الكتابة في زمن العبث والهذيان

هوية بريس – د. عمر لشكر
يحدث لي مرارا أن أراجع نفسي في قضية الإصرار على الكتابة حتى في زمن العبث .
فلماذا هذا الإصرار ؟
ولم الكتابة في زمن التيه واكتابةلعبث ؟
ربما أكتب لأنني لا أعرف غير الكتابة لتجلية ذاكرتي من الصدأ ، أو لوقاية عقلي من الوقوع في الجنون ، وصرفه عن التفكير المجنون في قضايا وأمور زمن العبث .
جماهير زمن العبث والتيه لا تقرأ .
ولم يعد لها سبب ما للوجود خارج العبث .
ومن يكتب ضد العبث ، ربما سيكرر ” أسطورة سيزيف ” ، تلك الأسطورة الإغريقية القديمة التي تحكي عن عبث سيزيف لما شملته لعنة ” زايوس “.
في زمن التيه والعبث :
إياكم وصحيح المنقول ،
وإياكم وصريح المعقول،
فإن ظواهر وأشياء زمن العبث لا تستمد جاذبيتها وقوتها إلا من لا معقوليتها، ومن لا جديتها ، ومن لامنطقيتها …
كل معقول في هذا الزمن معلول ،
وكل عاقل فيه مهبول ،
أشياء هذا الزمن عنيدة جبارة ، لا يصمد لريحها إلا قلة من أصحاب المروءة والإرادة والهمم الوقادة .
جماهير هذا العصر تصرخ بأعلى صوتها :
نحن جماهير من نوع غير مألوف ، ومن جنس غير معروف .
فدعنا من القواطع العقلية ،
ودعنا من الإفادات والإرشادات والإنشادات الحكيمة .
نحن لا نحب الحكمة ولا نريدها .
ولا نتحمل المعقولات ولا نستسيغها .
ولا نقرأ ، ولا نفكر ، ولا نتأمل ، ولا نكتب .
هات ما عندك من أخبار الشطح والردح وهز الأكتاف والبطون ودق البنادير والطبول…
هات ما عندك من ” الفرجة ” ، ومن اللهو والإثارة .
نحن في زمن التيه والعبث :
دعنا من عاقل وعقل ومعقول، وناقل ونقل صحيح ومنقول ، ومتعنا بأخبار عاشق وعشق ومعشوق، ولذيذ ولذة وملتذ…
لا نريد شعرا ولا أدبا ، ولا حكمة ولا فلسفة ، ولا علما ولا بحثا ولا تحليلا ولا تجربة …
نحن أهل الوهم وأهل التخييل،
وأهل التجهيل والتبديل والتضليل ،
وأهل التزييف والتحويل والتزوير.
قولوا عنا ما شئتم، لن تغيروا فينا شيئا مهما اجتهدتم ، نحن أغلبية وأنتم قلة ، نحن أولو بأس شديد وقوة ، نحن هكذا وموتوا بغيظكم…
نترك ما هو عظيم الشأن والمنفعة ، لما هو عظيم اللذة في اللحظة ،
وأين المشكل؟
نسير مع العصر وما يريد .
ونتيه في الغواية ونزيد .
قطعنا مع المفيد النافع كل وصال .
وسرنا مع زبد الحياة إلى حيث نجهل النهاية ونقطة الوصول .
دعونا وجنون العصر ففيه متعة لا تقاوم .
دعونا والغواية .
دعونا للتفاهة ففيها لذة الجسم والبدن .
وهل نحن إلا جسم وبدن !
أيتها الجماهير التابعة، الضالة، التافهة ، المخدرة ، المستنفرة :
إن اللحظة عابرة والزمان ممتد .
والحال حال لا يرفع المآل.
والآفل آفل لا يدوم .
والظن ظن لا يرفع اليقين .
وصناديد الضلال والتضليل والتجهيل تقودكم إلى الضياع والهلاك كالبعير .
طواغيت لها صوت مسموع تجركم إلى الظلمات جرا ، لا ترقب فيكم إلا ولا ذمة .
انتبهوا أيها الناس ، فكلام الطواغيت معسول ، وأبواقها تخرق أسوار العقول ، وقدرتها على التزوير والتحريف والتبديل تفوق قدرة الشياطين .
فيقوا أيها الناس ما دام ذالك ممكنا .
فيقوا من غفلتكم .
فكروا وتعقلوا واعتبروا.
فليس علما كل ما صبغ بلون العلم .
وليس عسلا كل ما جعل في القنن.
وليس دواء شافيا كل ما وصف لكم.