المدرسة والمقاولة اختلاف الغاية والأسلوب

هوية بريس – زوهير النبيه
منذ زمن ليس باليسير بدأ استعمال المعجم الاقتصادي لفهم وتفسير القضايا التربوية المتعلقة بمؤسسة المدرسة، فأصبحنا نسمع عن المردودية والإنتاج وتدبير الموارد والإنجاز وغيرها من المفاهيم التي تروج في السجل المقاولاتي، إلى أن وصلنا اليوم إلى الحديث عن المدرسة كمقاولة تستعمل مادة المعرفة لإنتاج منتوج هو التلميذ ووسائل الإنتاج هي الأستاذ والإدارة التربوية وغيرهم من المتدخلين. وهذا التداخل بين المدرسة والمقاولة أمر حاصل في المجتمعات الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية التي يؤدي فيها المتعلم (الطالب) ثمن التعليم الذي يحصل عليه، أي أن التعليم في المستوى الجامعي بكل بساطة ليس مجانيا، فتعرض المدرسة سلعتها في سوق المعرفة وتخضع لمنطق المنافسة. ثم انتقل هذا النموذج إلى المجتمعات الأوروبية، إما على صعيد الممارسة أو على صعيد الفكر أو على الصعيدين معا.
أما في المجتمع المغربي فتم استيراد المعجم الاقتصادي والمحاسباتي بحذافيره وتم إسقاطه على واقع المدرسة العمومية التي تتميز بالمجانية إلى حدود اليوم، وبأمور أخرى عديدة. وبالتالي تطرح مجموعة من الأسئلة حول الغاية من مؤسسة المدرسة، هل هي نفس مرامي المقاولة؟ وهل يستقيم أسلوب تدبير المقاولة لتدبير مؤسسة المدرسة في المجتمع المغربي؟ وما هي حدود التوافق بين المقاولة كتنظيم والمدرسة كمؤسسة اجتماعية؟ وهل تتماشى حرية الاختيار الدراسي ومركزية المتعلم مع إكراه مطلب السوق؟ أسئلة وغيرها كثير، سنحاول إيجاد بعض عناصر إجابة لبعضها في مايلي من السطور.
جاءت مؤسسة المدرسة في النموذج الغربي –الفرنسي على الخصوص- حسب جيرار فوريز Gérard Fourez لتعويض نظام تعليم النقابات الحرفية أو “التعاونيات” corporations من جهة، وعمل الكنيسة السوسيوتربوي من جهة ثانية.
وبدأ النموذج الجديد للمدرسة بالتقريب مع بداية القرن التاسع عشر في خضم التحولات نحو التصنيع. حيث أصبح المصنع وحدة الإنتاج الأكثر شيوعا في الغرب. وتشبه المدرسة إلى حد بعيد المصنع، لأن لهما معا حسب فوريز “سلفا” مشتركا يتمثل في الأديرة. وكما يقوم المصنع بإنتاج السلع وتحويل المادة في مكان مغلق، تقوم المدرسة بتحويل المعرفة في مكان مغلق كذلك.
يخول السياق الغربي المشابهة بين المدرسة والمقاولة والمقارنة بينهما أيضا. كما يسمح بإنتاج نظرية مشتركة تساعد على فهم وتفسير القضايا المتعلقة بهما، أو تكييف النظرية المقاولاتية للإمساك بالواقع التربوي. وبالنظر إلى مسألة النشأة هاته التي تطور من خلالها التنظير في الحقول المعرفية الاقتصادية والتربوية في مجتمعات الغرب طبعا مع تفاوتات نسبية، ينضاف سؤال آخر للأسئلة السالفة الذكر يمكن أن نطرحه كالتالي: إلى أي حد تصبح هذه العمليات (الإنتاج والتكييف والمزاوجة) ممكنة على مستويي المعرفة والممارسة في سياقنا المغربي؟
بدأت المدرسة تأخذ شكلها الجديد في المغرب مع بداية الاحتلال الفرنسي تحت ما سمي بِ “الحماية”. ورغم التشظي الذي عرفته المدرسة أثناء هاته الفترة لتصبح مدرسات (المدرسة الأوروبية ومدرسة الأعيان والمدرسة الحرة الوطنية وغيرها) وبعدها أي منذ الاستقلال إلى اليوم، سنعتبر المدرسة العمومية (الشكل السائد للمدرسة في المغرب منذ الاستقلال) مرجعا نقارب من خلاله عمليات الإنتاج والتكييف والمزاوجة مع المقاولة.
في المجتمع المغربي يقترن التعليم بالتربية، ولطالما سميت السلطة الساهرة على المدرسة بوزارة التربية والتعليم. وتعتبر المدرسة من خلال الأدوار المنوطة بها مؤسسة للتنشئة الاجتماعية. يتم فيها نقل القيم والمعايير لتحقيق الاندماج الاجتماعي، كما تعمل على نقل المعارف أي التعليم وتطوير الفكر، وفيها تجرى عمليات التوجيه من خلال التقييم والتصنيف، ثم تأتي بعد هذا كله عمليات الإدماج المهني. أما المقاولة فهي كما يعرفها المعهد الوطني الفرنسي للإحصاء والدراسات الاقتصادية INSEE ”وحدة اقتصادية مستقلة قانونًا تتمثل وظيفتها الرئيسية في إنتاج السلع أو الخدمات للسوق“، لها وظيفة إنتاجية ووظيفة تجارية ووظيفة مالية ووظيفة بشرية. والمقاولة بكلمات أخرى تنظيم organisation هدفه الربح المادي. ورغم تشابه الهدف، تختلف المقاولة في السياق المغربي عن “مثيلتها” الغربية. فهي غالبا ما تكون عائلية يصعب عليها الانتقال إلى مستوى الإنتاج الكبير، أو تشتغل في القطاع غير المهيكل تعاني من مشكلات في التنظيم والحكامة والحماية الاجتماعية، أو هما معا.
بالإضافة إلى ظروف النشأة التي تختلف جملة وتفصيلا بين المجتمعات الغربية، التي تسمح بمقاربة المدرسة من خلال تنظير مقاولاتي، والمجتمع المغربي، نجد اختلافا صريحا للغايات والمرامي التي تتغياها كل من مؤسسة المدرسة وتنظيم المقاولة. فبينما تهدف المقاولة إلى الربح المادي وتكديس المال، تهدف المدرسة إلى تربية النشأ وتعليمه. هذا التباين في الأهداف يلازمه بالضرورة اختلاف في طرائق التدبير. فتدبير المدرسة يركز على التربية والتعليم وتنمية شخصية المتعلم، أما تدبير المقاولة فيركز على السوق والإنتاج والتنافس من أجل الربح.
تختلف المدرسة والمقاولة في المجتمع المغربي عن مجتمعات أخرى اختلافا على مستوى التاريخ أي ظروف النشأة لكليهما وتطورهما. وتختلفان على مستوى الغايات والمرامي والأهداف، كما تختلفان على مستوى طرائق التدبير. إن استيراد النماذج التي نشأت في سياقات معينة، غربية على الخصوص، والاشتغال بمفاهيمها لمن الصعوبة والتعقيد بمكان. ويستلزم في اعتقادنا حذرا أبستمولوجيا مضاعفا. فقد يقع الباحث عن الحل في مشكلات الأداة المعرفية التي يشتغل بها وداخلها. لا ندافع هنا عن مفاهيم مثل “الخصوصية المغربية” لأننا نؤمن بوحدة الإنسان، وإنما ندعو إلى تنظير ينطلق من الميدان، يستحضر الواقع المعيش وإكراهاته وإمكاناته.