الرد على نواف القديمي الذي حمل المقاومة نتائج الإبادة

هوية بريس – ساري عرابي
مقال طويل للباحث الفلسطيني القدير ساري عرابي
(1)
مشكلة خطاب الأخ نوّاف من ناحيتين:
الناحية الأولى-
أنه بالضرورة لن يكون قادرًا على أن يحدد لنا كيف يمكن للمناضل أن يقدّر بنحو حتميّ عواقب خياراته الكفاحية. أقصى ما يمكن أن يفعله الأخ نوّاف أن يستدلّ بالتاريخ الكفاحي لحماس مثلاً ويقول ها هي في الماضي قدّرت عواقب أفعالها وكانت حساباتها المتحكّمة في اتخاذ القرار صحيحة. لكن كيف عرف الأخ نوّاف ذلك؟ بمعنى من أين له أن يقطع بأنّ أفعالاً للمناضل كانت محسوبة وأخرى غير محسوبة؟! هنا المشكلة في خطاب الأخ نوّاف. في أنّ ما يبني عليه كما سَنُبَيِّن لا يعني إلا الخضوع لإرادة المستعمِر. هو لا يقول ذلك ولا يريده، لكن هذا حاصل خطابه. فنحن لا نناقش نواياه وإنما خطابه. تمامًا كما أنّه يقول إنّه لا يشكّ في إخلاص متخذي قرار السابع من أكتوبر وصدقهم، ولكن هذا، بحسب ما يرى، لا ينفي خطأ القرار.
السبيل الوحيد للأخ نوّاف ليقول بإمكان توقّع المآلات هو ردّ فعل الاحتلال. أي أنّ صواب العمل من عدمه، وكونه محسوبًا أم مغامرة، وإن كان محسوبًا: هل حساباته صحيحة أم لا. لا يمكن تبينه إلا بعد العمل. طبعًا ثمّة فرق بين هذه المستويات، فكون العمل محسوبًا أم هو مغامرة، يختلف عن كونه كان محسوبًا ولكن أخفقت حساباته، والخلط بينهما مغالطة. لكن ليس هذا هو الموضوع.
الموضوع أنّ المُستَعمِر وحده هو الذي يَحشُرُ مستعمَريه في هذه الزاوية. أي هو وحده، لأنّه الطرف القويّ الوحيد الذي يملك آلة القتل والدمار المنفلتة القادر دائمًا على القول لأيّ مناضل لقد أخطأت الحساب. لأنّه حتمًا قادر على جعل كلفة أي عمل مقاوم أعلى من جدواه الظاهرة، وهو لا يكتفي بكونه قادرًا ولكنه يفعل دائمًا.
فمن أين للأخ نوّاف أنّ عمليات حماس السابقة كانت محسوبة بدقة؟! دليله أنّ ردّ فعل الاحتلال كان عليها أقلّ من الإبادة التي جرت على غزة. فدليله النتيجة. وعلى فرض دقة معلوماته بخصوص ذلك. هل النتيجة وحدها دليل على وجود الحساب المسبق من عدمه، أو كونه كان دقيقًا في توقعاته أم لا؟!
خطورة هذا الخطاب الذي لا يفكّر في ذاته جيدًا. أنّه أوّلاً؛ يفضي لإدانة المقاوم وذلك بتحميله مسؤولية ردّ فعل الاحتلال دائمًا. وهذه مكابرة منطقية ومعرفية. فالطرف الضعيف هنا هو المتحكم بإرادة الطرف القوي!
وثانيًا؛ أنّه يفترض في العدوّ المُستعمِر قابلية التخفّف من عدوانه. لماذا لا يتخفف المُستعمِر من عدوانه؟! لأن الضعيف المُعتدى عليه بَطَش به زيادة عن اللازم! ليس ثمّة معنى لهذا إلا إدانة المقاوم وتحميله المسؤولية عن ضحايا الاحتلال.
وثالثًا؛ تتحوّل إرادة المستعمِر المُعتدي معيارًا لأخلاقية وصوابية العمل المقاوم، وهذه مجازفة أخلاقية لا يتنبه لها الأخلاقويون كما هو ظاهر.
ورابعًا؛ تصير الإبادة على غزّة مرجعية النضال، وهنا يقع الأخلاقوي في مغالطتين: الأولى: إن زعم أنه لا يعارض المقاومة مبدئيًا فهو يقبل الكلف العالية ما دامت دون الإبادة. من هذا الذي يمكنه أن يزعم الحديث باسم ضحايا ردّ فعل الاحتلال للقول إنّ ذلك العدد من الضحايا يجوز احتماله في سبيل التحرر وذلك العدد لا يجوز احتماله؟! كل ضحية لها روح وحياة سابقة وأسرة وأهل ووسط اجتماعي. أي ضحية ليست حالة فردية بل هي حالة اجتماعية. من هذا الذي يستطيع ضمن هذه المفارقة أن يتجاوز عن حق مجتمع الضحية بينما في حالة أخرى يقول هذا ثمن لا يمكن احتماله؟! والثانية: إن كانت الإبادة مرجعية، فلا سبيل حينئذ إلا الكفّ عن المقاومة، لاسيما أنّ العدوّ أثبت أنّ الإبادة وسيلته للاحتماء من إرادة المُستعمَر.
الناحية الثانية-
الخطأ المعلوماتي الذي يستند إليه الأخ نوّاف.
فأولاً– من قال إنّ كلفة العمليات الاستشهادية واحدة؟! وهل يمكن للمقاوم أن يتوقع بمحض الخبرة النضالية معرفة ردود فعل الاحتلال على خياراته المتشابهة؟! الحقيقة لا. والأخ نواف يحتكم فقط إلى انطباعاته لا إلى معرفة صلبة بالتاريخ النضالي للشعب الفلسطيني، والممارسة الاستعمارية للعدوّ الإسرائيلي. 👇
(2)
ثانيًا– للتدليل على انطباعية الأخ نوّاف، فلنأخذ حالة العمليات الاستشهادية التي ضربها مثلاً على إمكان توقّع ردّ فعل الاحتلال. الانتفاضة الثانية اتسمت بالعمليات الاستشهادية، لكن عند عملية محددة، وهي عملية فندق بارك في نتانيا، في 27 آذار/ مارس 2002 قرّر شارون إعادة اجتياح مناطق (أ) في عملية “السور الواقي”، المستمرة بالمناسبة منذ ذلك الوقت إلى اليوم، لأنّ عملة “السور الواقي” ألغت فعليًا انحصار المسؤولية الأمنية على مناطق (أ) في السلطة الفلسطينية واستمرّ ذلك إلى اليوم. ومن نافلة القول إنّ ذلك أفضى إلى اعتقال آلاف الفلسطينيين أثناء الاجتياح، علاوة على استشهاد المئات، ومجزرة مخيم جنين، وبناء الجدار العازل! هل كان على الاستشهادي أن يقرّر عدد قتلى العملية سلفًا؟! أن يعلم الغيب؟! أن يكون الموت والحياة بيده؟! العملية الاستشهادية قد تجرح واحدًا وقد تقتل مئة، فكيف يتحكم بها الاستشهادي حتى نقرّر هل نحمّله مسؤولية ردّ فعل الاحتلال أم لا؟!
وإذن، وبالمثل الذي ضربه الأخ نواف لا يمكن توقّع نتيجة أي عمل مقاوم، ولا يمكن لأيّ مقاوم أن يتحكم في ردّ فعل الاحتلال، ومن ثمّ فأيّ حسابات قابلة للإخفاق بما في ذلك تلك المبنية على الخبرة النضالية التاريخية، وهذا لا يعني إلا أمرين إمّا ترك المقاومة مطلقًا طالما ردود أفعال الاحتلال هي معيار التقييم الوحيد، وإمّا الاستمرار فيها مع ضرورة النقاش السياسي لتصويبها قدر الإمكان، وهنا الفرق بين النقاش السياسي وبين المعايير الأخلاقية المتخشبة والمتهافتة في الوقت نفسه والمعبأة بالتناقضات، ولذلك فمن يرفض المقاومة المسلحة جملة وتفصيلاً خيارًا كفاحيًا هو أكثر تماسكًا من الأخ نواف.
ويمكن أن نزيد الأخ نواف من الشعر قصائد! وأن نعرّفه بأنّ الاحتلال حصدنا على الحواجز وأيدينا فارغة وصدورنا عارية في مطالع الانتفاضة الثانية. والذي لا ينبغي الشكّ فيه أن ذلك كان بطشًا فاحشًا وقد كانت المظاهرات سلمية، وأن نعرّفه أن الاحتلال اجتاح لبنان علم 1982 ودخل بيروت وقتل الآلاف بذريعة محاولة جماعة أبو النصال اغتيال دبلوماسي إسرائيلي في لندن! (مجرد محاولة. وهذه الجماعة معادية أصلاً لياسر عرفات ومنظمة التحرير! فكيّف حمّل المسؤولية لعرفات ومنظمته؟!)، ويمكننا أن نعرف الأخ نوّاف أنّ حرب العام 2014، وكانت عنيفة وطويلة بالقياس إلى ما سبقها، تدحرجت من أسر ثلاثة مستوطنين في الخليل، فلا العدد كان كبيرًا (أي أسرى الصهاينة أو قتلاهم)، ولا المكان كان غزّة. وهذه مجرّد أمثلة. لأنّ تعريف الأخ العزيز نوّاف بتاريخ التوحّش الصهيوني طويل ولا يتسع له المقام.
ألا يلاحظ الأخ نواف أنّ الاحتلال يهدد مخيمات شماليّ الضفة الغربية بمصير كمصير جباليا بالرغم من أنّ مستوى العمل المقاوم فيها قياسًا إلى السابع من أكتوبر يكاد يساوي صفرًا؟!
ثمّ وبما أنّ الأخ نواف في أصل مقالته قال إنّه لا يحقّ لأيّ مقاوم أن يحمّل غيره أكلاف عمله ما لم يستشرهم، ثمّ في رده على الأخ سعيد، ضرب مثلاً بالعمليات الاستشهادية عملاً كان محسوب العواقب ولا تزيد كلفته على هدم بيت الاستشهادي؛ يمكننا أن نسأله هل هذه كلفة هيّنة؟ وهل احتمالها وعدم احتسابها يتفق مع دعوى الأخ نواف الأخلاقية؟! فالاستشهادي لم يستشر والده وأمه وإخوته وزوجه وأطفاله. فبأيّ حق شرّدهم بعدما كانوا مكرّمين آمنين في بيتهم؟! وهل يستطيع هؤلاء حتمًا بناء بيت بديل؟! ثمّ إذا جرّت العملية الاستشهادية اقتحامات واعتقالات واسعة (كما يحصل عادة)، فما ذنب هؤلاء الذين صاروا أثمانًا جانبية لعمل لم يستشرهم فيه الاستشهادي؟! ولأضرب للأخ نواف مثلاً: رجل من قريتنا نفذ عملية دعس. فلم يكتف الاحتلال بالإخطار بهدم منزلة، بل أخطر أكثر من 20 منزلاً بالهدم لكونها مبنية في مناطق (ج)، وكان الاحتلال قد غضّ عنها الطرف قبل ذلك سنين طويلة! فمن المسؤول عن هدمها الاحتلال الذي أراد معاقبة قرية كاملة وتخويفها أم منفذ العملية الذي لم يستشر أحدًا من أهل قريته؟!
ألا يلاحظ الأخ نواف أنّ الغفلة عن ذلك، هو تبرئة للاحتلال من عقيدة الإبادة والعقاب الجماعي؟! علاوة على عدم عقلانية الاعتقاد بأنّ يمكنه للمقاوم التحكم بردّ فعل الاحتلال، والتناقض الداخلي للمقولة الأخلاقية الحاملة لهذه الفكرة المتهافتة! ألا يلاحظ الأخ نواف أنّ منطقه لو طردناه حتى آخره لا يعني إلا الخضوع للاحتلال، لأنه ما من عمل مقاوم إلا ويدفع ثمنه ضحايا لم يكن لهم كلمة فيه؟!
(3)
ولأنّ الأخ نوّاف، يستدل على الحكمة بالنتيجة، ضرب مثلاً من صلح الحديبية، ولكنه تغافل عن كون الصلح كان مسبوقًا ببيعة الشجرة واحتمال حصول مقتلة، ولم يتذكر الأخ نواف أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة إلى أحد رغم رؤياه وتأويله لها (أي رغم علمه المسبق) “رأيتُ كأني في دِرْعٍ حصينةٍ ، ورأيتُ بقَرًا تُنْحَرُ ، فأوَّلْتُ أنَّ الدِّرْعَ الحصينةَ المدينةُ ، وأنَّ البقرَ نَفَرٌ ، واللهِ خيرٌ“، وما فعل ذلك إلا لأنّه “الآنَ ليس لنبيٍّ إذا لبِس لَأْمَتَه أن يضَعَها حتى يُقاتِلَ”، ثمّ إنّه حمل صحابته بجراحهم لملاحقة المشركين في حمراء الأسد، ولنتخيل لو أنّ المشركين دخلوا المدينة واستباحوها يوم الخندق لولا أن سلمها الله، وما يمكن أن يقال في هذا كثير، من حيث عدم الترابط الحتمي بين الحسابات والنتائج، وأنه لا ينبغي التغافل عن كونه صلى الله عليه وآله وسلم كان نبيًا يوحى إليه.. الخ. فلا ينبغي امتهان السيرة الشريفة بمثل هذه الاستدلالات لتقوية موقف ينبغي أن يملك القوّة البرهانية في ذاته ليدافع عن نفسه.
يبقى أمران:
الأمر الأول– لماذا يرتفع منسوب الإبادة الأصلية والتأسيسية لدى الاحتلال؟!
يرتفع لسببين:
السب الأول– وجود إدارة فلسطينية ذاتية مما يجعل الاحتلال يتعامل مع بيئتها الاجتماعية المحكومة لها على أنها كلها متهمة. وهذا الأمر رأيناه بعد تأسيس السلطة، في هبة النفق، والانتفاضة الثانية.
إذ شاهدنا نحن أهل الأرض المحتلة عام 1967 مستويات غير مسبوقة من العنف، بالرغم من أن بدايات الانتفاضة الثانية كانت سلمية على الحواجز.
السبب الثاني– زيادة مستوى التحدي الفلسطيني. أي كلما ازداد الفلسطينيون قوّة كلما شعر الاحتلال بالخطر أكثر فرفع مستوى العنف.
وعلى هذا، إذا فكّكنا خطاب الأخ نوّاف، لا ينبغي أن يزداد الفلسطينيون قوّة، لأنّ ما يتهددهم هو ردّ فعل غير متوقع قد يصعد إلى مستويات الإبادة!
الأمر الثاني: قد يقول الأخ نواف. إنّ بطش الاحتلال الذي كان دائمًا يفوق درجة العمل المقاوم كان دون الإبادة التي وقعت على غزة. هنا سوف نسأله: متى تكون ردة فعل الاحتلال محتملة ومسوغة لدرجة الفعل المقاوم؟! مثلاً لو جاءت الإبادة في غزة على الربع أو الثلث مما اقترفه الاحتلال هل ستكون عملية السابع من أكتوبر محسوبة ونتائجها محتملة في صراع معقد من هذا النوع؟! هل ألف وألفان وثلاثة وعشرة مع آلاف الاعتقالات وجعل حياة الفلسطينيين جحيمًا بسبب الاجتياحات وتمزيق المناطق ومصادرة الأراضي وقصف التجمعات السكانية بالـ F16 والأباتشي كما في الانتفاضة الثانية ثمن مقبول ومحتمل ما دام دون الإبادة في غزة؟!
تبقى كلمة أخيرة:
هل ما أقوله هنا ينفي أحقية المراجعية السياسية لخيار حماس في 7 من أكتوبر واعتبار الثمن الفادح المدفوع في غزة بما يليق به؟!
لا. هذا حق مشروع. ولكن ثمة فرق بين المراجعة السياسية، والتي بالضرورة تدين دولاً عربية من المؤكد أنها رحبت بإبادة الغزيين ما دام ذلك سبيلاً لإزالة حماس، وبين المقولات الأخلاقية الساقطة عند أي اختبار (يمكن أن نلاحظ تناقضات البعض في مثاليتهم المفرطة تجاه ثورة السوريين وواقعيتهم الصارمة تجاه مقاومة الفلسطينيين مثلاً)، وثمة فرق بين مساءلة حماس سياسيًّا وهذا حق، وبين إدانتها، والاعتقاد الباطل في إمكان التحكم في ردّ فعل العدوّ، والغفلة عن النتئج المدمّرة لاعتقاد كهذا.
وينبغي أن أنوّه أنّ لي شخصيًّا مقالات أراجع فيها بالنقد الخيارات الكفاحية للفلسطينيين من الستينيات إلى اليوم وبما يطال حماس والجهاد، وذلك من قبل السابع من أكتوبر. لكن حينما يوقع الاحتلال مقتلته، فليس ثمّة عبقرية ولا بطولة في التفرّغ لإدانة الفاعل الفلسطيني، ومواقفنا محددة من قبل، إذ واجب الوقت إسناد هذا الفاعل والذب عنه ومحاولة التفكير معه وله، مع إمكان نقده على قاعدة سياسية ومعرفية صحيحة، لا على قاعدة أخلاقية هشة ومعرفية متهافتة.