انتفاضة الإنسانية… مقابل أباطيل سياسوية

05 يونيو 2025 10:28

هوية بريس – سعيد بلاوشو

“هل صح قول من الحاكي فنقبله … أم كل ذاك أباطيل وأسمار.”.  هو بيت شعري لشيخ المعرة (المعري) اقتبس منه العلامة محمود محمد شاكر  في الستينات عنوان مؤلفه (أباطيل و أسمار) شخص فيه تحت مجهر النقد منهج الاستشراق في التعاطي مع الأدب العربي و مع المعري خاصة، أتبعه المفكر بعد ذلك بكتابه القيم ” رسالة في الطريق إلى ثقافتنا” ضمنه باكورة استنتاجاته الفكرية حيث قام بتفكيك و تعرية و كشف ما يراد لهذه الأمة من تضليل متعمد و تحريف للمسار الحضاري و إذلال للإنسان و إسقاط للقيم كي لا تستيقظ من سبات و لتبقى الحضارة الغربية – المسيحية-  مكتسحة ومهيمنة على مقدرات الأمة العقدية والمادية ترفع في صراعها الصليبية وتستثمر آليات الاستشراق والتبشير والاستعمار (المباشر و الناعم). اليوم أثبتث الإبادة الصهيونية وتصريحات كثيرة (بوش الابن، ترامب، مجرمي الكيان…) كما أثبتت الأحداث الترليونية الأخيرة و قبلها مسار التطبيع الانبطاحي ما توصل إليه بالأمس عقل المفكر المنتمي بمنهجه الرصين و غيرته الصادقة.

اليوم أيضا، لو قدر للعلامة شاكر رحمه الله أن يكون بين ظهرانينا و رأى و تأمل الوقائع يقينا لكان  انزوى معتكفا في محراب الله من هول المصاب و الكارثة. و لو كان المفكر “رولان بارتيز”  بيننا أيضا اليوم لربما اختار هو كذلك قلب مفاهيمه العلمية رأسا على عقب ولاستصدر طواعية “المستوى تحت الصفر في السياسة” – بدل الصفر في الكتابة- و محتمل كان استحدث أيضا مفهوم “المستويات الصفرية في الانسانية” بالنظر إلى انتصار العبث و رداءة الفعل و الموقف و كساد الممارسة و الخطاب و إفلاسهما المتكرر.

فالسياسة اليوم صارت “دون المستوى” و تتجوهر في فراغها حول نفسها بالضبط كاللامعنى المجترح في مآسي التراجي-كوميديا أو الهلوسة المنفلتة من مضطربي أقبية “بويا عمر” أو الصادرة من خواء المستعلين الفارغين في غطرستهم و مرضهم و عجرفتهم. في تجوهرهم يعتقدون أنهم بمجرد امتلاكهم للسلطة هم ضمنيا يتملكون الأمر و الحق المطلقين من موقع المطلق ما يتيح لهم توسيع الفعل بلا مساءلة فوق من هم محشورون في موقع الهامش و تكريس الفوارق والممارسة الإدارية و السياسية بفوقية دون حسيب أو رقيب (تأملوا مثلا الإنجازات من قبيل هدم الأحياء و تهجير الآمنين و التي لا تحتاج الهروب إلى كلميم). لذا تجدهم في استعلائهم لا يقيمون وزنا لمسؤولية أو قانون  أو ضمير أو معايير و لا يولون أدنى اعتبار للانسان أو لبقية الانسانية في هذا الزمن. يتباهون أنهم جاؤوا  من مخرجات اللعبة و أن الاختيار الشعبي هو من أتى بهم ليصبغهم من داخل الدواليب بسنحة المشروعية المقدسة لديهم. لو كانوا يمتلكون بصيص من إدراك بالواقع و إرادة للتغيير و وعي بخطورة و حجم المسؤولية (من منطلق كلكم راع) لتواضعوا بعض الشيء و نزلوا من أبراجهم لأرض الواقع برؤى و خيارات أفقية و شعبية. من لازال يعتقد أن الانسداد هو مرتبط بالمشاركة فهو واهم أمام حقيقة ارتباط الأزمة عضويا ببنية و استراتيجية الدولة و ربطها عنوة بالاقطاع فيما يراد تغييب آليات الحكامة و الرقابة و ضرب الخيارات الشعبية بآفاق تفتقد التقعيد و الشرعية (اللبرلة، التطبيع، فرملة الحريات…).

إن استعصاء السياسة اليوم يكمن في إفلاسين على مستويين: إفلاس حزبوية التشكيلات السياسية بعدما تم  استقطاب غالبيتها و إفقادها لإستقلاليتها و توازناتها وتجريدها من كوادرها و إفشال محاولات إعادة  إصلاح المسارات و ثانيا إفلاس سلطوية الرجعية بتمييعها للممارسة السياسية عبر تكريس التحكم و تشجيع ثقافة الريع و الاسترزاق و الولاءات للأشخاص على حساب الكفاءة و الجدارة في ضرب صارخ و متعمد لرباعية الأهلية و الاستحقاق و المسؤولية و المحاسبة. وضع أفرز مشاهد متضاربة لخيارات لا شعبية و مسلكيات خاطئة ظلت و لا زالت تتخللها انتهازية للفاعلين بعيدة كل البعد  عن الشرعية و عن منطق و روح التدافع الصحي و النضال الحقيقي خصوصا و أن الشعب – رغم الافتراس و حملات الاستلاب- أثبت مرة أخرى جدارته و نضجه كما في اللحظات التاريخيةالحاسمة من قبيل عودة المغفور لهما من المنفى و استقلال البلاد و لحظات التآزر الشعبي (زلزال أكادير، المسيرة الخضراء، زلازل الحسيمة و الحوز، مسيرات التضامن مع غزة و فلسطين و العراق….) في أكبر استفتاءات شعبية لخيارات وطنية مصيرية كانت و لا زالت فاعلة في البناء.

حين ألف المفكر الشهيد الأسير الفلسطيني “وليد دقة” رحمه الله كتابه “صهر الوعي” سلط فيه الضوء على عامل الزمن الذي تحتله عملية إعادة تشكيل الوعي -وعي الأسرى- و التي تستهدف تطويع الوعي و تليين الإرادة لعدم مقاومة و رفض الأمر الواقع بل ذهبت – أي عملية الصهر-  بعيدا حد محاولة استنبات وعي “سادي” يدافع فيه الأسير/الضحية بلا وعي عن المحتل/الجلاد لينخرط معه في مخططاته و ممارساته مقابل منافع ضيقة و امتيازات خاصة. اعتمد المفكر الفلسطيني في فضحه لسياسات الكيان الصهيوني و في بنائه المنهجي على طروحات الفيلسوف الفرنسي “ميشال فوكو” في كتاب (الرقابة و العقاب) و المفكرة الكندية “نعومي كلاين” في (استراتيجية الصدمة).

في نظري المتواضع، إن ما يقابل “صهر الوعي” – من طرف الاحتلال و الأنساق الرجعية-  في إطار معركة الوعي المحتدمة، أعتقد هو مفهوم ” كي الوعي” بما يحمله من قوة للتأثير في النفسية و الإدراك و ما يعنيه من تركيز للصدمة أو الصعقة التي تخترق الوعي و تنقش الأثر عميقا في “لا وعي” المتلقي (نموذج كورونا مثلا). فالملاحظ بصفة عامة أن الرجعية السلطوية المرتهنة انخرطت في “كي و صهر” وعي شعوبها قصد إعادة برمجة الغائية ( الاستهلاكية) خارج دوائر الحرية و الكرامة و الاستقلالية بغية  تدجين المجتمع المدني و الطبقة الشعبية و إبقاء الجميع أسرى الارتهان لسيطرتها تائهين في دوائر الاستتباع وبواتق الاستلاب و البؤس و اليأس و التخلف و التضليل و التجهيل و الخوف المستمر من الآتي.

فآليات و منهجيات  “صهر الوعي”  في أفق كيه تعمل فينا ليل نهار قصد طمس بقايا الهوية و حرف الانتباه عن الحقائق و فرض و تكريس مشاهد منتقاة و متكررة بعناية إمعانا في الإنهاك المادي و المعنوي بغية إفراغنا من ما تبقى من الإنسانية فينا بينما هي ما يميزنا كبشر عن الحيوان و الحجر و ينتفض فينا بعد أن مات هذا الحس في روح القرارات و السياسات و انتفى في الخيارات الليبرالية و التطبيعية و الأمنية. فمستويات الحرية و الكرامة و الاستقلالية هي ما يفسر حركية الشعوب الغربية بينما بقايا الشعوب العربية لازالت في سلبيتها – بعد صهرها- مستسلمة للشاشات أمام الفظاعات و تمارس التنديد في الشبكات هذا إذا لم تكن منهمكة في متابعة الكرة.

إن التطبيع الرسمي و موقف التشكيك في كون المقاومة – بأنواعها و فصائلها- هي ليست حركات “تحرر وطني” يضع الأنظمة المطبعة في تناقض صارخ و ازدواجية مركبة حين تستدعي رموزها الوطنية في خطاباتها و مناسباتها الوطنية و تستحضر تاريخ نضالها التحرري و استقلالها من اتفاقية الحماية. من هنا يكون عدم تمزيق و إلغاء اتفاقية التطبيع و التلكؤا في التضامن الصريح و الصادق مع الشعب الفلسطيني المحتل و الانحياز المطلق لفلسطين في قضايا القدس و الأسرى و اللاجئين و عدم التنديد بالموقف أمام ما يحدث اليوم بغزة من إبادة و عدم التضامن مع المحاصرين و إرسال المساعدات كحد أدنى، يكون كل هذا تجسيدا فعليا  لأزمة عمودية عميقة في السياسة و في الوعي و التفكير و في الرؤى و المواقف و الأخلاق تسائل فينا طبيعة المسارات قبل المنطلقات الانسانية التي صارت صفرية بمعايير القيم أمام الهمجية المعلنة و الإباحة الفاضحة لسفك الدماء.

إن التطبيع الرسمي ما كان ليكون لولا وجود قابلية لذلك و هو أكبر انتهاك للقضية الترابية و لقضاياه الأخرى كسبتة و مليلية و لتحديات السيادة و الاستقلال. يكمن الانتهاك في الربط اللاأخلاقي بين أحقية و شرعية انتماء الصحراء لوطنها مع لا أحقية و لا شرعية احتلال كيان صهيوني لأرض إسلامية مقدسة تستقي قدسيتها و مكانتها من كتاب الله و معجزة إسراء نبي الله.

اليوم أمام ما يقع،  تنتفض الانسانية ضد دعم قوى الاستكبار العالمي للاحتلال الصهيوني و إعطاء الاحتلال و جنود الحفاظات الفرص للتبييض و التوشيح و المشاركة (مناورات، لقاءات، …) هي في رمزيتها أضواء سوداء بل دعوة  للاستمرار بالمجازر دون أدنى إدانة و اكتراث من أي متابعة.

تنتفض الإنسانية أمام مشاهد التجويع و القصف و التدمير و القتل البربري و الهمجي للانسان حين يمعن مرضى و مهلوسي و جبناء الكيان في تعمد استهداف الأسر و المدنيين و الأطفال الرضع و النساء في المناطق المأهولة ذات الكثافة.

تنتفض فينا الانسانية و تصرخ أمام صمت القبور و انفضاح منطق المعايير المزدوجة و محاولات قلب الحقائق في البيانات و اعتبار الإبادة و القدس قضايا جزئية بينما يراد تصريف المستوطنين المدنسين للأقصى المبارك مدنيين فيما المستوطنات هي في الأصل مستعمرات و ثكنات عسكرية.

تنتفض الانسانية حين يتم المساواة بين الضحية و المجرم و بين القتيل و جلاده و حين يتم إلصاق تهمة الإرهاب بمقاومة هي في حقيقتها حركات تحرر وطني و يتم التعاطي مع كيان الاحتلال المجرم كأنه صاحب حق في ما لا حق له.

تنتفض أخيرا – و ليس آخرا- حين يتم تغطية الحدث بسرديات التضليل و الكذب من طرف إعلام يعتمد ديكتاتورية الرواية الواحدة للتعتيم على المجازر البشعة.

إن الوعي السليم بالواقع – بعد تحليله بالملموس- بما يحمله من إكراهات و تناقضات كان دوما له وقعه الشديد أمام المشهد الرديء و كساده. فوقع الوعي المستفيق بعد سبات يعمل تأثيره كمفعول مضاد حيوي قوي ضد الصهر/ الكي و التدجين و خصوصا أمام حالة تعفن النسق. وقع له تأثير كذلك كالاستيقاظ الطارئ من كابوس تحت وطأة الادراك الآني. فمتى ندرك و متى نستفيق من سبات العبث و متى نعي العلاقة الشرطية بين الحرية و ضرورة انعتاق الوعي و بين تحرير فلسطين ؟ /// انتهى.

في غطرستهم تتعالى هلوساتهم عن الحقائق ومعها أنواتهم المريضة فتخرجهم من ادعاءاتهم الكاذبة وتكلفهم المزيف لينفضحوا عراة مكشوفين على حقيقتهم بؤساء وتعساء و متحكم فيهم كأجهزة الطبخ حين تصير خردة. على الأقل، الخردة تظل صامتة و تنقاد في هدوء بينما هم يعبثون و يهينون بعضهم البعض على الملأ – وعلى مرأى و مسمع من صوتوا-  ليمعنوا في إذلال أنفسهم و الجميع دون خجل و لا حياء.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
19°
24°
أحد
25°
الإثنين
22°
الثلاثاء

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M