إضاءة حول “الإضاءة”
هوية بريس – الصادق بنعلال
لم تقتصر المواقع الإلكترونية وشبكات التواصل الاجتماعي على تحويل العالم من صورته الشمولية إلى مجرد قرية صغيرة كما أصبحنا نقول، فبفضل هذه الثورة العلمية “الكوبرنيكية” تمّ التمكنُ من ربط الاتصال مع مختلف الأفراد والجماعات والمؤسسات في كل البقاع، كما استطعنا أن نطّلع على مختلف المعارف والمعلومات والأحداث بسرعة فائقة بالصوت والصورة عالية الجودة، عبر وسائط الإعلام الحديثة من قبيل الحواسيب والألواح الإلكترونية والهواتف المحمولة.. و بفضل هذا الكم الاستثنائي من الأخبار ، و تحت إيقاع ضغط التحولات الاجتماعية و الثقافية و السياسية النوعية أخذت القراءة الهادئة و المتمعنة للكتب و الصحف و المجلات الورقية تتراجع إلى الوراء ، على اعتبار أن عددا كبيرا من مستعملي هذه الوسائل التواصلية الحديثة لا يقوى على مثل هذا الحدب القرائي “التقليدي”، و مال ميلا ملحوظا إلى البحث عن ضالته عبر فيديوهات و صور حية و أشكال تعبيرية خفيفة ، مثل الوسم (hash tag) والتغريدة (Tweet) والمنشورات مختلفة الشكل والمحتوى، التي يطغى عليها الطابع الذاتي أو الأيديولوجي أو التجاري .. وفي هذا السياق بدأت مؤخرا رغبة من قبل بعض الكتاب الذين يتخذون من الكتابة وسيلة مُثلى لنشر المعلومة الرفيعة، وذلك بالعناية بشكل تعبيري متناهي الصغر، يطمح إلى لعب دور في التأسيس لمحتوى رقمي نبيل، وتعتبر “لإضاءة” من ضمن هذه الأشكال التعبيرية الجديدة. فما هي هذه “الإضاءة”؟ وما هي مرتكزاتها الفنية والموضوعية؟ وما هو المسعى أو الرهان الذي تروم تحقيقه؟
“الإضاءة” شكل تعبيري ونص لغوي قصير جدا، قد يقتصر على كلمة واحدة وقد لا يتعدى ثلاثين كلمة، يستبطن مضامين بشرية بلا حدود، و يستجلي القيم الإنسانية اللامتناهية، عبر قالب لغوي مخصوص ورؤية كونية راجحة. فعلى مستوى البناء الشكلي يمكن القول إن بناء الإضاءة يكون في إطار نسق لغوي إخباري تقريري مباشر، بعيدا عن الصوغ الفني الإيحائي المجازي، مع تجنب جل المفردات والأدوات اللغوية الثانوية أو الإضافية، والاقتصار على الكلمات المفاتيح القادرة على إيصال الفكرة إلى المتلقي عبر معيار بلاغة الحجاج والاستدلال والبرهنة.
أما على المستوى الدلالي، فإن الإضاءة كنص تعبيري يطمح إلى أن يجد له مكانا ضمن باقي الأجناس والأشكال التعبيرية المألوفة، تتجنب أي مسعى أيديولوجي أو سياسي مرسوم مسبقا، وتقتفي أثر كل بوح إنساني هادف، وتعانق القيم البشرية المحيلة على الأخوة والمحبة والسلام والحرية.. لا نهدف في النص – الإضاءة إلى الدفاع عن منطلقات دينية و مبادئ سياسية و مطلقات أيديولوجية ، فكاتب الإضاءة ليس فقيها و لا مبشرا و لا مهيجا للمشاعر القبلية أو العرقية أو العقدية ، لكن هذا لا يعني أننا نكتب بحيادية مطلقة ، و لا ننحاز إلى أي مذهب أو عقيدة ، لقد علمتنا الدراسات الإنسانية في شتى تمظهراتها أن الحياد خرافة لا محل لها من الإعراب، أثناء استقراء الكون و الذات و المجتمع ، كما أننا لا نخفي انحيازنا الواضح والمؤكد ، انحيازنا إلى المشترك الإنساني و العقلانية و الديمقراطية ، سيرا على نهج كبار مؤسسي الفكر العالمي و العربي الحديث و المعاصر .
وكمثال على الإضاءة كشكل تعبيري جديد أستحضر نص صاحب هذه السطور:
“الأيديولوجيات العربية المطلقة؛ القومية والاشتراكية والإسلام السياسي فشلت بسبب تغييب الديمقراطية أداة ورِؤية!”
فنحن هنا لا نصطف ولا نتخندق إلى جانب تيار ضد آخر، ولا نتصدى لأي مكون من المكونات الفاعلة في الواقع العربي سياسيا ودينيا.. بل نؤكد حقيقة شبه رياضية مفادها أن التقدم الحضاري المنشود لن يتبلور بالاحتماء بالأهرامات الأيديولوجية الحدية، بعيدا عن التفعيل العملي للديمقراطية، فعلى مستوى الإجراء الأداتي الملموس: نحيل على وجود أحزاب وطنية مستقلة وانتخابات دورية وحرة، والصراع السلمي على السلطة.. وعلى مستوى المنظور الإنساني الشمولي تؤمن بالقواعد والقوانين الدولية وحقوق الإنسان، وهي لا تتعارض إطلاقا مع خصوصيات المجتمعات المختلفة. وإذا قارنا الإضاءة السابقة بإحدى تغريدات الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب على سبيل المثال:
“لم يتعرض أي رئيس في تاريخ بلدنا لمعاملة سيئة مثلي. الديمقراطيون مشحونون بالكراهية والخوف. ولا ينجزون شيئًا. لا ينبغي السماح بهذا أن يحدث لرئيس آخر. مطاردة الوهم”!
نلاحظ دون عناء، أن هذا المنشور القصير لا يختلف عن الإضاءة على مستوى التشكيل اللغوي، لكنه يتعارض معه جذريا على مستوى مقول الخطاب ، أو المحتوى الدلالي، فالرئيس الأمريكي بصدد الدفاع عن نفسه و الشكوى من “مظلوميته” و “الاعتداء” المعنوي الذي يتعرض له من قبل خصمه السياسي ، الحزب الديمقراطي ، الذي لم يتوان عن وصفه بأنه مشحون بالكراهية و الخوف، و لا يقوم بأي عمل ملموس و يقتصر على مطاردة الوهم، إذن نحن في حمأة الصراع الأيديولوجي / السياسوي المحتد غير الشريف، و هذا يتناقض مع ما تطمح إليه الإضاءة من نشر قيم الأخوة و المحبة و التضامن و الحياد.
وبناء على ما سبق يمكن أن نستنتج أن النص – الإضاءة شكل تعبيري، يصارع من أجل أن يجد لنفسه مكانا تحت شمس وسائل وشبكات التواصل الحديثة، يتخذ من وضوح اللغة وسيلة ومن قصر الحجم نهجا ومن الثقافة الراقية غاية، ومن إنسانية الرؤية مبتدأ وخبرا!
1 – وما من شك في أنه ليس حبا في طلب الشهرة ولا رغبة في التميز وتحقيق الاستثناء المعنوي، ما دفعنا دفعا إلى التفكير في دعم ما أسميناه” بالنص – الإضاءة” والسعي إلى “ترسيمه وشرعنته”. و هكذا و تتمة للمقال السابق حول هذا الشكل التعبيري الجديد ، الذي أخذ يكتسح شبكات التواصل الاجتماعي و المواقع الإلكترونية الإخبارية و الثقافية ، بشكل يثير انتباه المتتبعين نحب أن نضيف ، مزيدا من التوضيح و التنوير ، أننا نتوق إلى فسح المجال للتعبير عن مختلف الأفكار و الآراء و المواقف عبر منشورات قصيرة جدا ، نحترم فيها مجموعة من الضوابط المعجمية والنحوية و الأسلوبية ..إذ نلح على سلامة اللغة من الأخطاء الكثيرة التي نراها في مجمل مقالات الرأي ، و مختلف الأعمدة الصحفية الورقية و الرقمية ، و نؤكد على مبدأ الروية و التبصر ، و نحن نقترح على قرائنا المحترمين ما قد يفيدهم من ومضات ثقافية ، هي نتاج تحصيل معرفي متواصل ، و استكناه لتجليات واقعنا العربي و الإنساني ، سياسيا و ثقافيا و فنيا ..
2 – وقناعتنا الوحيدة هي مناصرة الرأي المستنير والثقافة الرفيعة، بعيدا كل البعد عن الميول السياسوية والأيديولوجية التي لها أصحابها والمدافعون عنها، خاصة في ظل انتشار ظاهرة الاستسهال الإعلامي وتشجيع كل ما يتناقض والقيم الإنسانية السامية. نريد أن نتخذ من هذه الوسائل التكنولوجية المنتشرة في أوساط مستعمليها الكبار والصغار، منصات لتمرير الرسائل الكفيلة بالمساهمة قدر المستطاع في إغناء وعيهم وتقوية ملكاتهم النقدية التحليلية، عبر نص قصير جدا سليم لغة ومضمونا ويقرأ في بضع ثوانٍ. ولئن كنا قد ألمعنا سابقا إلى أن الدين والسياسة على سبيل المثال لا يدخلان في مجال تداولنا واهتمامنا أثناء صياغتنا لهذه الإضاءات، هذا لا يعني أننا نتخذ موقفا سلبيا هروبيا منهما أبدا، لكاتب الإضاءة مطلق الحرية من وجهة نظرنا في طرق كل المواضيع التي تشغل بال الإنسانية، حتى القضايا الدينية والسياسية، لكن من منظور ثقافي إنساني منفتح.
3 – هاجسنا مرة أخرى مخاطبة غالبية قراء اليوم غير المتعودين على تخصيص أوقات كافية لقراءة المؤلفات والمقالات الطويلة، والعمل على انتشالهم من مخالب المضامين والمحتويات السطحية السلبية، التي تقتصر على مخاطبة الغريزة والعاطفة والوجدان.. وأخيرا وليس آخرا، يستحسن ألا تكون الإضاءة استشهادا أو تذكيرا بآراء الفلاسفة ورجال الفكر والمعرفة والفنون، ونرجح أن تكون إبداعا ذاتيا وتصورا شخصيا حول الإنسان والمجتمع والكون، وفيما يلي بعض نماذج النصوص المندرجة في “الإضاءة”.. ذلك الشكل التعبيري الجديد والواعد:
أ – الدين مبادئ وقيم إنسانية رفيعة، تستدعي أن نترجمها قدر المستطاع على أرض الواقع، على أمل بناء عالم خال نوعا ما، من الخوف والظلم والاستغلال، حافل بالأمن والعدل والحرية، والباقي تفاصيل.
ب – الحداثة الشعرية لم تكن يوما ما حذلقة لغوية، أو تمويها تعبيريا بلا أفق، بل كانت وستظل صوغا فنيا ينشد الجمال، ويرنو بحدب إلى التموقف الراجح من الإنسان والحياة والمجتمع.
ج – قوة النادي الرياضي لا تكمن في انتصاراته على المنافسين، بل في الطريقة المقنعة التي يفوز بها، وعلى من يفوز.
د – حرية التعبير لا تعني بحال من الأحوال التحريض على الكراهية، واستفزاز مشاعر الناس واستهداف معتقداتهم الدينية.
ه – لسنا ضد البرامج الترفيهية: الرياضية والغنائية.. لكننا نتوق أيضا إلى برامج تلفزيونية تتعاطى مع القضايا الحيوية للمجتمع، برؤية علمية ومنهجية استدلالية، للمساهمة في نشر الثقافة الراقية والوعي النقدي.