مقالات في السياسة الشرعية وتطبيقاتها المعاصرة (ح11)
ذ. حماد القباج
هوية بريس – الأربعاء 01 يناير 2014م
أصول ومبادئ نظام الحكم الإسلامي
الأصل الأول: الحكم لله تعالى (تابع)
إن مسألة “وجوب الحكم بما أنزل الله”، ووجوب تحكيم الشريعة -في السياسة وغيرها- مسألة قطعية في الفقه الإسلامي:
قال الله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:49،50].
وقال عز من قائل: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ، إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ، هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [الجاثية:18-20].
وقال سبحانه في بيان خطورة كراهية ما أنزل الله من أحكام وتشريعات: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:9].
فلا صلاة ولا صيام..، لمن علم حكم الله في أمر ثم كرهه، ولذلك كانت كراهية شرع الله تعالى والإعراض عنه والتحاكم إلى غيره من صفات المنافقين:
قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا}.
وقال عز وجل: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47].
بل اتفق العلماء على أن من ترك الحكم بما أنزل الله معتقدا جواز ذلك فقد كفر؛ لقول الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44].
والمراد بالحاكم بغير ما أنزل الله: الذي يتعمد تحريم الحلال أو تحليل الحرام؛ ومنه إسقاط الواجب.
وحكم فعله: التحريم القطعي؛ وهو من الكبائر بناء على التعريف الشرعي للكبيرة[1].
أما حكم الفاعل؛ فيتفاوت بحسب قصده ونيته:
– فالمتعمد[2] المستحل[3] كافر كفرا ينقض إسلامه.
– والمتعمد المتأول تأويلا باطلا فاسق آثم[4].
– والمتعمد المكره قد يعذر شرعا، وقد لا يعذر فيكون ظالما.
– والجاهل معذور في الأصل وقد يؤاخذ على التقصير في معرفة الحق[5].
والتفصيل في الحكم باختلاف المقاصد؛ هو مذهب السلف، خلافا للخوارج والمكفرة:
قال الإمام الآجري: “ومما يتبع الحرورية من المتشابه قول الله عز وجل: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}؛ فإذا رأوا الإمام يحكم بغير الحق؛ قالوا: قد كفر”[6].
وقال أبو حيان الأندلسي: “احتجت الخوارج بهذه الآية على أن كل من حكم بغير ما أنزل الله فهو كافر، وكل من أذنب فقد حكم بغير ما أنزل الله فوجب أن يكون كافرا”([7]).
وقد شرح الشيخ الألباني المسألة شرحا حسنا؛ فقال([8]):
“لا يجوز تكفير بعض الحكام المسلمين وقضاتهم الذين يحكمون بغير ما أنزل الله من القوانين الأرضية وإخراجهم من الملة إذا كانوا مؤمنين بالله ورسوله، وإن كانوا مجرمين بحكمهم بغير ما أنزل الله.
وسر هذا؛ أن الكفر قسمان: اعتقادي وعملي؛ فالاعتقادي مقره القلب، والعملي محله الجوارح؛ فمن كان عمله كفرا لمخالفته للشرع، وكان مطابقا لما وقر في قلبه من الكفر به، فهو الكفر الاعتقادي، وهو الكفر الذي لا يغفره الله، ويخلد صاحبه في النار أبدا.
وأما إذا كان مخالفا لما وقر في قلبه، فهو مؤمن بحكم ربه، ولكنه يخالفه بعمله، فكفره كفر عملي فقط، وليس كفرا اعتقاديا، فهو تحت مشيئة الله تعالى إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له، وعلى هذا النوع من الكفر تحمل الأحاديث التي فيها إطلاق الكفر على من فعل شيئا من المعاصي من المسلمين، كقوله عليه السلام:
1- “اثنتان في الناس هما بهم كفر، الطعن في الأنساب والنياحة على الميت” رواه مسلم.
2- “سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر” رواه مسلم.
وقد جاء عن السلف ما يؤكد هذا المعنى؛ وهو قولهم في تفسير الآية: “كفر دون كفر“، صح ذلك عن ترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنه، ثم تلقاه عنه بعض التابعين وغيرهم؛ من ذلك:
1- روى ابن جرير الطبري (10/355/12053) بإسناد صحيح عن ابن عباس: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} قال: “هي به كفر، وليس كفرا بالله وملائكته وكتبه ورسله”.
2- وفي رواية مفسرة: “إنه ليس بالكفر الذي يذهبون إليه، إنه ليس كفرا ينقل عن الملة؛ كفر دون كفر”. أخرجه الحاكم (2/313) وقال: “صحيح الإسناد” ووافقه الذهبي، وحقهما أن يقولا: على شرط الشيخين.
3- و في أخرى عنه من رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: “من جحد ما أنزل الله فقد كفر، ومن أقر به ولم يحكم فهو ظالم فاسق”. أخرجه ابن جرير (12063).
قلت: وابن أبي طلحة لم يسمع من ابن عباس، لكنه جيد في الشواهد.
4- ثم روى (12047-12051) عن عطاء بن أبي رباح قوله: (وذكر الآيات الثلاث): “كفر دون كفر، وفسق دون فسق، وظلم دون ظلم”. وإسناده صحيح.
5- ثم روى (12052) عن سعيد المكي عن طاووس (وذكر الآية) قال: “ليس بكفر ينقل عن الملة”. وإسناده صحيح.
وقد اختلف العلماء في تفسير الكفر في الآية الأولى على خمسة أقوال ساقها ابن جرير (10/346 – 357) بأسانيده إلى قائليها، ثم ختم ذلك بقوله (10/358): “وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب قول من قال: نزلت هذه الآيات في كفار أهل الكتاب، لأن ما قبلها وما بعدها من الآيات ففيهم نزلت، وهم المعنيون بها، وهذه الآيات سياق الخبر عنهم، فكونها خبرا عنهم أولى.
فإن قال قائل: فإن الله تعالى ذكره قد عم بالخبر بذلك عن جميع من لم يحكم بما أنزل الله، فكيف جعلته خاصا؟
قيل: إن الله تعالى عم بالخبر بذلك عن قوم كانوا بحكم الله الذي حكم به في كتابه جاحدين، فأخبر عنهم أنهم بتركهم الحكم -على سبيل ما تركوه- كافرون، وكذلك القول في كل من لم يحكم بما أنزل الله جاحدا به هو بالله كافر، كما قال ابن عباس، لأنه بجحوده حكم الله بعد علمه أنه أنزله في كتابه، نظير جحوده نبوة نبيه بعد علمه أنه نبي”اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في تفسير آية الحكم المتقدمة في مجموع الفتاوي (3/268): “أي هو المستحل للحكم بغير ما أنزل الله”.
ثم ذكر (7/254) أن الإمام أحمد سئل عن الكفر المذكور فيها؟ فقال: “كفر لا ينقل عن الإيمان، مثل الإيمان بعضه دون بعض، فكذلك الكفر، حتى يجيء من ذلك أمر لا يختلف فيه”.
[1]– كل ذنب عظم الشرع التوعد عليه بالعقاب وشدده، أو عظم ضرره في الوجود فهو كبيرة. انظر: تفسير القرطبي (5/160).
[2]– معناه: يعلم حكم الله ويتعمد الحكم بغيره.
[3]– أي: يرى ذلك جائزا ولو اعتقد أن حكم الله أحسن.
[4]– وقد يلحق بالجاهل في أحوال؛ منها أن يكون متبعا لعالم سوء يلبس عليه الأمور ويزين له تحليل حرام أو تحريم حلال..
[5]– وهذا قد لا يتصور في غير المسائل الدقيقة التي ثبت حكمها الشرعي بالاجتهاد.
[6]– في كتابه الشريعة (ص:31-32).
[7]– البحر المحيط (3/493).
[8]– السلسلة الصحيحة (6/51).