إعلامنا اللاعمومي!

هوية بريس – صالح أيت خزانة
لم يكن إعلامنا العمومي، في وقت من الأوقات، عموميا. ولم يكن صناع القرار الإعلامي، والمشرفين على نشر المعلومة “المقدسة”، يعيشون الواقع مع عامة الشعب المغربي، ويشاركونه أفراحه وأتراحه، إلا فيما يحقق أجندات؛ بعضها سياسي، وبعضها ثقافي، وبعضها أيديولوجي.
فالإعلام “العمومي” الذي يمول من أموال دافعي الضرائب، لم يوجد إلا ليصور للمغاربة، ما يريده صناع القرار السياسي بالبلاد، ويخدم استمرارية مقررة لتوجهات سياسية/حزباوية تطبل لكل قادم إلى سدة الحكم؛ فمع اليمين إعلام، ومع اليسار إعلام، ومع الوسط إعلام،… وهكذا دواليك تضيع المعلومة، التي لم تعد حكرا على أحد، في خضم الاحتكار السياسوي للإعلام العمومي، وتتحول إلى شظايا يتقاذفها الإعلام البديل الممثل في قنوات السوشيال ميديا التي احتلت ساحة المعلومة، وأصبحت الملاذ الوحيد الذي يلجأ إليه المواطن المغربي، وإن كان ملاذا تعوزه الموثوقية، والصدقية، مما جعل المغاربة يُكوِّنون رصيدهم الخبري من الإشاعة، والأخبار المزيفة، والتي تتحول إلى حقائق عند العامة، وتشكل لها جمهورا، ينافح دونها، ويساهم في نقلها إلى تجمعات النميمة، وصالونات التفاهة، بل أصبحت تسري إلى صالونات النخبة، تأخذ منها، وتنشرها بأسلوبها اللبق، وتحويرها الذكي، حتى ما عدنا نفرق بين الحقيقة والزيف، وبين الجد والهزل؛ فقد تحول الفضاء الإعلامي الحر، إلى ساحة للمعلومة ونقيضها، وللخبر وخلافه.
فمع تراجع الإعلام العمومي الرسمي عن رسالته المقدسة في تبيان الحقيقة، وتوجيه الأمة إلى سواء الحق، انزوى إلى خدمة أجندات الساسة والسياسة، و تزويق الفيترينات المهترئة للدكاكين الحزبية الحاكمة، وترك المعلومة الممولة تعمل عملها في إفساد الرأي العام، وتهييجه لخدمة خصوم الحكم بالوسائل غير الأخلاقية، وإن كانت الأوضاع المعيشية، والوظيفية، والخدماتية، تغني عن كل تزييف، أو إشاعة، لخدمة أجندة من يعارض، ويرفض.
فالغاية لا تبرر الوسيلة إلا عند من لا يعطي أي اعتبار للأخلاق، والمروءة، في الصراع السياسي، والأيديولوجي. فبدل أن نتوسل بالتفاهة، والزيف، والكذب، لإسقاط الخصم السياسي، ونجعل من المعلومة، التي تأكد عندنا بطلانها، سلاحا لمعركتنا “المشروعة” في حلبة السياسة، ونسعى للترويج لها، وإنفاق الأموال على تمويل الذباب الذي يسري بها في مفاصل الوطن، حتى تصير حقيقة،.. فبدل كل هذا، حَرِيٌّ بنا، أخلاقيا، أن نظهر للعالم قدرتنا على إدارة المعركة بالحق، و تقديم نموذج فريد في المواجهة الشريفة التي تقول للمحسن أحسنت وإن كان خصمَه السياسي، وللمسيء أسأت وإن كان حليفَه الحزبي.
المغاربة يريدون معارضة شريفة، تخوض معركتها الحُكميَّة بوسائل شريفة، وتنأى بنفسها عن معارك التفاهة، والزيف، واستغلال فضاءات السقوط الأخلاقي، في معاركها الدونكيشوتية، ضد الحكومة. ويريدون حكومة محترمة، تسمع لانتظارت الشعب، ولا تكذب عليهم، ولا تعِدُهم بما لا تطيق، وتعترف بالخطأ إذا أخطأت، وتقدم الحساب في البرلمان، بالإنجازات، كما بالتقصير الذي طال تدبيرها. بدل أن تحول الإعلام العمومي/ إعلامها، إلى أداة لتلميع الوجه، وتحسين الصورة، والدفاع عن النفس. وتحول البرلمان إلى مجلس موميائي “للرَّش” والتصفيق. فمثل هذا الإعلام، المنسحب من هموم الناس والمجتمع، لا يجد له في اهتمام المواطنين صدى، ولا في اعتبارهم ذكرا.
قد يكون المغاربة، لأول مرة، في تاريخهم البرلماني، وفي علاقتهم بالإعلام العمومي، يولون للجلسات البرلمانية اهتماما فاق أحيانا اهتمامهم بمباريات كرة القدم، مع حكومة ابن كيران، خصوصا خلال تدخلاته القوية التي لم تكن تخلو من فسحات الترفيه مع قفشاته، وسمات الجدية والصدق التي اكتشفها المغاربة لأول مرة في سياسي يقول ما يحسون به، مما جعلهم يحترمون قراراته التي لم تكن كلها بَلْسماً ودواء لأمراضهم المستعصية، ولكن، على الأقل، كانت صادقة، وغير مُقَنَّعَة.
فقد وجد المغاربة في هذا الرئيس الرجل الذي تعجبهم صراحته، وإن كانت تؤلمهم قراراته. وهو الأمر الذي لم يعتادوا على نظيره طيلة عقود من التدبير الحكمي والسياسي بالمغرب.
فقد عاش الإعلام العمومي، لأول مرة، في عهده، حرا طليقا، ينتقد الحكومة، وينتقد رئيسها، ولا يَأْلُو. كما لم يكن خادما لأجندة الحكومة، كما حاله الآن، وقبل الآن.. فقد تمتع الإعلام العمومي، خلال هذه الفترة من تاريخ الحكم بالمغرب، لأول مرة، بحرية البوح بعيدا عن مقص الرقابة، وتنبيه المكالمات الهاتفية المعلومة.
فهل سيعي صناع القرار السياسي والإعلامي بالمغرب خطورة انسحاب الإعلام العمومي من واقع المغاربة، وينهضون لوضع خطة للإصلاح، تتأسس على الاستقلالية، وعدم الانحياز، وتعيد الثقة للمغاربة في إعلامٍ عمومي يستعيضون به عن إعلام التفاهة، والكذب، والإشاعة، الذي تتولاه مواقع “البوز”، والافتراء، ويضع حدا لهجرتهم إلى إعلام خارجي يستقون منه المعلومة عن بلدهم، وأغلبه إعلام مناوئ لبلدهم ولوحدته الترابية؟!!
هذا ما نرجوه، ويرجوه كل مغربي حر يحب بلده.
دمتم على وطن.. !!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وحينما يخرج ملايين المغاربة في تظاهرات من أجل غزة وفلسطين، ومن أجل الخبز، و ضد الفساد،… ولا تجد لصوتهم في الإعلام العمومي رنينا ولا طنينا؛ فاعلم أن إعلامك “العمومي” ليس عموميا!
وحينما يتم الاحتفاء بالتافهين والتافهات، ويُحاصَر العقلاء، والعلماء، والخبراء،… في الإعلام العمومي؛ فاعلم أن إعلامك العمومي ليس عموميا!
وحينما يهاجر المغاربة إلى قنوات خارجية، وأغلبها يصدر عن خصوم المغرب في الخارج، ليستقوا الخبر والمعلومة عن بلدهم، فاعلم أن إعلامك العمومي قد فشل في إشباع حاجتهم إلى الخبر، والحقيقة، وأنه قد انسحب من رسالته المقدسة!