محمد الفاضل ابن عاشور وقضية فلسطين 1909-1970
هوية بريس – د.الحسن الباز
تشكل القضية الفلسطينية أكبر الظواهر السياسية التي مثلت تحديا كبيرا للنخب الفكرية والدينية والسياسية في العالم العربي. ومما زاد من حجم هذا التحدي أن الحركة الصهيونية نشأت في ظل الاستعمار الأوربي للعالم الإسلامي واستفادت من ظروف التحكم الامبريالي في رقاب الشعوب العربية المستضعفة خاصة الشعب الفلسطيني.
وممن تصدى لهذا التحدي الخطير مؤسسة العلماء خاصة منهم من جمع بين التكوينين الأصيل والحديث.
ومحمد الفاضل ابن عاشور نموذج حي لهذا النوع من العلماء والمفكرين المعاصرين نظرا لما تميز به من متانة التكوين العلمي وسعة الأفق الفكري وعمق التجربة السياسية. وسنقف على ذلك من خلال الفقرات الآتية:
روافد وموارد
لا شك أن لكل العوامل المستخلصة من السيرة العلمية للفاضل ابن عاشور أثرا قويا في همومه واهتماماته وعطاءاته الفكرية المتنوعة:
فهو الناشئ في حضن والده العلامة المشارك محمد الطاهر ابن عاشور شيخ الزيتونة، ومفتي المالكية، وصاحب تفسير التحرير والتنوير، والمهتم بالسنة النبوية ومصادرها، خاصة صحيح البخاري والموطأ، فألف عن الأول كتاب النظر الفسيح، وعن الثاني كشف المغطى . وهو أيضا الفقيه المفتي من خلال فتاواه التي جمعها ونشرها الدكتور محمد بوزغيبة (ط2، الدار المتوسطة، أريانة، تونس، 2015م.). والأصولي المقاصدي بكتابه مقاصد الشريعة الإسلامية، والمهتم بالقضايا المعاصرة بمثل كتابه نقض الإسلام وأصول الحكم لعلي عبد الرازق، وكتابه أصول النظام الاجتماعي في الإسلام. فضلا عن متانة تكوينه اللغوي والبلاغي واهتمامه بفنون البيان والتواصل، كما هو واضح في المباحث اللغوية والجمالية في تفسيره، وخدمته لبعض الدواوين الشعرية بالتحقيق والشرح، وتأليفه كتاب أصول الإنشاء والخطابة ( من تحقيق ياسر المطيري، ط 1، دار المنهاج، الرياض، 1433ه). فضلا عن الإقصاء والتجاهل اللذين تعرض لهما نتيجة موقفه من بعض آراء الرئيس بورقيبة من الثوابت الدينية القطعية.
وسار ابنه محمد الفاضل على هذا المسار من خلال الجمع بين التكوين العلمي الأصيل الذي تلقاه من جامع الزيتونة، والانفتاح على التكوين الحديث من خلال انخراطه في الدراسة بالمدرسة العليا للغة والآداب بتونس، وانتسابه إلى كلية الآداب بجامعة الجزائر. و بذلك تيسرت له المشاركة في علوم الشريعة واللغة والآداب والتاريخ والحضارة.
وهذا التكوين المزدوج بين العلوم الشرعية والعلوم الأدبية واللغوية أهله إلى أن يباشر التدريس في كل من الزيتونة، ومعهد الدراسات الإسلامية، والمدرستين الصادقية والخلدونية اللتين أسستا للجمع بين التكوين الأصيل والتأهيل الحديث. كما جعلت منه عالما مشاركا عميق التبحر في الفقه المالكي والدراسات المقارنة واستثمار الإلمام بتاريخ الإسلام وحضارته، فضلا عن التمكن من فنون المناظرة وآداب الجدل والخلاف، وقوة الخطابة وفنون البيان. وقد نظم أناشيد وطنية سنة 1393ه محافظة على روح التوجيه الوطني للشباب، وتحديا لمحاولة حكومة فيشي الفرنسية فرض أناشيد أجنبية على طلبة المدارس.
وكان رئيسا للجامعة الزيتونية، وعميدا لكلية الشريعة وأصول الدين منذ تأسيسها سنة 1961 إلى وفاته سنة 1970. وشغل مناصب قضائية من بينها رئاسة المحكمة الشرعية العليا.
وبالمستوى نفسه مارس خطة الفتوى، وانخرط في نشاط واسع من المحاضرات والخطب والمناظرات.
وفي السياسة تراءس الاتحاد العام التونسي للشغل عند تأسيسه سنة 1946، كما عُيِّن في الديوان السياسي للحزب الحر الدستوري الجديد. لكن لم يستمر في هذه المكانة إذ سرعان ما استبعد خوفا من تأثيره الكبير.
وكان عضوا في مجمع اللغة العربية بالقاهرة، وشارك عدة مرات في مؤتمرات المستشرقين، إحداها بإستنبول رفقة والده الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور سنة 1951، وألقى فيه محاضرة باللغة الفرنسية عن كتاب ابن حزم في الاحتجاج لمذهبه ضد القياس، مما يدل على إتقانه للغة الفرنسية التي تلقاها من أساتذة خصوصيين.
وقد خلف أكثر من عشرة كتب، وأغلب آثاره العلمية محاضرات ألقاها في المؤسسات التي درس بها، وفي بلدان معينة أخرى، حول القضايا ذات الأولوية في اهتمام العالم العامل والمثقف العضوي، كما يسمى في بعض الأدبيات المعاصرة.
وتدل كثير من أعماله على الوعي بسياق طبيعة العلاقة بين العالم الإسلامي والعالم الغربي الاستعماري، وجذور التدخل الأجنبي في البلدان الإسلامية، مثل محاضرته عن صدمة الاحتلال، ( انظر: محمد الفاضل ابن عاشور، الحركة الأدبية والفكرية في تونس في القرنين 13-14ه /19-20م، بيت الحكمة، قرطاج، 2009، ص 23-65). وقد اهتم بإبراز تاريخ المقالة السياسية وتطور الخطابة الدينية في تونس.
ونظرا للإشعاع العلمي الذي حظي به تم استدعاؤه إلى المشاركة في الدروس الحسنية بالخصوص سنتي 1966و 1968 وألقى محاضرات في بعض المدن المغربية، مثل فاس وتارودانت، وقد طبعت بعنوان: المحاضرات المغربية.
وعندما قدمنا إلى الدراسة في معهد محمد الخامس بتارودانت سنة 1968، وجدنا أثر المحاضرة التي ألقاها بهذه المؤسسة – قبل التحاقنا- حديث الكثير من الطلبة. وهي سنة سارت عليها تلك المؤسسة قبل ذلك وبعده، مما جعل سجلها الذهبي حافلا بأسماء وازنة ممن زاروها وحاضروا فيها، مثل الفيلسوف محمد عزيز الحبابي، والداية عبد العظيم أبو المجد، والمفكر المهدي بن عبود، والدكتور رشدي فكار، وعالم الاجتماع الدكتور علي عبد الواحد وافي، والعلماء حسن الزهراوي، وعبد الله كنون، ومحمد المكي الناصري، وادريس الكتاني، ومحمد العثماني، وأحمد عبد الرحيم عبد البر وغيرهم. ( ومعظم هؤلاء تشرفنا .بحضور محاضراتهم، وقد ذكر بعضهم في الكتاب التذكاري لأساتذة معهد محمد الخامس بتارودانت 1956-2005، للدكتور عمر أفا، ط 1، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، نشر دار السلام، الرباط، 2021، ص 13.)
والمقام ليس مخصصا لتتبع آثار الفاضل ابن عاشور العلمية التي يتجلى فيها بالخصوص استثمار تكامل العلوم والمعارف، والاستفادة من الخبرة السياسية، والوعي بتفاعلات الواقع، والتمكن من مهارات التواصل والتفاوض والخطابة وصناعة الرأي العام، ولكننا نقتصر هنا على جانب واحد مما شمله إنتاجه الفكري ونشاطه السياسي وإشعاعه الاجتماعي، هو قضية القدس وفلسطين.
السياق والنطاق
اتخذ ابن عاشور من الجمعية الخلدونية مقرا للإصلاح الفكري والتوجيه السياسي منذ سنة 1945. وألقى بهذا الصدد سلسلة من المحاضرات، واستقدم علماء ومفكرين آخرين لتناول قضايا العالم الاسلامي ومشاكله وتاريخه. فألقى عدة محاضرات عن الاستعمار الفرنسي والبريطاني والإيطالي والهولندي، وجرائمهم ضد الشعوب الافريقية والآسيوية، كما تحدث عن حرب الهند الصينية والغزو الروسي للشعوب الإسلامية الآسيوية.
وفي هذا الإطار كانت محاضراته الست عن القضية الفلسطينية، مع دوام الربط والاستشهاد بواقع البلاد التونسية في صراعها مع الاستعمار الفرنسي، لتحريك الشعور الوطني والديني. فجمع بين التأصيل العلمي لقضية القدس وفلسطين، والوعي بالسياق التاريحي ومعطيات التدافع الدولي المعاصر.
محاضرات القضية الفلسطسنية
ألقى سلسلة من المحاضرات مابين نونبر 1947 وأبريل سنة 1948. وعناوينها كالآتي: ( انظر الدكتور حسن المناعي، الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور، مسيرته العلمية والإصلاحية، ط مركز النشر الجامعي، منوبة، ص 134- 135.)
1- تحقيق في نسب يهود.
2- المذهب الصهيوني ومساسه بالسياسة العالمية.
3- الانتداب البريطاني منشأ المشكلة الصهيونية.
4- الثورة الفلسطينية الكبرى.
5- القضية الفلسطينية بعد الكتاب الأبيض (1939).
6- لجان البحث الدولية في فلسطين وبرامجها.
وقد جعل الشيخ لهذه المحاضرات الست عنوانا عاما معبرا هو: “فلسطين الوطن القومي للعرب”.
وسياق هذه المحاضرات هو الوقوف في وجه الحملات الدعائية الصهيونية التي لقيت دعما هاما من الصحف الاستعمارية، فأثرت في بعض التونسيين الذين بلغ بهم الأمر إلى حد اتهام الشيخ الفاضل بأنه وراء إثارة فتنة داخلية مع اليهود التونسيين .( م س، ص 135).
ومن أهم الخلاصات والمقررات في المحاضرات الست: ( حسن المناعي، م س، ص 135- 136.)
1- إن فلسطين منذ عرفها التاريخ كان سكانها هم العرب.
2- إنه كلما أقام فيها اليهود كانت إقامتهم فيها بلا سيادة، إلا فترة الملوك من القرن العاشر إلى القرن الثامن قبل الميلاد.
3- إن التاريخ الانساني يشهد أن اليهود عاشوا في سلام وأمن تحت ظل الحكام المسلمين. وهم يعرفون ذلك جيدا، كما يعرفون أن عدوهم الحقيقي هو أوربا، وأكبر شاهد على ذلك ما فعلته النازية ضدهم من قتل وتعذيب وتشريد.
4- استغلال اليهود تلك الأحداث للقيام بمظلمة ثانية سلطت على شعب آخر هو شعب فلسطين.
5- نقل الأحداث إلى غير موقعها من قبل أوربا عوض تحمل حل المشكل بمقاومة الشر النازي. وهذا هو منطق الاستعمار الغربي الذي سارت عليه أوربا خلال قرون عديدة.
6- تحميل الدول الغربية مسؤولية هذه المظلمة، لأنها كانت السبب في نشأة المشكلة الفلسطينية، مع عجزها عن إيجاد الحلول السلمية والانسانية لها.
7- المشكل اليهودي مشكل عالمي، ومبادئ العالم الإسلامي تفرض عليه الاهتمام به. وإننا مسؤولون عن حظوظ الانسانية، نهتم بمشاكل الدنيا، ونتحدى العالم بأن لنا من الطرق ما يشفي كل داء عالمي يتطلب المواساة والانقاذ.
( انظر م س، 136-،137 نقلا عن الفاضل ابن عاشور، فلسطين الوطن القومي للعرب، نشر علي الجندوبي، نونس، 1/21، و 2/ 39).-
التعبئة العامة للجهاد في فلسطين
لم يكتف ابن عاشور بهذه التعبئة الفكرية في التعريف بقضية فلسطين ونشر الوعي السياسي بجذورها التاريخية وأبعادها في موازين القوى العالمية والعلاقات الدولية. بل قاد حملة واسعة في التعبئة العامة شملت كامل البلاد التونسية، من أجل المشاركة الفعلية في حرب تحرير فلسطين، رفقة زملائه المناضلين، أمثال: المنجي سليم، وصالح بن يوسف، والشاذلي بلقاضي، ومحمد الصالح النيفر، والطيب التليلي. وأسس لهذا الغرض رفقة زملائه تنظيمين هما: لجنة الدفاع عن فلسطين العربية، وفرع المؤتمر الإسلامي بتونس لحماية القدس الشريف. (م س،ص 137-138, نقلا عن الهادي التيمومي: النشاط الصهيوني بتونس بين 1897 و 1948، ص 192). واندفع يخطب في المساجد والمحافل والأوساط الشعبية والطلابية في العاصمة وخارجها، داعيا إلى الجهاد، ومعرفا بالخطر اليهودي على الأمة الإسلامية، وتحالفه مع القوى الاستعمارية العالمية ضد الإسلام والمسلمين. ( م س، ص 138، نقلا عن وثائق خزينة الدولة، مضبرة 46، الوثيقة 17، بتاريخ 21/4/1947).
تقبل الناس أمر الجهاد بكل اندفاع، وفتحت لذلك مكاتب تسجيل المتطوعين، وبلغ عدد المسجلين في القائمة التي كان على رأسها ابن عاشور والشاذلي بلقاضي أربعين ألف متطوع.
( انظر م س، نقلا عن وثائق خزينة الدولة، رقم 129، بتاريخ: 17/12/1948).
وانضاف إلى هذا التسجيل عمل آخر هو الجهاد المالي بجمع الأموال لدعم العمل الجهادي. وتولى ذلك الشيخ الطيب التليلي العالم الزيتوني المعروف بتشجيعه المادي والمعنوي لإصلاح التعليم خلال الأربعينات، وتأسيس الكتاتيب والمؤسسات التعليمية الدينية ( توفي سنة 1989م).
وهن الجبهة الداخلية والخذلان اليساري المشبوه
تلقى مشروع الفاضل ابن عاشور تجاه قضية فلسطين عدة ضربات من الجبهة الداخلية التي تظل دائما ذات خطر، خاصة عندما يتنبه الأعداء إلى استثمارها في الخلافات والمنازعات الداخلية بين الأشقاء المنتمين إلى أمة واحدة وتاريخ واحد ومصير مشترك. وتمثل وهن هذه الجبهة بالخصوص في المواقف الآتية:
1- موقف بعض أتباع الدستور الجديد الذين قاموا بحملة دعائية ضد الشيخ الفاضل ابن عاشور والشيخ الشاذلي بلقاضي, وكان من بين المعارضين أحمد بن سلامة الذي كان ينتقل في المحافل الوطنية ويقول: إن الفقراء التونسيين أولى بالإعانات، واتهم الشيخين بالتحريض على الانتقام من اليهود التونسيين.
وأبدى بعض السياسيين تخوفهم من هذه الحملة تحسبا لما يمكن أن تؤول إليه من طلب اليهود للتجنيس، أو هجرتهم إلى فلسطين.( انظر م س، ص 138-139. )
2- موقف الاتجاه النقابي المتمثل في الاتحاد العام التونسي للشغل: حيث استغل الخصوم الرأي السابق لتصعيد العداء ضد الشيخ، خاصة في مؤتمر الاتحاد سنة 1948، حيث اتضح فيه الخلاف جليا بين الشيخ ابن عاشور والنقابي فرحات حشاد حول المسار الذي اتخذته القضية الفلسطينية في تونس. ( م س، ص 139.)
3- موقف الحزب الشيوعي التونسي المؤيد للموقف السياسي للاتحاد السوفياتي في مساندته قرار تقسيم فلسطين.
4- وقوف السلطات الاستعمارية الفرنسية ضد التعبئة العامة للشعب التونسي بقيادة ابن عاشور. ومنعها للمجاهدين من السفر إلى المشرق، وتابعت المتسللين منهم عبر الحدود الليبية، مستعينة بالجيش الإيطالي المستعمر لليبيا. (م س، ص 139، نقلا عن وثائق خزينة الدولة، رقم: 281، بتاريخ 19/12/1947.)
وقامت القوات الاستعمارية –بتعاون مع بعض الخونة المحليين- من نصب كمين قاتل لعدد من التونسيين في القطار بالجنوب التونسي، وهم يريدون التوجه إلى فلسطين، بعد قيامهم بعمليات فدائية داخل البلاد. ( م س، ص 139-140، نقلا عن الهادي التيمومي: النشاط الصهيوني في تونس، ص 194). وقد حاولت مجموعات كبيرة من المتطوعين، رغم هذه التحديات، الالتحاق بجبهة القتال، إلا أن أغلبهم لم يصل إلى المشرق. واضطروا –بعد وقف المعارك- للعودة إلى تونس، وعانوا في رجوعهم الاضطهاد والجوع من قبل الفرنسيين والانكيز والطليان وعملائهم المحليين في كل من مصر وليبيا. ( م س، ص 140).
على سبيل الختم والاستمداد
إن المسار الذي سجله ابن عاشور في خدمة القضية الفلسطينية شاهد حي لاستمداد كثير من الدروس والدلالات أهمها:
1- اتساع المجال للأدوار التي يمكن أن تقوم بها مؤسسة العلماء والنخب الفكرية الحرة وهيئات المجتمع المدني الجادة لخدمة القضية الفلسطينية، عوض التحسر اليومي والزفرات المؤلمة، نتيجة ما عاصرناه منذ عقود من طغيان الطاغوت الصهيوني، بتأييد من القوى الاستعمارية المهيمنة، وخذلان من الأنظمة المطبعة، ووهن من الشعوب المستضعفة.
2- أهمية أدوار المؤسسة التعليمية الدينية ممثلة هنا بجامعة الزيتونة وبالقرويين والأزهر
و مؤسسات جمعية علماء الجزائر، في تحقيق الحصانة ومناعة المقاومة ضد العدوان الأجنبي والاستلاب الحضاري.
3- جدوى التكوين المزدوج بالجمع بين التكوين العلمي الأصيل وتجديد أدوات الوعي بالتاريخ وفهم الواقع والتمرس بآليات التواصل في المناظرة والمحاضرة والخطابة لصناعة الرأي العام الكفيل بفهم القضية الفلسطينية، وتحدي وهن العدمية التي تعيشها النخب الفكرية والسياسية تجاه القضية، والآثار السياسية المترتبة عن ذلك في هرولة الأنظمة إلى التطبيع السياسي والاقتصادي والخيانة التاريخية للأبطال وشهداء التحرير.
4- خطورة الأدوار التي تقوم بها كراكيز الجبهة الداخلية انسجاما مع الذل الذي يطبع النفوس اللئيمة، واسترزاقا بوأد الضمير لنيل مصالح سياسية موهومة ومكاسب مادية زائلة.
5- الوعي بالتحالف الوجودي بين القوى الاستعمارية والحركة الصهيونية رغم تطور ألوان الهيمنة الاستعمارية، والتلويح بشعارات السلم والتسامح في غفلة عن الوعي بالتاريخ، وانسجاما مع نظرية الاستكبار والانبهار. فنشأة الصهيونية وتطورها كان دائما بدعم من الدول الكبرى التي تمكنت قوى الضغط اليهودية من التأثير في قراراتها السياسية وتوجيه علاقاتها الدولية.
6- إن هناك دائما مجالا للمبادرات الحرة والجادة من أجل دعم قضية فلسطين حتى عند عدم توفر شروط مشاركة الجيوش العربية والإسلامية في مواجهة مجرمي الحرب قتلة الأطفال وهادمي المساجد والمستشفيات – كما دعت إلى ذلك الفتوى الأخيرة للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين- فإن في الجهاد الفكري والمالي ما يخدم القضية بشكل أو بآخر.
وكما لا حظنا في تجربة ابن عاشور فإن الأمر وصل إلى حد تسجيل الآلاف من المتطوعين للجهاد في فلسطين.
ولعل ضعف هذه المبادرة عندنا لدرجة أنها قد تبدو خيالية، قد نفهمه بالرجوع إلى السياق في مناهجنا التعليمية ودراساتنا الأكاديمية مما يجعلنا نفهم أن من أسباب طوباوية مثل هذه المبادرة في نفوسنا جملة من العوامل لعل منها:
1- الشبهات التي بدأها المستشرقون في ربط انتشار الإسلام بالسيف، وماتثيره الكتابات الحداثية الهشة من شبهات حول الحرية الدينية ومعارضة بعض الأحكام الإسلامية لحق التدين وحرية المعتقد.
2- التعديلات التي تتعرض لها المقررات والمناهج في وحدات ومؤسسات التكوين الديني، تهيبا من أن يؤدي درس الجهاد وتاريخه العملي في الغزوات النبوية والتاريخ الإسلامي إلى تطبيقه في الواقع المعاصر. ويمكن الرجوع إلى مقررات التربية الإسلامية للوقوف على مدى حضور السيرة النبوية والمغازي فيها بين المقررات السابقة والمعدلة.
كما يمكن مقارنة مقررات شعب الدراسات الإسلامية بين مراحل التأسيس والمراحل المتأخرة حيث ألغيت وحدات مثل تاريخ العالم الإسلامي المعاصر وحقوق الانسان، ولا حضور لآيات الجهاد في درس التفسير اليتيم في الفصول النهائية.
3- سيناريوهات السلم والتسامح التي تم تأثيت مشاهدها بنخب دينية وفكرية من الأديان الثلاثة. ولكن صمتها في مثل الظروف الحالية، وعدم استثمارها لما راكمته من مؤتمرات ومنشورات علمية، يدل على أن المعطى السياسي متحكم فيها أكثر من المعطى الديني والأخلاقي.
وفي الختام أجدد فكرة التنادي لتنشيط البحث العلمي من أجل فهم قضية القدس وفلسطين، وإنشاء الهياكل الفكرية والإدارية الكفيلة بذلك، مع تزويدها بالموارد البشرية والإمكانيات المالية القمينة بالتعريف العلمي الواضح بالقضية، حتى لا يقول أحد كما قال رئيس الوزراء الأسبق في لقاء سياسي إثر استغرابه لموقف الدول العظمى في دعم العدوان الإسرائيلي على غزة: “في الحقيقة قضية إسرائيل هذه كلها لم أفهمها .” ( في الحقيقة، أنا ما فهمت هاد القضية ديال إسرائيل، كلها هي ما فهمتهاش؟؟؟).