انتهى “موازين”.. وبقي اختلال الموازين!!

هوية بريس – مريم الغازي

رحل الفنّانون، أُطفئت الأضواء، وسُحبت الكاميرات… لكن الجراح التي خلّفها المشهد لم تندمل، والفاتورة التي دفعتها الأمة لا تزال ثقيلة. لا بالأموال فقط، بل بالقيم، والوعي، والكرامة.

على أنغام لا تمتّ لهويتنا بصِلة، ضُخّت الملايين في سويعات من الغناء والمجون، في بلد تتآكل فيه أقسام المستعجلات، ويتقاسم فيه مرضى السرطان جرعة دواء، وتُغلق فيه المدارس في الجبال بسبب غياب المعلمين والماء والدفء.

يُحدّثوننا عن “ترشيد النفقات”، بينما ترقص السياسة على أنغام التبذير.

أيّ عقلٍ يدبّر شؤون وطن يقترض ليسدّ عجز الميزانية، ثم يبعثر أموال الشعب على منصّات لا تخلّف إلا الغفلة والمزيد من الانهيار؟

في زمنٍ تُشد فيه الأحزمة على بطون الفقراء، يُفرَش البساط الأحمر لمهرجانات لا تطعم جائعًا، ولا تكسو عاريًا، ولا تعلّم أمّيًا، بل تساهم في إغراق الأمة أكثر في مستنقع التيه والسطحية.

الغناء لم يكن يومًا سبيل إصلاح، بل لطالما كان بابًا للغفلة، وسببًا في قسوة القلوب، وصدّ الناس عن الذكر واليقظة.

أين ذهبت تلك الآيات التي تذم لهو الحديث؟ كيف صرنا نجمّل الباطل ونروّج له باسم “الفرح” و”الثقافة”؟

ما يُعرض على أنه “انفتاح” ليس إلا انحدارًا ناعمًا، يُسوَّق لنا بوجه مبتسم وأصوات مرتفعة، بينما الواقع يُبكي ويُدمي القلب.
يُكرَّم فيه من يغنّي ساعة، ويُنسى من يدرّس في الخلاء، أو يُنقذ الأرواح في قرى لا تصلها حتى الطريق.

والمؤلم أن بعض من يشتكون صباحًا من الفساد والبطالة والغلاء، يركضون مساءً إلى حفلات “موازين”، ويهتفون بأعلى صوتهم لمن جاء وغنّى ورحل… تاركًا الوطن يغرق أكثر.

هكذا تُعاد صناعة الوهم.

جمهورٌ يرفع الأرقام، ويغذّي الخطاب الرسمي الذي يقول إن “الجماهير راضية”، ثم يعود ليشتكي من أوضاعٍ ساهم بنفسه في شرعنتها.

الغناء لا ينهض بالأوطان.

المهرجانات لا تبني مجتمعًا ولا تربي أجيالًا.

والترف في زمن الحاجة ليس ترفًا بريئًا، بل سقوطًا أخلاقيًا.

كفى عبثًا.

كفى خداعًا.

كفى من ذبح الحياء باسم الفن، وكفى من صرف الملايين في لهوٍ لا يثمر إلا التيه.

فلنُعد ترتيب الموازين… وليكن أولها: الصدق مع الله، والغيرة على هذا الوطن الجريح.

“أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ”.