إلى من يعنيه الأمر.. وإلى القائمين على الشأن الديني في المغرب

هوية بريس – إبراهيم سهيل
السلام على من وعى أن الدين أمانة وأن الكلمة إذا خرجت من منبر الجمعة فهي ميراث النبوة لا تُقال على هوى، ولا تُصاغ على مقتضى السياسة بل تُلقى حيث يقتضي الحق وحيث تُمليها الحكمة التي أنزلها الله رحمة للعالمين.
أما بعد:
لقد أراد الله للمنبر أن يكون لسان الأمة الناطق ومنبر الجمعة أن يكون ميزانها الذي تزن به أحوالها فما كان لواعظ أن يقف على أعواد المنبر إلا ليقول كلمة الحق وما كان لخطيب أن يُلزَم بغير ما يعلمه من فقه الواقع وفقه الكتاب والسنة.
فمن ذا الذي يحتكر الحكمة حتى يفرض على جميع الناس خطابًا واحدًا كأن الأمة قطيع وكأن الخطباء صدى لصوت واحد لا يجوز لهم أن يختلفوا ولا أن يُعملوا عقولهم فيما يعظون به عباد الله؟!
إن فرض “الخطبة الموحدة” بهذه الطريقة ليس “تسديدًا للتبليغ” ولكنه تضييق على حرية الكلمة التي أمر الله بها وسلبٌ لعقل الخطباء وتحويلٌ لمنبر الجمعة إلى نشرة رسمية لا روح فيها ولا حياة يُقال فيها ما يُراد له أن يُقال لا ما يريده الدين ولا ما تحتاج إليه الأمة.
إن في ذلك خطورة عظيمة على الدين والمجتمع، ومن عواقبه ما يلي:
1. تحويل الخطبة إلى واجب إداري لا رسالة دينية:
فإذا صار الخطيب مجرد ناقل لا فقيهًا بزمانه ولا ناظرًا في أحوال مجتمعه فقدت الخطبة أثرها ولم تعد تربيةً للأمة بل تكرارًا لا يُحرك القلوب ولا يُصلح النفوس.
2. إفراغ المنبر من رسالته في الإصلاح والتوجيه:
وما الفائدة في أن يتحدث الخطيب عن أمور لا تمس واقع الناس ولا تعالج قضاياهم بينما يُغرقهم الظلم والفساد والجهل والفتن؟ أَوَليس الإسلام هو الدين الذي يتناول حياة الناس كلها؟ فكيف تُحدد مواضيع الخطب سلفًا وكأنما لا حاجة للاجتهاد ولا اعتبار للمتغيرات؟
3. تجرئة الحكومات والأنظمة على التحكم في الدين:
وإن أخطر ما يُبتلى به المسلمون أن يكون دينهم مرتهنًا لإرادة الساسة وأن تتحول منابرهم إلى أدوات طيّعة تبرر الواقع
ولا تُصلحه وتُروّج لما يُراد منها أن تُروّج ولو خالف المصلحة الحقيقية للأمة.
4. محاربة الخطباء الصادقين الذين يحملون همّ الأمة:
وما كان في الأمة شرٌّ أضر من محاربة الصادقين وملاحقة الذين يقولون الحق فإن الخطباء الذين يعظون الناس بصدق وإخلاص هم ورثة الأنبياء فإذا ضُيِّق عليهم فمن الذي سيقوم بوظيفة النصح والإصلاح؟ ومن الذي سيبلغ للناس دين الله كما ينبغي؟
أما من الناحية الشرعية فقد قال الله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾.
فكيف يُراد للخطيب أن يخشى غير الله!!
وأن يقول ما يُملى عليه لا ما يُمليه عليه دينه وضميره؟
كيف يُراد له أن يكون موظفًا وليس داعية وأن يكون ناقلًا لا مُصلحًا؟
إن الخطبة في الإسلام لم تكن يومًا محض تلاوةٍ أو واجبًا رسميًا بل كانت صيحة حق وكانت كلمة تُهزّ بها النفوس
حتى تعود إلى ربها.
وحين يُجرّد الخطيب من حريته في النصح والتوجيه
وحين يُسلب حقه في أن يتحدث عن قضايا الناس التي تحاصرهم فلا جرم أن يُصبح المنبر بلا روح وتُصبح الخطبة بلا أثر.
أما من الناحية الأخلاقية فليس أشد قبحًا من أن يُستخدم الدين وسيلة للضبط لا للهداية وللسيطرة لا للإصلاح.
إن الله قد جعل الخطباء أُمناء على هذه الأمة لا على الحكومات وجعلهم مسؤولين أمامه عن كلمة الحق لا عن إرضاء من يفرض عليهم ماذا يقولون وماذا يسكتون عنه.
ثم نقول للذين يمارسون هذا التضييق:
أما تخافون يومًا يقف فيه الخطيب بين يدي الله فيقول: “يا رب، مُنعتُ من قول الحق”؟
أما تخافون أن يُكتب في صحائفكم أنكم أغلقتم باب الإصلاح وقطعتم على الناس صوت الموعظة التي تنفعهم؟
إن التاريخ قد شهد مَن منعوا العلماء من أداء رسالتهم فما زادهم ذلك إلا سقوطًا وما زاد العلماء إلا رفعة.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تمنعوا إماء الله مساجد الله”.
فكيف يُمنع عباد الله من سماع الكلمة الحرة في بيت الله؟ وكيف يُحاصر العلماء وهم ورثة الأنبياء؟!
إن كانت هذه سياسة فبئس السياسة التي تكمم أفواه الحق.
وإن كان هذا تدبيرًا فبئس التدبير الذي يُغلق على الناس باب الهداية. وإن كان هذا من مصلحة الدين كما يُدّعى فمتى كان الدين يُؤخذ من غير أهله؟
ومتى صار التوحيد في الخُطب أولى من التوحيد في القلوب؟
وأخيرًا، نقولها كلمة لا تُسقطها العواصف:
إن المنابر ستظل حرةً وإن الكلمة التي أراد الله لها أن تخرج فلن يحبسها أحد وإن الخطباء الصادقين لن يبيعوا دينهم
ولو لُفِظوا من منابرهم فإنما المنبر كلمةٌ والكلمة لا تُدفن ولا تموت.
فاتقوا الله في دينه واتقوا الله في عبادِه.
واتقوا الله في أنفسكم قبل أن يأتي يوم يُقال فيه: ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ﴾.