وقفات مع كتابات ومقالات في الممارسة السياسية والأنظمة المعاصرة (ح8)
ذوالفقار بلعويدي
هوية بريس – الجمعة 28 مارس 2014
إتمام الكلام في تحرر محل النزاع
فإذا تبين لك أخي القارئ من المقال السابق أن العمل السياسي ليس له حكما واحدا، وإنما حكمه يختلف بحسب نوعه وبحسب ارتباطه بمبدأ النظام السياسي الذي ينسب إليه. تبين لك أن العمل السياسي في مجتمع السيادة فيه لغير الشرع، يختلف عن العمل السياسي من حيث حكمه وطبيعته وأولوياته في مجتمع السيادة فيه للشرع.
فإنه إذا كان النظام يقوم على أساس عدم الاستمداد من شريعة الله والتلقي عنه، كان لزاما على المصلحين الموحدين العاملين داخل مجتمع هذا نظامه السياسي هو العمل أولا على تكريس قاعدة عبودية الناس لله وحده؛ نعم العمل أولا على إعادة تكريس مبدأ الألوهية في العبادة والتشريع في أذهان الناس، عملا على تغيير المرجعية. هذا عندما يراد بالسياسة نظام الحكم الذي تنتظم به البلاد.
ولقد كنت وعدت القارئ الكريم بأن أخص هذه الحلقة بالتحدث عن السياسة في معناها الشائع والذي هو “تدبير الشأن العام للدولة”، إلا أنني فضلت تأجيلها إلى المقال القادم إن شاء الله، وذلك حين قرأت مقال الأخ الفاضل الدكتور عادل رفوش والذي عنون له بعنوان: “يُصْلِحُونَ ما أفْسَدَ الناس“(1).
حيث الذي أثار استغرابي في كلامه عن الإصلاح، هو عرضه للموضوع، وكأنما خلافه مع الذين لا يريدون خوض غمار الديمقراطية هو حول أصل الإصلاح، وهذه مغالطة هي من قبيل مغالطة الأخ الشيخ القباج في إطلاقه القول عن «الإصلاح السياسي» عند عرضه الخلاف الذي بينه وبين بعض إخوانه السلفيين. مع أنه خلاف لا يتعلق بأصل المشاركة السياسية كما لا يتعلق بأصل الإصلاح؛ حيث أننا بينا أكثر من مرة أن خلافنا هو حول دعوى الإصلاح السياسي من السياسي الإسلامي في إطار التزامه بمبادئ نظام يقوم على مبدأ السيادة لغير الله والتحاكم إليه، وذلك من خلال توليه ولايات من وظائفها ومهامها التشريع من دون الله، وذلك كولاية البرلمان في النظام الديمقراطي. أقول وأؤكد وأكرر أن خلافنا هو حول التزام المصلح الإسلامي بمبادئ نظام يقوم على مبدأ السيادة لغير الله والتحاكم إلى غير شرع الله، وليس حول التزامه بوسائل نظام لا علاقة لها بمبدأ السيادة.
ومما زاد في استغرابي هو استشهاد الأخ الفاضل الدكتور عادل رفوش تأكيداً منه للدعوة إلى الإصلاح، بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “ولا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله (ظاهرين على الحق) لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس“(2)، مع أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: “طائفة من أمتي قائمة بأمر الله” مما يدل على أنه عليه الصلاة والسلام لم يرد مطلق القيام، وإنما الذي أراده عليه الصلاة والسلام هو نوع القيام، والذي هو أن يكون قيامها بأمر الله. أي أنها لا تقبل في قيامها دون حكم الله بديلا ولا تخلط بينه وبين أي حكم آخر. ومن تم ففضل هذه الطائفة ليس في قيامها، وإنما الفضل لها في نوع قيامها وهو أن يكون قيامها بأمر الله. نعم قائمة بأمر الله، وليس قائمة بأمر الديمقراطية، أو قائمة بأمر أي نظام يقوم على غير مبدأ إن الحكم إلا لله. لأن وظيفة الطائفة القائمة بأمر الله هي إزاحة أي نظام السيادة فيه لغير لله عاجلا أم آجلا، وليست وظيفتها الانخراط فيه والعمل وفق مبادئه وأسسه وفي حدود مرجعيته التي تضاد الإيمان وتناقض الإسلام. “قائمة بأمر الله” أي قائمة بحكم الله لا بحكم الشعب أو بحكم الأكثرية.
إنها طائفة لا تخدعها شعارات الإسلام الديمقراطي، ولا تخدعها عناوين حيث أيقنت أنه متى لم تكن السيادة لله فتم الإشراك به، ومن تم أيقنت بما أن الديمقراطية الحديثة تقدس ما تأمر به الأكثرية، وتنبذ ما يأمر به الله، فهي إذن تجعل الأكثرية إلها يطاع، وصنما يعبد من دون الله!
وإلا فمن هو الإله الذي تتبع أوامره الشعوب في النظام الديمقراطي؟ أهو الله أم هي الأكثرية؟!
إن الله يأمر أن تكون شريعته هي الحاكمة. ولكن الديمقراطية تقول: كلا! إن الأكثرية هي التي تشرع وشريعتها هي الحاكمة. إن هذه الطائفة المنغمسة في وحل الديمقراطية عليها أن تعي أن شكل الأصنام فقط هو الذي تغير تحت مسمى الديمقراطية، أما مبدأ صنم السيادة لغير الله فهو لا زال قائما لحد الآن في شكل السيادة للشعب وحكم الأكثرية. ولهذا نقول ليس خلافنا مع دعاة الإسلام الديمقراطي في أن يكونوا هم الطائفة القائمة بأمر الله، وإنما خلافنا معهم في أن يكونوا هم الطائفة القائمة بأمر الديمقراطية.
أخف الضررين على الطريقة الميكيافيلية
إن أصحاب هذا الاتجاه اختلطت عليهم تحت ضغط الواقع ودعوى المصلحة المتوهمة، قاعدة الوسائل لها أحكام المقاصد أو قاعدة ارتكاب أخف الضررين وترك أدنى المصلحتين عند التزاحم، بالقاعدة الميكيافيلية الغاية تبرر الوسيلة.
وإلا فإنه إذا كانت الغاية من العمل السياسي هي إقامة شرع الله والقيام بأمر الله، فلا يعقل أن تكون الوسيلة والطريق الموصل إليه هي العمل بغير شرع الله والقيام بغير أمره. وليس بصيرا من يبرر وسيلة العمل بغير شريعة الله، بدعوى أنها حتمية من حتميات الواقع وهذا شيء كرره للأسف الشديد أخونا حماد القباج في أكثر من موضع، عند نقله كلام محمد بن عبد الواحد كامل، ولقد نقلناه في أكثر من مقال فلا داعي لتكراره. والذي نريده في هذه الكرة هو الوقوف مع نوع تبرير أصحاب هذه الحتمية وهذا الاستسلام منهم في مثل قولهم:« فالتعاطي مع الواقع ليس دائما إقرارا له، ولا رضا به، ولكن قد يكون من باب ارتكاب أخف الضررين»(3).
فبالله عليكم إذا كان التحاكم إلى الأكثرية والتعامل معها على أنها معيار في تشريع الأحكام لا يعد إقرارا لها ولا رضا بها، فماذا يعد إذن؟ إن في مثل تعاطي هؤلاء في المجال السياسي مع مبدأ الأكثرية الديمقراطية تعاطيا منهم مع الواقع الديمقراطي دون إقرار أو رضا به زعموا، شبه كبير بتعاطي أفراد جماعة الدعوة والتبليغ مع أهل البدع في مجالهم الدعوي، حيث كما لا يتحرج أفراد هذه الجماعة عند اشتغالهم بالدعوة من مشاركة أهل البدع في بدعهم بدعوى المحبة تعاطيا منهم مع الواقع البدعي دون إقرار له، ولا رضا به، فإن هؤلاء لا يتحرجون في عملهم السياسي من مشاركة الديمقراطيين في ديمقراطيتهم بدعوى المصلحة. وهذا يكشف عما في قولهم من التلاعب بالألفاظ التي لا قيمة ولا أثر لها في تغيير الحقيقة التي هي أن التعاطي مع الواقع الديمقراطي هو في حقيقة الأمر تكريس للديمقراطية وتعميق لها واندماج فيها وخدمة لنظامها وعمل لحساب تصورها وفلسفتها. وليس هو من المدافعة في شيء. بل هو تقاعس عن القيام بواجب الصدع في وجه الديمقراطيين كانوا حكاما أو محكومين، ومواجهتهم بالحقيقة التي هي أنهم على دعواهم الحرية وعلى دعواهم المساواة، هم ليسوا على شيء حتى يقيموا القرآن في حياتهم، ويحكموا الإسلام في أوضاعهم.
وإلا فهل من المعقول إذا أردنا أن ندعو المجتمعات الديمقراطية والتي يقوم نظامها السياسي على مبدأ التحاكم إلى الأكثرية؛ إذا أردنا أن ندعو هذا النوع من المجتمعات إلى إقامة نظام إسلامي يقوم على مبدأ حكم الشرع، فهل يكون من المعقول ونحن ندعوهم إلى حكم الشرع أن نتحاكم معهم إلى حكم الشعب؟!
وما يكون لو أن المصلحين الموحدين كانوا في مجتمع ثيوقراطي اتخذ شعبه أحبارهم ورهبانهم مشرعين من دون الله، أو يعقل أن يعمل المصلحون في هذا الوضع على أن يكونوا هم الأحبار والرهبان باسم الضرورة والمصلحة حتى يشرعوا ما يرونه عدلا ومصلحة، أم الواجب هو الوقوف في وجه الأحبار والرهبان دون الانخراط في شركهم وشراكهم؟
وما قيل لهؤلاء الموحدين في النظام الثيوقراطي، يقال لإخوانهم في مجتمع ديمقراطي يتحاكم إلى صنم الأكثرية؛ أو يعقل أن تحاجون خصومكم الديمقراطيين بقولكم أن لا حكم في النظام الإسلامي لحكم الأكثرية، ولا خضوع لحكم الأكثرية، ولا سلطان لحكم الأكثرية، ولا طاعة لحكم الأكثرية، ولا سيادة لحكم الأكثرية، ولا قداسة لحكم الأكثرية، إنما الحكم والخضوع والسلطان والطاعة والسيادة والقداسة في النظام الإسلامي لله الواحد القهار. ثم تدعونهم أن يجعلونكم أنتم الأكثرية؟!!!
إنها سذاجة أية سذاجة، حينما لا تسعفنا القواعد أن نظن – بعد الأحداث السابقة انطلاقا من انقلاب جيش الحكومة الجزائرية على جبهة الإنقاذ عند انتصارها بالأغلبية في سنة 1991، وانقلاب حركة فتح الفلسطينية على حركة حماس عند انتصارها بالأغلبية في سنة 2006، وأخيرا وليست آخرا انقلاب الجيش المصري على جماعة (الإخوان المسلمون)-، إنها غفلة أية غفلة حينما نظن أن نظاما ديمقراطيا أو أي نظام يقوم على غير مبدأ السيادة لله يمكن أن يساعد المسلمين ويكون وسيلة لهم لإقامة نظام إسلامي.
فليت شعري! كيف يمكن أن يقوم نظام إسلامي على مبادئ نظام ديمقراطي أو أي نظام آخر غير إسلامي؟
والأعجب من هذا بل والمخجل هو أن الديمقراطيين، هم الذين ينادوننا جهارا ويدعوننا نهارا بألا سيادة لله، ولا سيادة فوق سيادة الشعب!!
فأي الفريقين أحق بالصدع والمجاهرة ونحن في بلد أغلبيته الساحقة مسلمة؟!
آالذين ينادون بتحكيم الشريعة؟!
أم الذين ينادون بتحكيم الشعب؟!
يتبع بحول الله.
ـــــــــــــــــ
(1) موقع “هوية بريس” نشر بتاريخ الثلاثاء، 25 مارس.
(2) نفس المصدر.
(3) “الاستبصار والتؤدة”، ص:84. للشيخ حماد القباج.