الاحتكام في بناء الأحكام
هوية بريس – زينب أحمد
وهو أمر له ما له في باب معرفة إمكانات كل فرد من أمّةٍ -أو الأمّة بأكملها-. تلك الإمكانات التي من شأنها أن تُؤهِّله لتحقيق أسباب النجاح بداية ثم الرَّغد في العيش ثانيا. بل إنّ الجزم بأن “الاحتكام” هو قطب رحى تحقيق المصالح وجلب المنافع مع درء المفاسد ودفع المضار، يبلغ في قوّته -الجزم هذا- مرتبة المسلّمات والبديهيات في الأذهان قديما وحديثا.
فما يكون هذا الاحتكام إذن؟!
الاحتكام؛ هو لجوءٌ وطلبٌ نابع من الإحساس الجازم بالقصور وبعض العجز عن القدرة على تشكيل بناء متكامل للحكم في غياب المُحتكَم إليه.
وهذه الإطالة -المذمومة في العلوم- لهذا التعريف ليس الهدف منها إلا الوقوف على القيمة الكبرى لهذا الاحتكام في بناء الأحكام.
ثم يؤول هذا التقديم إلى غايته؛ وهي النّظر في محلّ هذا الاحتكام من أفهام الناس اليوم. وذلك بتبصُّره بين أهل العلم وأهل الثقافة وأهل القضاء وكذا العوام.
وأهل العلم في هذا المحل هم على نوعين:
* فأما أصحاب علوم “نواميس الله في المادة” (كالفيزيائيين والرياضيين والاقتصاديين…)، فهم محتكمون في نظرياتهم إلى قدرة الأجهزة والمعدّات ، وإلّا -فستبقى- نظرياتهم مهزوزة في أذهان أصحابها حتى يشاء الله تعالى لها بيانا، فيأتيها الانفراج وتُفصِح عن صدقها الآلة أو تُكذِّبها لتتلاشى في غياهب النسيان. وفي غيرها هم محتكمون إلى مُسلَّمات وتسلسلات منطقية لبناءِ ما من شأنه أن يجد مكانه في خدمة علوم النواميس تلك.
وهذا هو الاطِّراد المعهود في تلكم العلوم ، قبل أن يُدرِك بعض شياطين الإنس أن العلم اليوم هو “أفيون الشّعوب” بعد عصورها الذهبية!! ليقوموا -على إثر العلم بهذا الإدمان الرّهيب في تقديس رجل العلم وإن كان دعيّاً- بِإِرْبَاكِ قوانين العلوم وإخضاعها للسلطة السياسية حتى تستجيب لمقتضيات أطماع أصحاب السيادة، ولعلّ “نظرية التطور” خير شاهد على هذا القول، وإن كانت ليست الوحيدة في التمثيل.
ثم إن هذا المرور العاجل على مراجع الاحتكام في هذه العلوم اقتضاه المقال وإلا فوضوح حالها اليوم يُغنِي عن كل بيان.
* وأما ما كان منه علما بِعَيْشِ الناس ومعيشتهم فهو الآخر على قطبين جد متباعدين:
– فأصحاب الفلسفات والاقتصاد وعلم الاجتماع وهلم جرا من هذه “العلوم”، هم بين تزاحم الأهواء والطباع وقلّة القواعد لكثرة الاستثناء، لا يستقيم لهم الحال إلا على فَهمٍ يأكل غَثُّهُ من سمينه حتى ليبدو كل تنظيرهم كأنَّه لرجل آليّ لا يملك من زمام أمره إلا اتّباع “ألغوريتماتِ” دماغه المُبرمَج مسبقا بُغية تحقيق أهداف حظُّهُ من أرباحها نصيب بكتيريا واحدة من صيد الأسد!!
وتخبُّطُهم مَرَدُّه في الغالب، إلى عدم القدرة على تجاوز أهداف سياسية معيَّنة وأهواء شخصية طاغية في الاحتكام.
– بينما يقف أصحاب القطب الآخر حيث يكون الإنتاج في خدمة الإنسان -كل الإنسان- أو بذلك التعبير الجميل وإن كان مُستنزفا في الخطابات السياسية لشدة لهفة القلوب إليه “سعادة الإنسانية”.
وهنا نعود إلى عنوان المقال لنثير الانتباه إلى أنه ربما قد حضر في بعض الأذهان أنّ إحالةً ما حاضرةٌ فيه. فالأمر مقصودٌ إلى كتابيْ ابن حزم الأندلسي والآمدي -رحمهما الله تعالى[1]- وإن كان الهدف ليس هذين الكتابين على وجه الخصوص وإنما المَشرب العلمي لهما، بمعنى “علم الأصول”، هذا العلم الذي أعطى صورة حية وواقعية عن المستوى الذي قد تصله الأفهام المؤمنة بالتوحيد الحق، في تحليلاتها واستنتاجاتها وإدراكها من خلال تعاملها مع ذروة المعرفة ورأس هرم العلوم “الوحي”، فتأتي بالرأي خالصا عن كل هوىً وبالحكم منقّحا من شوائب الذوات وقوانين “الأَجِندات”. وما ذلك الرَّمي المُسدَّد إلا لأن الاحتكام في هذا العلم إنما يكون إلى نصوص الوحي وقواعدها المصونة عن كل عبث.
لذلك ستجد أن المعتزلي، وهو يخوض مخاض الأصول، لا ينجح في تمويه انسياب حِمله العقدي بين ما يستخلصه من قواعدَ أصوليةً ، فيأتي أصوليٌّ بعده ولا يجد صعوبة في القول أنّ: هنا أصاب المعتزليُّ القاعدةَ وهنا غلبتْ عليه شِقوةُ تحكيم العقل في الأسماء والصفات.
ولا يصدق تمثيلٌ لهذه الحاجة الماسة بنا إلى ولوج معسكر الأصول وخوض غماره صونا لعقولنا من هذه الحيرة المعاصرة في بناء الأحكام عن هذه المدلهمّات المتلاطمة علينا من كل حدب وصوب، إلا ما كان من شأن “المَداخِلة” الذين لم يُعفهم طول الانشغال بتخريج الأحاديث في بناء فهم سليم لها وحسن نقلها إلى واقع الناس بضوابطها المضمنة فيها، فخاضوا -للأسف- خوضًا خطيرًا في الدماء والأعراض ونهشوا جسد الأمة مع الناهشين. وما كان هذا ليكون منهم لو لم يركنوا إلى الاكتفاء بتخريج الفروع دون إتعاب الأذهان في تتبع مشاربها من الأصول. والوقوع في غرام الجرح والتعديل لدرجة اتخاذ حديث “بئس رجل العشيرة” ذريعة للقذف والغيبة والنميمة، حتى إذا وصلوا منعرج الفصل بين الهوى والاحتكام، اختلط عليهم الأمر ولوَوْا أعناق النصوص لتفخيم المخاوف وتهويل الأوضاع حتى لا ينجو من وصمهم الواحد من الناس بـ”الفتَّان” إلا الشيخ الخرف والصبيُّ الأخرق؛ لذلك حين اعتلوا عرش الإفتاء المشيّد على ركام الحفظ من غير إعمال تقتضيه ضوابط حسن الفهم، إلاَّ أنْ أَتَوْا بالعجب!!
وليس في هذا جزمٌ بأن الأصولي سالمٌ بعلمه من الانزلاق. ولكن ظاهر القول أن سلوك دروب الاحتكام عبر القواعد الأصولية المقررة، من شأنه أن يُدرِّب الأفهام على البراعة في إصدار الأحكام باعتبار تمرُّنها عبر نصوص الوحي المُتَضَمِّنِ للحكم الإلهي بما للأخير من تمام الكمال.
فإن بلغ الحديث بنا هذا المبلغ فقد بلغ تمام رسالته، وما يأتي بعد هذا إنما هو تمثيلات للاحتكام في صور تبدو نتائجها أكثر إفصاحا وأبلغ مقالا..
ومنها -التمثيلات- حال بعض مدّعي الثقافة الذين غَدَا شأنهم اليوم -في بناء أحكامهم- أن يقيسوا الأخيرة إلى ذواتهم وأهوائهم.. فتأتي مقالاتهم بلغة تشبه ذلك النوع من الموسيقى الحزينة التي تفرض عليك أن تحزن وتسترجع آلامك فتدخل على إثرها في حالة من الكآبة والتشاؤم طول يومك.. فما أن يُرِيَكَ أحدهم الشمس حتى تشكو له حَرَّهَا. فهل تجدك في حال كهذه، مؤهلا لبناء حكم وحالك تطغى على تفكيرك حتى لا تكاد تنجو من إحكام قبضتها عليك؟ هذا هو بالضبط ما يتقنه صحفيو هذا العصر وهم يمارسون مهنة الإغلاق على الأفهام. إذا استثنينا بعضا من بعيض ممن لم يؤهله تعففه عن الكذب والتزوير إلى حظ البقية اليوم من ميول العوام.
وهذا مفرق غاية في الأهمية.. ولنطالعه في واقع المغرب اليوم:
يحتكم العلمانيون في خلال محاولاتهم الكثيرة لإقحام بنود التَّشريع لأخطائهم داخل دستور البلد، إلى: الأهواء الشعبية، والضغط على المشاعر، واستثمار السخط الشعبي على الأوضاع المادِّية، واتِّخاذ بعض الجرائم المتفشية “أو التي يدَّعون تَفَشِّيها” كقاعدة للتعميم وبالتالي لبلوغ المآرب، ورَّبما أحيانا للمسكنة والنّبش (كما قلنا سابقا[2]) عن بؤر الإحياء للنَّعرات الجاهلية… وهذه كلها مداخلٌ شيطانية خالية كل الخلوّ:
– لا من الاحتكام إلى المعقول (القائم على عقول ناضجة وقلوب بمشاعر إنسانية سامية.. الشيء المفقود اليوم في القاعدة الشعبية للأسف.. بعد انسلاخ الأخلاق واندثار المعاملة الحسنة والكثير من ميراث النبوّة من المجتمع).
– لا من الاحتكام إلى العُرف (الذي هو إسلامي صِرف باعتبار أن منبعه دين قبله المغاربة قديما وارتضوه شريعة ودستورا لحياتهم منذ عرفوه أول مرة على يد التّابعي “عقبة بن نافع” رضي الله تعالى عنه).
– لا من الاحتكام إلى النصوص الشرعية (التي تحظى بالقبول عند الشريحة العريضة من المجتمع).
– لا من الاحتكام إلى القانون الوضعي (باعتبارِ ما يُراد إقحامه من لغطٍ إنَّما هو في مقابل إلغاء بُند دون اعتماد أية قواعد قانونية وإلا فما كان ليعجزهم الأمر وليحتاجوا لكل هذا اللّفّ).
أما القضاة فالاكتفاء في وصف حالهم بالقول نسأل الله السلامة والعافية مما هم فيه لهو خير مُعْلِمٍ عما هم فيه من ظلمات وأهوال.
أما والقول قد شارف على نهايته، فما عاد من متسع إلا للختم بخلاصة مركزة مفادها:
أن الخلط بين تحكيم الهوى وتحكيم مقتضيات العقل السوي المعتضد بالمشاعر النبيلة، إنما هو خط رفيع جدا لا يصونه عن الانقطاع إلا التمرس في الاحتكام إلى الوحي الإلهي وإطالة النظر في دلالات ألفاظه واستنباط أحكامه وحكمه. حتى تكون النجاة من الانجراف مع البقية وهي تُعَبِّرُ -اليوم- بما يشبه الإعجاب!! عن صورة طفل في حالة ذهول من وقع أسلحة اللوبي العالمي على بيتهم، دون أن يحظى بهذا الإعجاب مئات الأطفال والنساء والشيوخ والرجال الذين ماتوا بالطرق الوحشية التي أصبحت معتادة. ومشهد المندهشين والمعجبين ببراعة مصور الحدث أصدق تعبيرا عن تدنّي مستوى الأحكام البشرية المفصح عن تآكل المشاعر الإنسانية في غمرة الاحتكام لفلسفات العصر البغيضة من قبيل “أفضل صورة لهذا العام”. وما هي إلا شظية من نار تلتهم منا ذواتنا لنصبح روبوتا يلتقط قطعه من مزابل الخردة الغربية..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] لكلاهما كتاب بنفس العنوان وهو: “الإحكام في أصول الأحكام”.
[2] انظر مقالي: “الإصلاح بين الحقيقة والوهم“.
علم الأصول علم مغيب في الفكر السلفي لهذا نجد هذا الضمور والتحجر الفكري عند السلفية بمختلف مشاربها والذي يزيل هذا الاستعباد الفكري هو برد الأشياء إلى أصولها وقوانينها الشرعية يجب إعادة إحياء المنهج الأصولي السلفي الحق الذي يمثله الجويني والغزالي والآمدي ثم نعرض الأقوال على هذا العلم وننظر حينها من المتبع ومن المبتدع