التجديد من داخل التراث: عمر بن الخطاب وآية الغنائم

06 يوليو 2018 18:13
التجديد من داخل التراث: عمر بن الخطاب وآية الغنائم

هوية بريس – عبد الله الشتوي

مما شاع بين دعاة تجديد الخطاب الديني استشهادهم باجتهادات عمر بن الخطاب على ضرورة تجاوز النص الشرعي والنظر المصلحي بعيدا عن التسليم لنصوص الوحي، ومن عجائب هذا الاستشهاد أن يصدر أولا عن ملاحدة عرفوا بإنكارهم أصل الوحي والنبوة رأسا، ثم يتناقله دعاة التجديد المزعوم ممن خضعوا وسلَّموا عقولهم للفكر الغربي.

ومن جملة ذلك أن يحتج من يريد إلغاء سلطة النص في التشريع بأحداث من التاريخ الإسلامي كاجتهادات عمر في الزكاة والحدود والغنائم، فيرى فيها هؤلاء أن عمر بن الخطاب تحرر من سلطة النص وأسقط العمل بآيات قطعية لمجرد مصلحة رآها، وبقليل من التأويل والتكلف يُبيِّن لنا هؤلاء أنه يمكن الثورة ضد النص الشرعي وإلغاؤه دون معارضة للشريعة نفسها.

وهذا النوع من “التوجه الإلحادي” في فهم النص يمكن تسويقه كحلقة تطورية بين التمسك بالشريعة والانسلاخ منها بالكلية.

وحتى تتضح الصورة نضرب مثالا بالملحد المصري نصر حامد أبوزيد الذي احتج باجتهادات عمر على صحة التحرُّر من سلطة النص الشرعي، فما الذي يجعل شخصا ملحدا ينزع إلى الاحتجاج بفعل عمر مع أنه أصلا يصف القرآن بأنه “منتج ثقافي أنتجه واقع بشري تاريخي” [1]، وليس وحيا من الله عز وجل.

عمر بن الخطاب وآية الغنائم
ملخص الاعتراض:
يقول الله عز وجل في سورة الأنفال: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}

يرى أصحاب هذا الاستدلال المنتحَل أن عمر أحدث في الإسلام ما لم يكن قبله بتركه قسمة أراضي سواد العراق وغيرها، يرون في ذلك إبطالا لهذه الآية من سورة الأنفال مع أنها صريحة في وجوب قسمة الغنائم وتخميسها، ثم ينطلقون من هذه الصورة المتوهَّمة ليفتحوا بابا لإسقاط النصوص الشرعية مهما كانت قطعية في دلالاتها.

الصورة الكاملة:
أما حكم الآية من سورة الأنفال فقد كان مستقرا في أذهان الصحابة وعملوا به على عهد رسول الله ﷺ وبعده، ولم يكن هذا الحكم مما يحتاج أصلا إلى مراجعة الخليفة، بل كان قادة الجند يعيّنون من يخمّس الغنائم، وقد اشتهر في سيرة زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه تولى قسمة الغنائم يوم اليرموك [2].

أما في العراق فلما بعث عمر بن الخطاب سعدا إلى حرب فارس أرسل معه عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي قاضيا وولاَّه قسمة الغنائم [3]، ولما فتح الله على المسلمين قصر المدائن أمر سعد بتخميس الغنائم وإرسال خمسها إلى عمر بن الخطاب في المدينة.

يقول ابن الأثير: “فلما جمعت الغنائم قسم سعد الفيء بين الناس بعدما خمّسه، فأقاموا بالمدائن حتى فرغوا من جلولاء وحلوان وتكريت والموصل ثم تحولوا إلى الكوفة. وأرسل سعد في الخُمس كل شيء أراد أن يعجب منه العرب” [4].

بل إن سعدا لما أشكل عليه أن يقسم القطف بين المسلمين – وهو من أعاجيب كنوز كسرى – شاور المسلمين فقال: هل تطيب أنفسكم عن أربعة أخماسه فنبعث به إلى عمر يضعه حيث يشاء فإنا لا نراه ينقسم، وهو بيننا قليل، وهو يقع من أهل المدينة موقعا؟ فقالوا: نعم. فبعثه إلى عمر.

فهل يقال بعد كل هذا أن عمر بن الخطاب ترك العمل بآية الغنائم؟!

قسمة الأراضي:
على خلاف ما ذكرنا سابقا في كون قسمة المنقولات من الغنائم أمرا بَدَهِيّا عند الصحابة بحيث لم يحتاجوا فيه إلى مشاورة الخليفة أصلا، فإن قسمة الأراضي كان المرجع فيها إلى الخليفة، مما يفيد أن حكمها راجع لإمام المسلمين حسب ما تقتضيه المصلحة العامة، فكان أن أشار معاذ بن جبل بترك قسمتها ووافقه علي وعثمان وطلحة وأشار بلال ومن معه أن يقسمها بين المسلمين، فبقي عمر أياما ثم أجمع أمره بوقفها وضرب الخراج عليها وصرفه في مصالح المسلمين.

ومما يدل على ذلك أيضا أن عمرو بن العاص لما افتتح مصر أشار عليه الزبير بن العوام بقسمة الأراضي، لكنه رفع أمرها إلى الخليفة فكتب إليه عمر: أن دعها حتى يغزو منها حبل الحبلة [5]، فلو كانت قسمة الأراضي داخلة في حكم الآية لما رفع أمرها إلى الخليفة أصلا كما فعل مع سائر الغنائم ولما وقع الخلاف والتشاور حولها.

قال ابن القيم: “إن الأرض لا تدخل في الغنائم والإمام مخير فيها بحسب المصلحة، وقد قسم رسول الله ﷺ وترك، وعمر لم يقسم بل أقرها على حالها وضرب عليها خراجا مستمرا في رقبتها تكون للمقاتلة”.

وتتبع عمل النبي صلى الله عليه وسلم في قسمة الأراضي يظهر أنه قسمها حينا وترك، بل لم يقسم خيبر كلها بل ترك شطرها، فإن كان هناك من ترك العمل بآية الغنائم ابتداء فهو النبي ﷺ وليس عمر.

يقول ابن قدامة: “إن الإمام مخير بين قسمتها على الغانمين، وبين وقفيتها على جميع المسلمين، لأن كلا الأمرين قد ثبت فيه حجة عن النبي ﷺ فإن النبي ﷺ قسم نصف خيبر، ووقف نصفها لنوائبه” [6].

ومن هنا تعلم أن الأراضي غير داخلة في الغنائم المنصوص عليها في الآية ليكون عمر مخالفا لها، ولم يحتجَّ أحد من الصحابة على عمر باعتباره مخالفا لآية الأنفال، وكل النقاش الفقهي في قسمة أراضي السواد مبني على فعله ﷺفي خيبر وغيرها وليس على مدلول هذه الآية، فكيف يأتي هؤلاء بعد قرون ليفسروا للمسلمين دلالات كتاب ربهم ويحددوا الموافق من المخالف!؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]: نقد النص/ نصر حامد أبوزيد ص: 200

[2]: الذهبي في السير

[3]: فتوح البلدان/ البلاذري

[4]: الكامل في التاريخ/ ابن الأثير

[5]: تصرف أموالها على من يأتي من أولاد المسلمين

[6]: المغني/ابن قدامة

(المصدر: موقع يقين).

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M