تجريم التكفير أم تحرير الكفر من قيود التكفير؟

31 يناير 2014 17:57
تجريم التكفير أم تحرير الكفر من قيود التكفير؟

تجريم التكفير أم تحرير الكفر من قيود التكفير؟

إبراهيم الطالب*

هوية بريس – الجمعية 31 يناير 2014م

أي حديث عن الكفر والتكفير لا بد أن ندلف معه، شئنا أم أبينا إلى مناقشة موضوع حرية التفكير والضمير والدين، باعتبارها أهم أنواع الحريات التي لا يمكن لأحد أن ينتهكها ويبقى مع ذلك معدودا في زمرة المحافظين على الحقوق الأساسية للإنسان، فالجدل ليس حول أصل هذه الحريات إذ الجميع متفق على ضمانها واحترامها، ووجوب صيانتها، لكن الخلاف هو حول المفهوم الأحادي المطلق الذي تريد الأقلية فرضه على مجموع الأمة، هذه الأقلية التي تستحوذ لنفسها على حق تفسير وتنزيل مفاهيم الحرية والحقوق وفق المرجعية التي ترتضيها، دون اكتراث بموقف باقي الفاعلين الثقافيين والسياسيين والجمعويين.

تتمثل هذه الأقلية في مؤسسات وأحزاب ومنظمات تنتمي نخبتها إلى مرجعية علمانية ترى في الإسلاميين والعلماء العاملين والجمعيات والأحزاب والتيارات ذات التوجه الإسلامي عدوا وخصما لا يستحق الوجود، بل يرى أغلب هذه النخبة أن شريعة الإسلام في حد ذاتها مرفوضة، وأن المشكلة تكمن في نصوص الإسلام بذاته كما سبق أن كتب أحمد عصيد في مقالات له بعنوان “أسئلة الإسلام الصعبة” والذي سبق أن حَكَّم مرجعيته العلمانية في رسائل النبي صلى الله عليه وسلم فخلص إلى أنها إرهابية، مما أثار عليه نقمة الشعب المغربي ومَن سمع بكلامه من المسلمين في الخارج.   

العلمانيون يستغلون الحضور القوي للعلمانية على مستوى المنظومة القانونية والسياسية، كما يستغلون الضغط الدولي على بلادنا من طرف الاتحاد الأوربي وأمريكا، في توسيع دائرة مطالبهم لتشمل ما تبقى من أحكام الشريعة الإسلامية كأحكام الإرث والتعدد، ورفع القيود عن الزنا واللواط وترويج الإلحاد، مستغلين صفتي العموم والإطلاق اللتين تكتنفان الألفاظ التي يعبر بها عادة عن حريات التعبير والتفكير والاعتقاد والمساواة بين الجنسين، ومستغلين الحصار المضروب على العلماء الرسميين من طرف الوزارة الوصية، والتعطيل شبه الكامل لمنابر المساجد عن القيام بوظيفتها في الذب عن عقيدة المغاربة المسلمين وشريعتهم، الأمر الذي دفع الغيورين من بعض العلماء والدعاة إلى العمل على صد الهجوم العلماني على مقدساتهم، مؤازرين بتأييد شعبي كبير على شبكات التواصل الاجتماعي. 

هجوم العلمانيين على مقدسات المسلمين وشريعتهم وتطاولهم على أحكام القرآن الكريم الصريحة والمعمول بها في القانون، جعل بعض الدعاة يسم بعض العلمانيين بالكفر، مما أثار النخبة العلمانية في حزب الأصالة والمعاصرة الذي لعب الدور الأبرز في إغلاق جمعيات دور القرآن الكريم، والذي صرح قادته منذ إنشائه أنهم أسسوه من أجل محاربة كل مَن يعمل على أسلمة الدولة، فقاموا بوضع مقترح قانون يجرمون بموجبه التكفير ويعاقبون كل من صرح به في حق أي فرد أو مؤسسة.

متعللين في مقترحهم بأن “المغرب أصبح يشهد في الآونة الأخيرة بروز ظواهر دخيلة وخطيرة على أمنه، من قبيل ظاهرة الجهاد بالخارج التي تدعو إليها عصابات إرهابية تحت غطاء الدين والعروبة، وبروز أصوات التشدد والتطرف، لا تؤمن بالديمقراطية والتعددية والحداثة، وتقوم بتكفير كل من يحمل رأيا مخالفا لقناعاتها”(1)

هكذا بكل سهولة ويسر لخص لنا نخبة قادة حزب البام الأمر في: 

1- بروز ظواهر دخيلة وخطيرة، تتمثل في ظاهرة الجهاد بالخارج التي تدعو إليها عصابات إرهابية تحت غطاء الدين. 

2- بروز أصوات التشدد والتطرف لا تؤمن بالديمقراطية والتعددية والحداثة. 

3- أصوات تقوم بتكفير كل من يحمل رأيا مخالفا لقناعاتها. 

فعندما كان اليسار يدعم منظمة فتح العلمانية في فلسطين كان كفاحا ضد الإمبريالية والرأسمالية المستغلة للشعوب، واعتُبِر الذين يرسلونهم مناضلين ومتحررين، وكانت كل فظاعات اليسار من حمل للسلاح وتدريب الشباب على القتال في معسكرات الاشتراكيين والشيوعيين في الخارج، ومحاربة الدولة والتخابر مع دول أجنبية كان كله نضالا عندما كان القائمون به يسبلون لحية تشي جيفارا، لكن عندما يذهب شباب مغربي لنصرة قضية يراها عادلة، ويؤمن أنها فرض ديني عليه، يتهم بالإرهاب ويستحق في نظر العلمانيين السجن. 

وعندما يرفض الدعاة والعلماء والإسلاميون المفهوم الغربي للديمقراطية والتعددية والحداثة، ويطالبون بِملاءمتها مع مقتضيات الشريعة الإسلامية، ويَرُدون افتراءات العلمانيين من أمثال عصيد ويرفضون مطالب لشكر، يصبحون أصوات تشدد وتطرف تكفر من خالفها الرأي، في حين لما كان الشيوعيون والاشتراكيون، ومنهم من هو اليوم من نخبة البام والاتحاد الاشتراكي، يتسلمون من المركز الثقافي السوفييتي بالرباط نسخا من كتب لينين وستالين وغيرهما من الملاحدة، والمدبجة بالكفر الصريح والإلحاد ومحاربة الدين، ويوزعونها بالمجان على الشباب في الجامعات والمدارس، كان ذلك يعتبر محاربة للرجعية المتمثلة في الملكية والبورجوازية المتحالفة مع الرأسمالية العالمية المستغلة للفقراء.

الغريب في القصة كلها، هو هذا الاستحمار والاستبلاد الذي يتعامل به من يسمون أنفسهم حداثيين وديمقراطيين مع الشعب المغربي، فماذا نسمي من ارتد عن دينه وجاهر بأنه أصبح نصرانيا يؤمن بأن الله ثالث ثلاثة؟ 

هل نقول له إنك ما زلت مؤمنا؟

إذًا علينا إذَا ما تمكن حزب البام وهو نافذ جداً وواصل جداً، من تمرير هذا القانون، أن نكف عن تلاوة قوله تعالى: “لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ“، وأن نسمح للمنصرين والمتنصرين المغاربة أن يبنوا بجوار كل مسجد كنيسة، ولا مانع عندئذ من أن يصرف عليها من أوقاف المسلمين، لأنه لن يعود هناك معنى للإسلام، ولن يكون هناك أيضا وجود للإيمان أو حقيقة للكفر.

كما على وزارة الأوقاف أن تطبع للمغاربة قرآنا مختصرا تحذف منه كل عبارات التكفير والكفر والكافرون وما أكثرها، بل علينا أن نشطب سورة “الكافرون” بأكملها، حتى لا نفاجأ ونحن خارجون من المساجد بمئات رجال الأمن الوطني بأيديهم أمر من النيابة العامة باعتقال جماعي لكل من حضر الصلاة الجهرية، فيعتقلون أولا الإمام لأنه قرأ قوله تعالى: “وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُون” إذ تعتبر تكفيرا للحكومة والقضاة، ثم يضعون الأصفاد في أيدي المصلين لأنهم لم يُبَلِّغوا عن جريمة التكفير التي ارتكبها إمامهم. 

حقاً إنها الصفاقة في أوضح معانيها، لم يجد حزب البام شيئا في برنامجه يفيد به المغاربة سوى قانونا يكمم به أفواه العلماء والدعاة، فقد أشار في مقترحه إلى أن عقوبة التكفير لا توجد في القانون المغربي، وبالتالي “تداركا للفراغ التشريعي والتنظيمي الحاصل في هذا المجال تم تقديم مقترح قانون يقضي بتتميم وتغيير مجموعة القانون الجنائي”(2).

على حزب البام أن يشرح للمغاربة أولا، لماذا سحب تبنيه لمقترح تجريم التطبيع مع الصهاينة، واستبدله بمقترح قانون تجريم التكفير؟ 

ألا يعد نقصا في القانون الجنائي المغربي ألا توجد فيه مواد تمنع التطبيع مع الصهاينة المحتلين للقدس الشريف والسفاكين لدماء إخواننا الفلسطينيين؟

ثم ألم يتفطن أصحاب الأصالة إلى أن القانون الجنائي المغربي لا يتضمن صراحة أن من سب الله ورسوله أو انتقص من جنابهما المقدس يتعرض للعقوبة؟ وأن احترام الثوابت والمقدسات المنصوص عليها في القانون لم تعد تفي بالغرض. 

أم أن حفظ جناب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ليس من الأصالة عندهم؟ 

إن منع التكفير هو محاولة يائسة لتونسة المغرب، والاستفادة من التعديل الذي عرفه دستور تونس حيث زيدت في فصله السادس عبارة “ويحجر التكفير” والتي أقحمت بضغط من العلمانيين التونسيين، حيث صرح الصحبي عتيق، رئيس كتلة حركة النهضة الإسلامية بالمجلس التأسيسي قائلا: “إن التنصيص على تحجير التكفير في الفصل السادس من دستور البلاد الجديد جاء تحت الضغط والابتزاز”.

فلماذا يخاف العلمانيون من التكفير إن كانوا يعتبرون أنهم لا يقولون بالكفر، وليس في مشاريعهم ما يستحقون به تكفير العلماء؟

نائبة البام الرويسي صرحت أن “الأمر لم يعد حالة معزولة، بل إن هناك إصرارا على تكفير بعض الأشخاص، وأصبح الأمر شكلا من أشكال تكميم الأفواه ودعوة إلى الكراهية”(3).

معلوم أن الرويسي ورفاقها لا يفرقون بين الكفر والإيمان، ويعتقدون اعتقادا جازما في أن كل مغربي يحق له أن يؤمن بالله كما يجوز له أن يكفر به، ويعتقد في بقرة الهندوس، أو صليب النصارى، أو أن يكفر بكل المعتقدات فلا يؤمن بشيء، لأنهم يعتقدون أن المواثيق الدولية هي أسمى من القرآن وعقيدة الإسلام، وما دام الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في المادة 18 ينص على أن “لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدين، ويشمل هذا الحق حرية تغيير ديانته أو عقيدته، وحرية الإعراب عنهما بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر ومراعاتها سواء أكان ذلك سراً أم مع الجماعة”، فيمنع في نظرهم أن يمارس العلماء التكفير ضد من يتمتع بحقه في الكفر، لأن التكفير تكميم لأفواه من يرتدون عن الإسلام أو يرون أن شريعته متخلفة، ويحول دون الجهر بمعتقدات الذين يتحولون من الإسلام إلى النصرانية أو أي ديانة أخرى، كما يمنعهم من حرية الإعراب عن ديانتهم وعقيدتهم بتعليم غيرهم.  

فإذا كان التكفير تكميما لأفواه تنطق بالكفر والإلحاد، فإن قانون تجريم التكفير من هذا المنطلق هو تحرير للكفر والزندقة وتكميم لأفواه العلماء والدعاة، وحرب على عقيدة المسلمين واعتداء على شريعتهم.

المشكلة/المفارقة هي أن العلمانيين الذين يشكون من تكميم العلماء لأفواههم، لا يتورعون في الصدع بمطالبهم ومعتقداتهم مهما بلغ تناقضها وانتهاكها لمعتقدات المغاربة المسلمين وشريعتهم، بل يحتكرون تفسير وتنزيل كل التشريعات المتعلقة بحرية التفكير والتعبير والمعتقد والتدين والتنظيم، إذ تبقى من الناحية العملية مقصورة على الأطياف والهيآت العلمانية، نظرا لتغلغل قياداتها في مفاصل الحكم، بحيث يُحرم كل من ظهرت عليه معالم الاستقامة على تعاليم الدين من إنشاء الجمعيات خصوصا المتعلقة بالدعوة والإرشاد أو بالأعمال الاجتماعية، وأبلغ دليل على ذلك حل أعرق الجمعيات من طرف السلطات خلال حملات الاضطهاد التي مورست في حق الجمعيات المنظمة لدور القرآن حيث تم حل الجمعية التي أسسها الشيخ تقي الدين الهلالي رحمه الله منذ ما يربو عن الأربعين سنة، كما تم إغلاق أكثر من سبع وستين جمعية تأسست وفق قانون الجمعيات والحريات العامة، فلم ينفع أصحابها ولا آلاف المغاربة المنخرطين فيها، لا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ولا الدستور المغربي، ليس لأنهم ليسوا مغاربة ولكن لأنهم ليسوا علمانيين. 

وأغرب العجائب والمفارقات إذا علمنا أن جمعية “التوحيد والإصلاح” لم تأخذ وصل إيداع ملفها القانوني ولم تعترف الإدارة بها إلا بعد تولي رئيسها الأسبق الأستاذ عبد الإله بن كيران لرئاسة الحكومة بعد رياح التغيير.

إننا لسنا مع فوضى التكفير، بل يحرم على أي كان أن يكفر أحدا من المسلمين، فالتكفير لا يمارسه إلا العلماء ولا يجوز أن يتوسع فيه لأنه حكم شرعي تترتب عليه أحكام شرعية أخرى كالإرث والزواج والطلاق والإمامة وغيرها.

لكن بالمقابل لا يجوز التساهل مع الكفر وأصحابه والمروجين له باسم التعددية والديمقراطية وحقوق الإنسان، فالكفر كفر، ولا يمكن تسويغه تحت أي مسمى.

ومعلوم أن المرجعية العلمانية الدولية التي يجعلها العلمانيون في المغرب أسمى من الإسلام، لا تعترف بشريعة الله ولا يدين مروجوها بعقيدة الحكم لله، بل من مقتضيات الحداثة والديمقراطية الكفر بحاكمية الله، سواء كان من منطلق الإسلام أم النصرانية أم اليهودية، ويعتبرون الدولة التي تحكم بالشريعة الإسلامية دولة تيوقراطية دينية مناقضة للديمقراطية والحداثة. 

على العلمانيين المغاربة أن يتجنبوا الكبر والإقصاء وأن يساهموا في استقرار البلاد من خلال تجنب التعرض لعقيدة الإسلام وشريعته، والقبول بمن يطالب بإقامة الشريعة الإسلامية ولو على الأقل من باب التعددية وحرية التعبير وحرية التفكير والضمير على حد تعبير المادة 18 المذكورة آنفا.

ربما يمانع العلمانيون في أن يعترفوا بأننا أصبحنا في المغرب في حاجة إلى فتح نقاش مجتمعي يأخذ بعين الاعتبار قيومية الله وحقه في أن يمتثل عباده شريعته، كرَبٍّ خالق قادر له الخلق والأمر. نقاش ننطلق فيه من أهم مقوماتنا المغربية وهو الإسلام، لنحدد على أساسه مفهوم الحريات ونرسم حدودها ونقدر حجم تداخلها فيما بينها من حيث التطبيق والممارسة، فالاختلاف بين المرجعية العلمانية المستوردة، والمرجعية الإسلامية ليس اختلاف تنوع، بل هو اختلاف تضاد في الأمور التي تمس الشريعة الحنيفية والعقيدة الإسلامية، وإن لم يتعقل من يهمهم أمر استقرار البلاد على المدى المتوسط والبعيد، ويقوموا بما تطالب به الجماهير المسلمة الراجعة بقوة إلى دينها، فسنرى هذا الاستقرار قد آل إلى فوضى وصراع مرير من جراء هذا الإقصاء الممنهج لكل الفعاليات التي لا تدين بالعلمانية دينا، وترفض أن تنطلق من تصور الغرب للإنسان والحياة والكون، كما سيكونون في حاجة إلى تبني مخطط السيسي في مصر واعتبار كل من ليس علمانيا إرهابيا يستحق إما القتل أو السجن. 

 —————–

 * مدير جريدة السبيل.

(1) أخبار اليوم عدد 1267. 

(2)-(3) نفسه. 

[email protected]

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M