الشرط الأخلاقي وماهية الفعل الإنساني

هوية بريس – ذ. أحمد العبودي
كل ممارسة إنسانية واعية لا يمكن أن تتطور وتسمو لتبلغ مداها الأقصى وتحقق غاياتها المثلى إلا إذا تحقق فيها الشرط الأخلاقي أساسا، بغض النظر عن شروط أخرى تكميلية وتحسينية لا غنى عنها. فإن حادت الممارسة عن الشرط الأخلاقي وانفكت عنه أوشكت أن تفقد ماهيتها وجوهرها الخالص، ورغم الفوارق او المسافة التي تفصل بين خصائص كل من جوهر الفعل (حقيقة الأمر الذي لا يكون إلا بها) وشكله الظاهر (سماته الخارجية) فإن ماهية الفعل تصبح شأنا آخر مخالفا وربما نقيضا حين ينعدم الشرط الأخلاقي من صلب تلك الممارسة أو يتحرر منها، بمعنى ٱخر، إن ذلك الفعل يغدو مجرد هيكل فارغ لا روح فيه. فما يجعل من الفعل الانساني هو نفسه لا غيره إنما هو قيمته الأخلاقية المضمرة أو المعلنة، ولا شيء غيرها مما لا صلة له بالحقيقة المميزة لطبيعة الفعل الإنساني وماهيته، وهكذا قد يتماهى الفعل ونقيضه أو على الأقل قد تصعب التفرقة بينهما إن لم يتم الاحتراز بصون الجوهر بالمحافظ على السمة الأخلاقية لأفعال الآدميين، لأنها بمنزلة العلامة الفاصلة بين الحقيقة والوهم أو بين المخبر الخالص والمظهر الزائف.
لما طرح سؤال المفاصلة: أيهما أخص بالإنسان؟ بمعنى ما هي الخصيصة المحددة لماهية الكائن الإنساني وهويته؟ أجاب الفيلسوف طه عبد الرحمان سريعا بأن ليس ثمة خصوصية أليق وأنسب بالانسان من “الأخلاقية”، فهي أخص به من العقلانية أو النطق أو التفكير…فالإنسان حيوان ذو أخلاق أو حيوان أخلاقي، ولذلك فهو يرى أن ” الإنسان كائن أخلاقي أصلا والأخلاق هي ما يميزه عن باقي كائنات الكوكب”.
إن حقيقة الهوية الإنسانية قائمة على المحدد الأخلاقي وهو محدد مميز وفاصل، على الرغم من كون بعضهم يحرص على رفع هذا الشعار ويضمر أو يمارس ضده ، فطالما تستر قوم وراء عنوان النبل ليقترفوا الهمجية والقبح وتظاهروا بالصدق وهم يمارسون الخداع والمكر السيئ ، وهذه الممارسة القائمة على إرادة التزييف أشد وقاحة وسوءا من سابقتها، بمعنى آخر لَأَن يفقد الإنسان إنسانيته عجزا أهون من أن يفقدها زيفا وتلبيسا.
إن الخُلُق باعتباره هيئة راسخة في النفس الإنسانية تصدر عنها الأفعال كما يرى ابن مسكويه في ” تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق” إنه فعلا معيار تمييز ما يصدر عن هذا المخلوق؛ تمييز بين التدين والنفاق وبين الفن السفاهة وبين السياسة والارتزاق وبين العلم والرياء وبين المال والفساد وبين الحكم والاستبداد وبين الحب والكراهية…
منذ كان على الأرض والإنسان يبحث عن المعنى الحقيقي لوجوده، ويسعى للتميّز عن سائر الكائنات التي تقتسم معه هذا الكوكب. وبالرغم من اشتراكه مع الحيوانات في بعض الغرائز والاحتياجات الأساسية، فإنّ ما يجعله كائنًا ساميًا هو ميزة “الأخلاق” لأن الأخلاق ليست مجرد سلوكيات أو أعراف اجتماعية وتقاليد ، بل هي جوهر إنساني عميق، وروح راقية توجهه نحو التسامي وتمنع من الانحدار إلى مدارك الحيوان الذي لا يميّز بطبعه بين الخير والشر إلا بمقتضى غريزته، على خلاف الإنسان الذي يمتلك عقلًا فريدًا لا يكتفي بتحليل الأمور فحسب، بل يُضفي عليها بعدًا أخلاقيًا، فالإنسان وحده من يشعر بالذنب عندما يخطئ، ويسعى إلى الاعتذار أو الاعتراف لأنه يدرك أنه مسؤول عن تصرفاته.
ومن أعظم مظاهر التجلي الأخلاقي في الكائن الإنساني قدرته على التحكم في شهواته وغرائزه، واختياره لفعل الخير رغم توفر أسباب الشر، فهو يستطيع أن يضحّي بمصلحته الشخصية من أجل الآخرين، وتدفعه أخلاقه إلى احترام الآخر، والتسامح معه رغم الخلاف، بل وتحثه على حماية الضعفاء ونصرة المظلومين…كما تتجلى إنسانية الإنسان وآدميته في تعاطفه مع غيره، وفي شعوره العميق بالمسؤولية تجاه مجتمعه، فالأخلاق لا تنظّم فقط العلاقة بين الفرد والآخرين، بل تنظم العلاقة بين الإنسان ونفسه، وبين الإنسان وباقي عناصر الكون ، مما يجعلها أساس التدين الحق ، وروح الحضارة، وركيزة المجتمعات المتقدمة.
ولأن الإنسان كائن اجتماعي، فإن الأخلاق هي التي تجعل الحياة ممكنة ومستقرة، فهي التي تمنع الفوضى، وتزرع الثقة، وتحقق التعاون بين الأفراد، من دونها تتحول المجتمعات إلى غابة، يسود فيها القوي، ويُهدر فيها الحق وقد تندلع الحروب…
إن الأخلاق هي سرّ تفرّد الإنسان وسموه على باقي المخلوقات، إذ القيم والمبادئ الأخلاقية وحدها القادرة على توجيه العلم والقوة والذكاء نحو الخير، وجعل الحياة جديرة بأالاهتمام والاحترام. وهذا المنحى هو ما أكدت عليه الرسالات السماوية والفلسفات المثالية والحركات الاصلاحية الاجتماعية والثقافية ، غير أن العالم يتجه حاليا نحو منحدر يتمرد على الأخلاق وينبذ الفضيلة، لذلك تعالت صيحات العقلاء من رجال التربية والاجتماع داعية لتدارك فطرة الإنسان وحماية ماهيته وتمكينه من ممارسة رسالته على الأرض.