المـقـصيـون

18 مايو 2025 18:12

هوية بريس – د. رضوان العابدي

يدل لفظ الإقصاء لغويا على البعد والإبعاد، قال ابن فارس: “القاف والصاد والحرف المعتل أصل صحيح يدل على بعد وإبعاد،… وأقصيته: أبعدته”[1].

إذا فالإقصاء يدل دلالة واضحة على الإبعاد، وهو منهج تسلكه التنظيمات والجماعات في التخلص من كل عضو لا ينفذ الأوامر، ويعترض على القرارات.

وعند التأمل في هذا اللفظ فإن الإقصاء نتيجة لرفض الآخر، فإذا أقصي شخص من مؤسسة ما فهو في حقيقة الأمر مرفوض وغير مرغوب فيه، أما إذا كان هذا الأخير من ذوي الكفاءات وله تأثير، فإن مصيره بعد إقصاءه هو تشويه صورته، وذلك بإدانته ظلما.. ومن ثم الحكم عليه أو مراقبته وتتبع أحواله لمعرفة عيوبه، واصطياد هفواته، ثم إشاعتها والتشهير به لاغتياله معنويا، وتدمير سمعته وثقة الآخرين فيه، وأحيانا قد يتطلب الأمر تسجيله صوتيا أو تصويره مرئيا بشكل سري في مواقف عفوية، ونشر ذلك، ولو خفية من أجل النيل من كرامته وسمعته.

هذا هو الأسلوب الخبيث التي تنهجه بعض التنظيمات مع المقصيين خصوصا الخصوم والمعارضين، وذلك باغتيال وقتل شخصيتهم المعنوية، لتكون لهم في الأخير صورة مشوهة تهدف إلى عزلهم وابتعاد الآخرين عنهم.

ولا شك أن هناك فرق شاسع بين النقد والنصح والبيان الصادق، وبين الكذب والخداع والاغتيال المعنوي، وذلك للاختلاف في النيات والمقاصد، فالأول نابع من نية صافية صادقة، والثاني نابع من نية خبيثة سيئة تحركها المصالح الشخصية.

إن الذي يسعى للاغتيال المعنوي، هو في حقيقة الأمر يغتال جزء من الأمانة والحقيقة، بالتدليس على الناس بأخطاء صحيحة أو مكذوبة، ووجود مثل هذا السلوك في التنظيمات، وعدم التوعية بمدى خطورته يفسد كثيرا من العمل المؤسسي الحقيقي.

ومن الناحية النفسية، فإن للإقصاء آثار خطيرة في بنية المجتمع وتماسكه من جهة، وعلى نفسية الفرد من جهة أخرى، ذلك أن إحساس الفرد بأنه منبوذ ومحروم من المشاركة في الأنشطة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، والمهنية، قد يؤدي به إلى القيام بردود أفعال تتمثل في كثرة الانتقاد أو الالتجاء إلى القضاء لاسترجاع حقه وكرامته.

وهكذا فإن الإقصاء من المشاركة في الأنشطة السياسية والاجتماعية والثقافية والمهنية يعد سببا مباشرا في شعور الفرد بأنه مهمش ومنبوذ، مما يرتب نتائج خطيرة على مستوى الأفراد أو الجماعات أو المؤسسات، بل قد تتجاوز مستوى ذلك ليؤثر في المجتمع بأكمله، فالشعور بالتهميش والإقصاء قد يدفع الفرد إلى الشعور بحالة من الإحباط الشديد الذي قد يتحول إلى عدوان وكراهية نحو الذات من جهة، وعدوان وأحقاد دفينة اتجاه من يعتقد أنهم السبب المباشر في تهميشه وإقصائه، مما يدفعه إلى تفريغ غضبه عليهم، وفي بعض الحالات قد لا يتجه إلى هذا أو ذاك، وإنما ينسحب من المشاركة كليا، ويقاطع جميع الأنشطة.

ومن هذا المنطلق فإن للإقصاء نتائج سلبية خطيرة على المقصيين منها:

أولا: عزوف المقصيين خصوصا الشباب منهم عن المشاركة في مختلف المجالات والأنشطة مما يؤدي إلى تأخر التنمية الذاتية والمجتمعية، لأن الإقصاء هو السبب الرئيس في غيابهم عن الأنشطة المهنية وغير المهنية سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو ثقافية…

ثانيا: تضاؤل الحس الوطني والانتمائي للوطن من جهة لدى المقصيين، والانتمائي والولائي للمؤسسة المنضوي تحتها من جهة أخرى، مما يجعلهم أكثر عرضة للاستقطاب من جهات أخرى، أو تبني أفكار مناهضة للمؤسسة نفسها.

ثالثا: الانجراف نحو ممارسات هدامة تؤثر سلبا على المستوى الشخصي، ونشوء قطيعة بين الأجيال، وفقدان التواصل المهني والفكري نتيجة غياب الإنصات والاستماع للمقصيين خاصة الشباب منهم، ومعرفة همومهم وتصوراتهم، مما يؤدي إلى خلق فجوات فكرية ونفسية تفضي إلى صراعات بين الأجيال.

رابعا: تراكم الأحقاد اتجاه بعض الهيئات المهنية والمؤسسات المنتخبة التي تتبنى الإقصاء نهجا لها في إبعاد الكفاءات، محتفظة بالأتباع، وممن يدنون لها بالولاء والمريدين في أجهزتها  للحفاظ على مصالح معينة، وضمانا لاستمراريتها في المناصب.

خامسا: إن إقصاء الشباب من المسؤوليات في المؤسسات المنتخبة سيضعف هذه المؤسسات نفسها، بسبب سياسية الإبعاد التي تنهجها ضد شبابها، أما احتواء الشباب وإدماجهم وتأطيرهم وإشراكهم وإسناد المهام لهم، فإنه سيزيدها قوة وتماسكا، لأن الإبعاد سلاح الضعفاء أما الاحتواء فنهج الأقوياء.

هذه بعض النتائج الخطيرة الناجمة عن إقصاء الكفاءات رجالا وشبابا، وتهميشهم، ولتفاديها ينبغي العمل على إشراكهم في تسيير الهيئات التنظيمية والمهنية والمؤسسات المنتخبة، وليس إقصاءهم وتهميشهم، وتشويه صورتهم، وإصدار الأحكام ضدهم، تسهم في اغتيالهم معنويا وسياسيا.

خلاصة القول فإن هذه دعوة موجهة إلى الجهات المسؤولة لحث بعض الهيئات المهنية والمؤسسات المنتخبة على إدماج المقصيين في عمليات التسيير والتدبير وعدم إقصاءهم، حفاظا على اعتدالهم الفكري والنفسي خصوصا في علاقتهم بالمؤسسات نفسها، كما ينبغي تفادي احتكار المناصب من قبل نفس الوجوه، التي قد تلجأ إلى وسائل وتقنيات تبدو قانونية وشرعية ظاهريا لكنها تهدف إلى تكريس المصالح الشخصية على حساب المصلحة العامة.

ـــــــــــــــــــــــــ

[1]  ابن فارس: معجم مقاييس اللغة،  دار الفكر، عام النشر: 1399هـ – 1979م، ج:5 ص:94.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
19°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M