وقفات مع كتابات ومقالات في الممارسة السياسية والأنظمة المعاصرة (ح1)
ذوالفقار بلعويدي
هوية بريس – الأربعاء 01 يناير 2014م
مما أثار حماسي للمشاركة في هذا الموضوع ما لمحته خلال اطلاعي على بعض مقالات وكتابات أخينا الشيخ حماد القباج في السياسة الشرعية، ولولا ما تضمنته هذه جميعها من إطلاقات قد تغر الطامعين في الإصلاح بما قد يقع لهم من تعلق بسراب الديمقراطيةولَمَعَانها الخادع، ما تجشمت خوض غمار هذا الموضوع، إزالة للالتباس حتى لا يصيب إخواني من خيبة أمل لم يكونوا يتوقعونها من نظام سياسي، إذا هم جاؤوه يوما يغازلونه، لم يجدوا شيئا يحميهم وينصفهم ويرفع الظلم عنهم.
بين مبدأ السيادة للشرع ومبدأ السيادة للأمة والشعب!
بادئ ذي بدء فإنه كما لا يخفى على أحد أن من أهم الأسس التي تنص عليها أغلب الدساتير المعاصرة هو مبدأ «السيادة للأمة»، وهذا المبدأ هو في الأصل يقوم على نظرية فرنسية فلسفية تقوم على خلفية “بما أن الشعب هو صاحب الأرض، فالسيادة للشعب“. أي أن الشعب هو صاحب السلطة العليا المطلقة، حيث لا إرادة فوق إرادته، ولا سلطان فوق سلطانه. وهذا يستلزم أن يكون القانون من صنع الشعب، ومن ثم فكل ما يراه الشعب حسنا فهو حسن، وكل ما يراه قبيحا فهو قبيح. والشعب عن طريق ممثليه لا يملك عليه أحد أي سلطان، في تشريع ما يراه موافقا لمتطلبات الشعب. كما أن أفراد الشعب هم المنفذون لقرارات وتشريعات ممثلي الشعب.
ونظرية السيادة للشعب أو الأمة، هي نظرية نسبيا تتماشى مع الواقع الغربي، حيث أن الشعوب الغربية هي التي صنعت أنظمتها، وتناقلت أجيالها في تجديدها تصحيحا وتقويما تبعا لما أظهرته التجارب الميدانية، من نقص وقصور، على أمل تحقيق نظام منشود.
وهذا خلافا للشريعة الإسلامية فهي ليست من صنع المسلمين، ومن ثم فليس شأنها شأن القوانين الوضعية في بلاد الغرب التي هي من صنع الإنسان الغربي. بل العكس، الإسلام هو الذي أنشأ المسلمين، وما يفعله المسلمون لا يكون إسلاما إلا إذا كان موافقا لما جاء به الإسلام.
ومن ثم فنظرية السيادة للشعب داخل المجتمعات الإسلامية، هي نظرية دخيلة على المجتمع المسلم. فالأمة المسلمة لا إرادة لها ولا خيار لها في الخضوع والاحتكام لما جاء به الإسلام. وبالتالي فمن لا إرادة له فلا سيادة له. وإنما السيادة للشرع الذي هو صاحب السلطة العليا المطلقة داخل المجتمع المسلم، حيث لا إرادة فوق إرادة الشرع، ولا سلطان فوق سلطانه. أما الأمة -إن خول لها أن تسود في أمر- فهي فقط تنتخب من يطبق الشرع.
وإذا كان كل من النظرية الغربية والشريعة الإسلامية اتفقتا على أن مدلول السيادة يشمل معنى السلطة العليا والإرادة المطلقة. إلا أن النظرية الغربية جعلت هذه السيادة للشعب، والشريعة الإسلامية جعلتها للشرع. فإن القضية إذن هي إما إقرار بسيادة الله على البشر بقبول شرعته وطاعة أمره، حيث مع مبدأ السيادة للشرع لا استمداد يكون إلا من الشرع، وهذا هو الإسلام. وإما هي إقرار بسيادة الأمة حيث المرجعية والتلقي يكون من الشعب، وهذا يقتضي ضمنيا رفض شريعة الله في الأرض، وهذه هي الديمقراطية.
إنها قضية مبدأ، ومبدأ الشيء قاعدته الأساسية التي يقوم عليها ولا يخرج عنها، وهذا واقع كل نظام ومذهب ودين. حتى أنك لتتلمس أثر تجلي المبدأ وهيمنته الكاملة في التشريع والنظام، وفي العدالة والقانون، وفي الأدب والخلق، وفي المعاملة والسلوك، وفي الاقتصاد والاجتماع، وفي السياسة والمدنية،وفي كل شأن من شؤون الحياة. فلا تكاد تفقد أثر سيادة المبدأ في أحد هذه الصور.
إنهما قطاران، وجهة سكة كل واحد منهما على عكس وجهة سكة الآخر. فقطار المجتمع الإسلامي ثابت على سكة الشريعة، ولا يستطيع قائد القطار أن يوجه القطار في غير وجهة السكة. وكذلك قائد قطار الديمقراطية لا يستطيع وإن كان إسلاميا أن يوجه القطار في غير وجهة سكة حكم الشعب، لأن السكة هي التي تتحكم في وجهة القطار، أما القائد فحسبه أن يتحكم في سيره. فكل ما في المجتمع الإسلامي يقوم على مبدأ السيادة لله، وكل ما في المجتمع الديمقراطي يقوم على مبدأ السيادة للشعب.
ولينظر كل منا من حوله، وليكتشف أي صورة من صور الواقع يسيطر عليها مبدأ إن الحكم إلا لله، الذي هو قاعدة الإسلام. حتى يكتشف على مثن أي قطار هو راكب، وأي وجهة هو آخذ؟
ومثل الديمقراطية ومبدأ السيادة للشعب، كمثل خيمة لها أطناب تمسك أرجاءها، وعمود في باطنها لا قوام للخيمة إلا به، حيث إذا سقط العمود سقطت الخيمة. فالديمقراطية هي الخيمة، ونظرياتها في السياسة وحرية المعتقد وحرية الرأي والحرية الشخصية هي الأطناب، ومبدأ السيادة للشعب هو العمود الذي يحمل خيمة الديمقراطية في وسطها، فإذا سقط مبدأ حكم الشعب في التشريع سقطت الديمقراطية. وإذا كان لا قوام للديمقراطية إلا بمبدأ السيادة للشعب حيث تلتصق به ويلتصق بها التصاق الحكم بعلته تدور معه وجودا وعدما. فكذلك الإسلام فلا قوام له إلا بمبدأ السيادة للشرع. وإلا فكثير من الخلائق كانوا يجمعون بين الاعتراف بسيادة الله في الخلق، والاعتراف لغيره بالسيادة في الحكم والأمر والتصرف والتشريع.
وعلى هدم مبدأ السيادة لغير الله، دعا الإسلام أهل الكتاب مستنكرا ومشنعا عليهم في قوله تعالى: ﴿اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله﴾(1)؛ هم لم يكونوا يسجدون لأحبارهم ولا كانوا يركعون لهم، وإنما جعلوا لهم السيادة المطلقة في تشريع الأحكام.
إن شكل الأحبار والرهبان فقط هو الذي تغير في بلاد الغرب، أما مبدأ السيادة لغير الله فهو لا زال قائما لحد الآن في شكل السيادة للشعب. إنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم مشرعين من دون الله، ثم لم يلبثوا أن اتخذوا شعوبهم، لم يتغير إلا الإطار تحت مسمى الديمقراطية.
إنه لا يمكن، بل يستحيل عقلا، أن نرفض السيادة لغير الله في صورة أحبار ورهبان، ثم نقر بها في صورة شعب أو مجتمع أو الناس أجمعين. إنه موقف في غاية التناقض والاضطراب؛ فكلها سيادة لغير الله!!
هذا أمر لا يجوز إغفاله البتة. أما التهوين من خطره، بإشاعة القول بوجود ديمقراطية في الإسلام، مع أن مبادئه تأباها. فهو هدم للأساس الذي يقوم عليه الإسلام، وترويض للعقول، وتوجيه لها، واستدراج بها إلى جهة الديمقراطية.
وأي تهوين للإسلام يزعزع اليقين، ويخلخل الثقة، ويشوه الحقيقة، ويضلل الأمة، ويزيل عنها حرج الانغماس في مستنقع الديمقراطية، أشد من تزيين الديمقراطية في عين الناظر حتى يكاد يراها إسلاما؟
وأي تزيين للديمقراطية أشد من قول القائل ونقل الناقل مثل قول العلامة الحجوي الثعالبي رحمه الله: “فمن زعم أن شريعة الإسلام أرستقراطية لم يصب، بل هي ديمقراطية حقة؛….”(2).
وكذا مثل قول وهبة الزحيلي: “الإسلام هو أول من أقام للديمقراطية عرشها بعد أن كانت معدومة عند الأمم،…”، وقوله: ” وإذا ما دققنا النظر في نظام الإسلام الديمقراطي …”(3).
إنه ليس غريبا أن نجد من بين الدعاة أو العلماء من يغم عليه أمر الديمقراطية أو يحسن الظن بها، لعدم ظهور أمرها تماماً عند بزوغ نجمها، كما قد غم أمر الاشتراكية على بعضهم قبل أفولها. أما وقد صارت معالم فسادها واضحة شرعا وواقعا(4) بلا غموض يطمسها. فهو الغبش الذي أحاط بمدلول السيادة لله.
وهل ترضى الديمقراطية -بأكثر مما حققته لها دساتير الأرض- من ألا يكون للإسلام سيادة فوق سيادتها؟!!
يتبع…
ـــــــــــــــــــ
1- سورة التوبة الآية 31.
2- نظام الحكم في الإسلام (ص:12)، تأليف عادل رفوش وحماد القباج.
3- نفس المصدر (ص:13-14).
4- انطلاقا من الجزائر، ووقوفا عند مجازر البوسنة والهرسك، ومرورا بانقلاب الفلسطينيين على حكومة حماس، ووصولا إلى الأحداث الأخيرة في كل من تونس وليبيا ومصر، وانتظارا إلى ما ستنتهي إليه سوريا -لا قدر الله- من خراب أكثر مما هي فيه.