأرض)، والثاني؛ القلب، قيدته النفس الأمارة. ولن تسطع عليك أنوار الحق، ما لم تتبرأ من القيد وتكسره، إذ نوره لا يرى إلا بنوره؛ (أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها )، (ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور ). وإيمانك به هو الذي زينه في قلبك؛ (ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم). فلا تعبده بنفسك، إذ عبادتك له رحمة منه، وقد تعرف إليك قبل أن تعرفه، وبه عرفته سبحانه ما أجوده.”
إن المراد بالزمن في هذا النص؛ هو الزمن النفسي الشهوي، الذي يفصل الإنسان الغافل عن حقيقته، ويحول بينه وبين عبوديته. وهذا الزمن يقابله الزمن الروحي. فالظالمون، والغافلون، والمشركون، والضالون، وغيرهم من الطوائف المنحرفة، يغيبون أو ينسلخون عن ذواتهم الحقيقية المطابقة للفطرة (يولد الإنسان على الفطرة)، بسبب انصهارهم وذوبانهم في ذلك الزمن النفسي الشهوي، الذي اختزل الزمن كله في الزمن الدنيوي الآني؛ الذي هو “ساعة من نهار بلاغ “. (الأحقاف 34).
ثم إن الإنسان إذا انغمس في الشهوات وركن إليها، حدثت في باطنه نشوة عظيمة ولذة قوية، فيغشاه السكر النفسي، فيفقد العقل والتمييز، حتى يقال فلان أسكره حب الدنيا. وهذا السكر الذي أفقد صاحبه ملكة التمييز، وأضعف عنده قوة النفس العاقلة، جرده بالكلية عن زمنه الروحي المتميز بالإرادة الذاتية، وقوة الوعي واليقظة، والانسجام مع روح المسؤولية والاستخلاف، وألقى به في يم الزمن النفسي الشهوي المظلم؛ لا يسمع ولا يرى، لكونه مستعبدا من قبل هواه، قال تعالى : ” أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون “. (سورة الجاثية : 23).
وعندما أصبح الهوى إلها يعبد، انحرفت وظيفة الحواس عن مقصدها، وحيل بين الإنسان وبين زمنه الروحي الفطري، مما أدى إلى حصول القطيعة بينه وبين السماء فخر منها، فتخطفته مخالب الزمن النفسي الشهوي، فانساق مع لذاته ومتعه المادية، إلى أن يفيق في قبره، ولات حين مناص، أو يتداركه الله سبحانه برحمته.
إن زمنك، أيها الإنسان، الذي فصلك إذن عن حقيقتك، وأخضع قلبك لمحسوساتك، هو زمنك النفسي الشهوي المرتبط بالماديات الفانيات، وبالأوهام والخيالات. إنه الزمن المهيمن على حياتك وكيانك، الزمن الذي يحول بينك وبين معرفة واستحضار الزمن الروحي زمن الآخرة؛ ذلك الزمن الأبدي الخالد الذي سيحياه ويحس به، منعما أو شقيا، كل من فارقت روحه جسده، وانقطعت صلته بالدنيا الفانية. ثم إن المكوث المتواصل في هذا الزمن النفسي المسكر، يؤثر سلبا في القلب ويقيده، وقد يشله. “فإن رمت الحق وجب كسر قيد العقل المقيد”، إذ تستحيل معرفة الله وعبادته والخضوع لأوامره بقلب ميت، مغلول ومقيد.
ومن أبرز أسباب ضياع العقل، أي؛ التعقل؛ الجهل بمقصوده وغايته، وهذا ما يخفى على أغلب الناس؛ إذ الكل يظن أنه يحسن تعقله وفهمه لحياته ووجوده، في حين يبدو للمدقق والمتأمل، أن العقل، أي؛ التعقل، عند معظم الناس، يتجلى في شدة الحرص على المصالح الدنيوية، والرغبات والأهواء والشهوات النفسية، والتفنن في أساليب النفاق والكذب، إلى غير ذلك من الرغبات الدنيئة، وكأن العقل، الذي هو وظيفة من وظائف القلب، خلق لأغراض مادية دنيوية فقط. إن هذا التصور الخاطئ لمفهوم العقل، أي؛ التعقل والفهم، وهذا الاستعمال المنحرف لمقصوده، يدلان على أن الإنسان، إلا من رحم الله، قد حاد عن فطرته، وأخلد إلى الأرض واتبع هواه. فأصبح قلبه مقيدا بتلك الأهواء والضلالات والشهوات المسكرة، مما جعله أشبه بحيوان يعيش داخل كهف مظلم، لأن نور العقل المنبعث من القلب المنيب، قد انطفأ بفعل الأهواء والشهوات والتعلق بالزمن النفسي الشهوي الآني.