الفلاح المغربي المدافع عن العرش

الفلاح المغربي المدافع عن العرش
هوية بريس – بلال التليدي
في خطاب العرش، قدم الملك محمد السادس نقدا قاسيا للنموذج التنموي المغربي، فأشاد بعناصر قوته، وكيف استطاع أن يحقق نسب نمو مهمة في ظرفية إقليمية ودولية معقدة، وفي مواسم جفاف متتالية، لكنه في الآن ذاته، عدد النقائص التي تعطب هذا النموذج، وكيف يصرف اهتمامه بالمجال الحضري، ويضع فيه ثقله، فيحتكر ثمار النمو والتقدم، بينما تعاني مناطق ما يسمى بـ«المغرب غير النافع» (المجال القروي) من واقع الهشاشة ومظاهر الفقر، وتحدث بلغة حاسمة على أنه لم يعد مسموحا في مغرب اليوم أن يسير بسرعتين، وأنه لا بد من إعداد جيل جديد من البرامج التنموية المندمجة لتأهيل هذه المناطق، وإلحاقها بسرعة النمو التي تعرفها المدن.
المراقبون انتبهوا إلى أن هذا الخطاب جاء عقب خروج مسيرة عارمة من جماعة أيت بوكمار (إقليم إزيلال الجبلي الشديد الهشاشة) يطالبون فيه الدولة بالحد الأدنى من الخدمات والتجهيزات التي لا يملكونها (صبيب إنترنت، طبيب..) وكان اللافت أن الذي وجد على رأس هذه المسيرة، هو رئيس الجماعة المنتخبة خالد تيكوكين، المنتمي إلى حزب العدالة والتنمية، فثار الجدل حينها حول شرعية انخراطه في هذا الحراك، وأن المنتمي إلى منظومة الوساطة يفترض أن يكون عامل تهدئة لا عامل احتقان.
رئيس الجماعة قدم كشفا في حوارات عدة سلسلة الإجراءات والطلبات التي تقدم بها إلى كل الجهات المسؤولة دون أن يجد إلا وعودا ليس وراءها عمل وأن دوره ترشيدي وليس تحريضيا.
إلى هنا، تبدو الأمور جد عادية، فالملك، استجاب لنبض شعبه، وهو يراقب عن كثب سير النموذج التنموي ويتدخل لتصحيح أعطابه كلما بدت له نقائص معيبة، تؤثر عليه، خاصة وأن البلاد مقبلة على مواجهة عدد من الاستحقاقات الكبرى، وأنها بحلول سنة 2030 ستكون على موعد مع تنظيم كأس العالم بشراكة مع إسبانيا والبرتغال.
المشكلة بدأت مع توجيه وزير الداخلية عبد الواحد لفتيت دورية يستنفر فيها الولاة والعمال لإعداد برامج الجيل الجديد من المشاريع المندمجة التي تستهدف المناطق الهشة.
بينت هذه الدورية أهداف هذه المشاريع، ومنهجية إعدادها (مقاربة تشاركية) ومحاورها، ومركز القيادة التي ستضطلع بالإشراف الفعلي على إعدادها وتنفيذها (السلطات الإدارية مجسدة في العمال والإقليم).
الكثير من مناضلي المعارضة رأوا في هذا الاستفراد بإعداد البرامج وتنفيذها من قبل الإدارة الترابية عودة لـ«أم الوزارات»، وتبخيسا للعمل السياسي ومسا بالمسار الديمقراطي، إذ المفترض بمنطق الاختيار الديمقراطي الذي يعتبره الدستور ثابتا من ثوابت النظام السياسي المغربي، أن الحكومة المنتخبة هي المسؤولة عن إعداد البرامج، وأن إسنادها إلى وزارة الداخلية، يعني المس بهذا الاختيار، وتكريس واقع اللاجدوى من العملية الانتخابية وما تفرزه من مؤسسات منتخبة.
دورية وزارة الداخلية نبهت على محذور خطير حذرت رجال السلطة من السقوط فيه، وهو استعمال هذه البرامج لأهداف انتخابية، خاصة وأن الاستحقاقات التشريعية لم يبق لها إلا سنة على الأكثر، وهو التحذير الذي فهم منه سبب إسناد هذه البرامج لوزارة الداخلية بدل الحكومة، تماما كما أسند لوزير الداخلية مهمة فتح مشاورات مع ممثلي الأحزاب السياسية بخصوص الإعداد للأجندة الانتخابية القادمة، وسط أصوات تنتقد غياب رئيس الحكومة عن المشهد، وما إذا كان الأمر يرمز لنهاية دوره السياسي.
العدالة والتنمية، الحزب المعارض ذو الخلفية الإسلامية، وجد نفسه في حرج من الموقف، فأصدرت أمانته العامة بلاغا، يتأرجح فيه بين دعم هذه البرامج وما تتطلع إليه من رفع الهشاشة عن العالم القروي، وبين التخوف مما يرمز له السياق الزمني (قرب الاستحقاقات الانتخابية) واحتمال عدم تأطير هذه البرامج بالمبادئ الدستورية (مراعاة الاختيار الديمقراطي ونظام الجهوية المتقدمة ومركزية الجهة في كل مشروع تنموي، وقضية الحكامة والشفافية والنجاعة) من إمكان أن تستغل هذه البرامج لأهداف انتخابية صرفة.
في الواقع، يبدو الأمر معضلا، فالالتزام بالاختيار الديمقراطي، يعني أن يسند الإشراف على هذه المشاريع وتنفيذها إلى الحكومة المنتخبة، لكن غالبية الأحزاب، نظرا للسياق الزمني القريب من العملية الانتخابية، ستنظر إلى هذه المشاريع كما ولو كانت هدية مهداة إلى أحزاب التحالف الحكومي ليسجلوا «ريمونتادا» انتخابية على أحزاب المعارضة، وبالأخص، العدالة والتنمية، الذي يعرف دينامية عودة تحاول قيادته أن تبشر من خلالها لإمكان تصدر المشهد السياسي ولم لا قيادة الحكومة.
وفي المقابل، فإن تجنب هذا المحذور بإسناد الإشراف على هذه المشاريع وتنفيذها إلى وزارة الداخلية، يطرح مشكلتين اثنتين، أولهما المس بمبدأ الاختيار الديمقراطي الذي يقتضي تحميل الحكومة المنتخبة مسؤوليتها في القيام بهذه المشاريع، وثانيتهما، التخوف من عدم حياد وزارة الداخلية، لاسيما وأنه في الانتخابات التشريعية السابقة، أصدر العدالة والتنمية بيانا سياسيا يطعن فيه بلغة ناعمة في الانتخابات، ويتحدث عن نتائج غير مفهومة وعن عدم حياد الإدارة الترابية أو حيادها السلبي تجاه الممارسات المنافية للنزاهة الانتخابية (استعمال المال الحرام).
في الستينيات من القرن الماضي، كتب ريمي لوفو عالم السياسة الفرنسي الذي كان قريبا من وزارة الداخلية المغربية، وراقب الاستحقاقات الانتخابية التي عرفها المغرب في الستينيات، أطروحة مهمة بعنوان: «الفلاح المغربي صانع المدافع عن الرعش المغربي» مضمونها أن صناعة العملية الانتخابية بالمغرب، وصناعة الحكومات، تأتي من العالم القروي، وليس من النخب المدينية، وأن النظام الانتخابي في المغرب يعتمد منهجية التمايز في الدوائر والمقاعد بين العالم الحضري الذي لا يشكل في الأكثر 20 في المائة، لجهة عالم قروي ممتد يشكل في مجموعة النسبة الغالبة من الدوائر والمقاعد (حوالي 80 في المائة). ولأن المجال القروي مطبوع من جهة بالهشاشة والفقر وضعف الإمكان الثقافي (شيوع الأمية) فإن مفتاح العملية الانتخابية فيه هي سلطة الأعيان، الذين يدورون في فلك السلطة، فيترحلون بين الأحزاب حسب مزاجها، ليبقى هذا العالم يتمتع بصفة أنه «محفوظ» لا يمكن أن تقتحمه الأحزاب البعيدة عن فلك السلطة، وذلك حتى تكون نتائج الانتخابات مؤمنة بالكامل، ولا يحدث فيها اختراق طارئ.
في انتخابات 2016 حدث اختراق مهم في هذا المجال المحفوظ، وحقق حزب العدالة والتنمية نتائج مهمة في العالم القروي كانت مثار تحليل ومراقبة طويلة الأمد، نتج عنها إعادة تقييم الموقف من جديد وإبعاد هذا الحزب عن الاحتكاك المباشر بهذا المجال من خلال سلطة الانتداب الانتخابي، فعاش الحزب أزمته الداخلية منذ 2017، ولا يبدو أن هذا الاختراق ممكن أن يتكرر مرة أخرى، بل الراجح لدى كثير من المراقبين والمحللين أن برامج الجيل الجديد من التنمية المندمجة في المناطق الهشة، ستكون خادمة لسلطة الأعيان، والأحزاب التي تدور في فلك السلطة، أكثر من أن تصب في خانة الأحزاب الإصلاحية.



