خطبة جمعة بعد عدوان حزيران 1967
هوية بريس – د.محمد بن الحسن الباز
تعتبر الخطب الدينية بوصلة لقياس مستويات الغيرة الدينية وردود الفعل في النفوس عند تعرض كيان الأمة ومقدساتها لأي عدوان أجنبي، كما تعد من أقوى وسائل التعبئة للانخراط الجماعي والنفير العام والمشاركة الفعالة لسائر الأمة في حفظ الدين والملة وحماية النفوس والأعراض وصيانة الرباع والقلاع، خاصة غداة الحروب واندلاع الحركات الجهادية التحررية، وتنزيل المشاريع الفكرية الإصلاحية الكبرى.
ويزخر تراث العلماء والصلحاء بما يعكس هذه الحقيقة الجلية، مثل خطب العلماء في تحريم الحمايات القنصلية وبيان أخطارها على السيادة الوطنية والقيم الدينية في نهاية القرن التاسع عشر، كما يؤرخ لذلك مثلا أستاذنا المرحوم العلامة محمد المنوني في كتابه مظاهر يقظة المغرب الحديث (1 /326-347). ومنها خطب لعلال بن عبد الله الفاسي ( ت 1314ه 1896م، ألقى إحداها بمحضر السلطان الحسن الأول وهي بعنوان: إيقاظ السكارى المحتمين بالنصارى، أو: الويل والثبور لمن احتمى بالبصبور. (انظر: محمد كنبيب، المحميون، منشورات كلية آداب جامعة محمد الخامس، الرباط، ص 236-237. وانظر عن علاقة اليهود بالحمايات القنصلية: فصل الحماية القنصلية والتحالف اليهودي الفرنسي، من كتاب عبد الكريم غلاب: قصة المواجهة بين المغرب والغرب، ط 1، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ص 116-138).
ووقع الأمر نفسه عند صدور الظهير البربري في 16 ماي 1930، وهو الذي سعت من خلاله فرنسا نحو التقسيم القضائي للمغرب إلى مناطق الشرع وأخرى للعرف، تمهيدا لإحلال قوانينها الوضعية الاستعمارية محل الشريعة الإسلامية، وزرع الانقسام بين المكونين الأساسيين في بنيته السكانية من العرب والأمازيغ، فضلا عن محاولة نشر الكاثوليكية حسب ما تفيده بعض الوثائق والدراسات.
وقد خرجت المظاهرات من القرويين بعد صلاة الجمعة بمشاركة أربعة آلاف من العلماء والطلبة والمواطنين من شيوخ وشبان، كما ذكر ذلك – على سبيل المثال – العلامة المرحوم القاضي سيدي رشيد المصلوت في فهرسه العلمي، وقد كان هو شخصيا يحمل لا فتة مكتوب عليها: ” اللهم يالطيف نسألك اللطف في ما جرت به المقادر، ولا تفرق بيننا وبين إخواننا البرابر.” ( انظر: رشيد المصلوت، الفهرس العملي، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء،1989، ص 7. والمصطفى الريس: السياسة البربرية الفرنسية في المغرب من خلال مجلة الفتح، ط1، منشورات الحكمة، تطوان، 2022،ص 138.)
وكذا عند قيام حركات الجهاد ضد المستعمر الفرنسي، كما أرخ لذلك مثلا المرحوم العلامة محمد المختار السوسي في المعسول عند قيام حركة أحمد الهيبة التحررية بعد توقيع معاهدة الحماية سنة 1912.
وقد ظلت القضية الفلسطينية حاضرة في وعي المغاربة ووجدانهم بما فيهم النخب الدينية والفكرية والسياسية، كما تؤرخ لذلك الكتابات التي عاصرت القضبة منذ بدايتها، وفي مقدمتها مقالات صحيفة الميثاق الناطقة باسم رابطة علماء المغرب وتوصيات مؤتمراتها الدورية، ومؤلفات بعض أعضائها المؤسسين مثل الأستاذ ادريس الكتاني رئيس نادي الفكر الإسلامي.
وكانت للأحداث الواقعة في فلسطين أصداء قوية في خطب الجمعة كما هو الشأن في هذه الخطبة التي أسوقها هنا للمرحوم الوالد سيدي محمد بن الحسن الباز (ت1994)،( انظر ترجمته في معلمة المغرب 3/ 989-990، وجريدة العلم، ع 19437، بتاريخ 7 غشت، 2003،ص5)، ألقاها في الجامع الكبير بمدينة تزنيت عقب العدوان الصهيوني الغاشم في 5 حزيران سنة 1967، وهو الذي وصفت نتيجته في الأدبيات العربية المعاصرة بالنكسة، غداة الحكم القومي والاشتراكي في دول المواجهة. وهذا نص الخطبة المؤرخة بالجمعة 6 ربيع النبوي 1387ه الموافق 14 يونيو 1967:
الحمد لله العليم بما في الكون من حوادث وخطوب، البصير بما حل بالمسلمين من شدائد وكروب، وما نالهم من أمم المدنية ودعاة الحضارة كما يزعمون.
أشهد أن لا إله إلا هو، يغير العالم من حال إلى حال، فيضع أمما قد بغت وطغت، ويرفع أخرى قد جدت وجاهدت، يذل من اغتر بقواه، ونسي خالقه ومولاه.
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين أقاموا الدين، وكانوا لأمره سامعين مطيعين.
أما بعد فيا عباد الله: قد قال الله تبارك وتعالى: ( وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا، وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا.) ( سورة الإسراء، الآية 16-17).
وقال أيضا: ( وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً.) (سورة الأنفال، الآية 25.)
وقال أيضا: (أَمْ حَسِبْتُمُ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولُ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ.) (سورة البقرة، الآية 214.)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في ما رواه البخاري في صحيحه: ” لَا إِلَه إِلَّا الله، ويلٌ للْعَرَب من شرٍّ قد اقْترب. فتح الْيَوْم من ردم يَأْجُوج وَمَأْجُوج مثل هَذِه ” وَحلق بإصبعه الْإِبْهَام وَالَّتِي تَلِيهَا. فَقَالَت زَيْنَب بنت جحش: فَقلت: يَا رَسُول الله، أنهلك وَفينَا الصالحون؟ قَالَ: ” نعم، إِذا كثر الْخبث “.( متفق عليه). وقال أيضا: «لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقْبَضَ العِلْمُ، وَتَكْثُرَ الزَّلاَزِلُ، وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ، وَتَظْهَرَ الفِتَنُ، وَيَكْثُرَ الهَرْجُ – وَهُوَ القَتْلُ … الحديث، ( أخرجه البخاري، باب ما قيل في الزلازل والآيات، الحديث 1036، ط 1، دار طوق النجاة، 1412ه، ج 2، ص 23.)
أيها المسلمون: لقد سمعتم كلام ربكم وحديث نبيكم، وسمعتم ما وقع لإخوانكم العرب من الاعتداء الصهيوني وحلفائه على بلدانهم وتشريدهم وتقتيلهم، والاستيلاء عليهم. وصار الصهاينة يتحكمون في رقاب المسلمين وأموالهم وديارهم.
إن هذه الكارثة العظمى كارثة وطنية إسلامية وعربية. إن الأمة العربية خانت نفسها أولا وربها ثانيا، فلم تتوحد صفوفها في ما بينها أولا وما بين الأمة الاسلامية جمعاء ثانيا.
إن الأمة الإسلامية زاغت عن الطريق، وتركت الكتاب والسنة وتقاليدها الدينية، واقتفت أثر الأمم الأجنبية على قدم واحدة؛ حرمات الدين تنتهك، وألسنة لا تنطق إلا بفحش القول والطعن في الدين. وأيد ممتدة إلى ما حرم الحكيم، منقبضة عما أحل الدين، وآذان إلى الشر صاغية، وعن سماع الخير لاهية، تسمع المنكرات فتطمئن إليها، وتود الاستزادة منها. وتسمع القرآن فتصرف عن آياته. وتسمع حديث الناس فتصغي إليه. والخمر منتشرة، وصار شربها من التقدم والحضارة.
وأما الزنى فهو من أكبر المصائب وأقبحها في المجتمع. ويتنافس المتنافسون في إكراء دورهم للعاهرات والزانيات بأغلى ثمن. ولا يدري هؤلاء أنهم هم المسؤولون أولا عن هذا الوباء العظيم، ثم السكان ثانيا، لأنهم راضون ساكتون، ولا يأتي دور السلطة إلا في المرتبة الثالثة.
أفبعد ذلك كله يطلب المسلمون العزة والنصرة في ديارهم وحروبهم. وهل تعز أمة هجرت دينها ونبذت كتاب ربها. أمة اتخذت شهواتها مناها، وأغراضها مسعاها. أمة عهودها منقوضة، ووعودها مكذوبة، تقلبها الأغراض ذات اليمين وذات الشمال.
حرام أن يهان الدين والمسلمون ساكتون، حرام أن تنتهك حرمات الدين والمسلمون متفرجون، حرام أن يتحد الأعداء على المسلمين وهم في الأغراض الشخصية والسياسية مشتغلون.
عباد الله: إن واجب الدين والوطن يهيب بكم أن تمدوا يد المساعدة لضحايا الاعتداء الصهيوني في الشرق العربي، وابذلوا أموالكم بسخاء وحماس. وفي ذلك فليتنافس المتنافسون. ولبوا نداء صاحب الجلالة الحسن الثاني نصره الله، واقتدوا به واسلكوا سبيله، ولكم في رسول الله إسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا.