برشيد: حين يصبح المشي تأملًا في تاريخ المدينة

هوية بريس – الخامس غفير
شعرتُ بالإعياء والتعب الذي أصاب الجسد، فتذكرتُ نصيحة صديقٍ لي من أيام الدراسة، إذ كان يردد عليّ إحدى مقولاته الجميلة: “كلما شعرتَ بالإعياء، عليك بالمشي، فهو دواء لكل إعياء.” فقلتُ في نفسي: لا بد من ترجمة هذه النصيحة على أرض الواقع، فقادَتني قدماي نحو بعض شوارع مدينة برشيد وأزقتها.
كلما مررتُ بحيّ أو زقاق، إلا وأثارت انتباهي بعض المشاهد التي أفسدت عليّ متعة المشي؛ فقد صادفتُ بعض الحُفر هنا وهناك، ورأيتُ في طريقي حاويات نفايات موضوعة في غير أماكنها.
قلتُ في نفسي: لا تكترث للأمر، فهذا واقع والجميع سكت عنه، فلماذا التركيز على أمورٍ أصبحت تحصيل حاصل في زمنٍ أُسنِدت فيه المسؤوليات لمن يُجيدون التقاط الصور، ويدبّرون الشأن المحلي من وراء المواقع الافتراضية وشاشات الهاتف؟
حاولتُ أن أُعرض عمّا لم يُعجبني في البنية التحتية للمدينة، ووجّهتُ تفكيري نحو التأمل في تاريخها العريق. دخلتُ في مقارناتٍ بين الماضي والحاضر، واستحضرتُ مجموعةً من الدول، وعلى سبيل المثال الجارة الإسبانية، التي تُقدّر مداخيلها السنوية بملايين الدولارات، ويكفي ذكر قصر الحمراء في غرناطة، والمعالم الرومانية في قرطبة.
ثم سافرتُ بخيالي نحو مجموعة من الدول الأخرى، مثل تركيا بمآثرها وتراثها التاريخي، وحجم المداخيل التي تجنيها من السياحة… ثم انتقلتُ بذاكرتي إلى مصر، حيث وقفتُ طويلًا أمام بعض معالمها التاريخية، رغم الملاحظات حول بعض أحيائها وما يجري فيها من قمع واستبداد.
سألتُ نفسي بصوتٍ مرتفع: ما علاقة كل هذا بموضوع المشي والمدينة؟ بابتسامةٍ باهتة، أجبتُ نفسي: ألم تتذكر معالم المدينة التي تم الإجهاز عليها من طرف المجالس البلدية المتعاقبة على تدبير شؤون المدينة؟
حين يُطمس حلم الشباب
أعتقد أن أبناء مدينة برشيد يشعرون بغُصّةٍ بسبب الملعب البلدي الكبير، وهو الذي كان يُعرف عند شباب المدينة بـ”الشبيبة”، ذلك الفضاء الذي كان يضم ملعب كرة القدم بمواصفات رائعة، وكان يحتضن أنشطة رياضية أخرى مثل كرة الطائرة، كرة السلة، الكرة الحديدية، والعدو الريفي.
في الحقيقة، كانت “الشبيبة” فضاءً يحتضن الطاقات الرياضية والجمعوية، وكان بها مسبح بلدي، حيث يؤدي أبناء المدينة ثمنًا رمزيًا لدخوله، إلى جانب دار الشباب وقاعة السينما.
نعم، هناك ألمٌ وغصّة بسبب هدم هذه المعلمة التي أرّخت لمرحلة تاريخية من زمن الاستعمار الفرنسي للمدينة، ولرموز رياضية وجمعوية ومسرحية وعلمية تأطرت داخل هذا الفضاء الجميل والتاريخي.
وأنا أواصل المشي نحو وسط المدينة، لا أعرف كيف وجدتُ نفسي أمام نقدٍ جديد وحسرة أخرى على ما أصاب المدينة جراء عبث المسؤولين الذين تعاقبوا على تدبيرها.
وقفتُ أمام قيسارية مدينة برشيد، التي كانت ملتقى أبناء الإقليم، وتذكّرتُ معمارها الدائري والتقليدي الذي كان يُميزها؛ فقد كان المتبضّع يقصد هذا المكان للأكل، وترقيع الملابس، وشراء الخضر واللحوم، بل الأجمل من ذلك أن المقاهي المجاورة كانت ملتقى لتداول أخبار المدينة، والسؤال عن الغائب، والحديث عن إنجازات فريق “يوسفية برشيد”.
للأسف، تم هدم هذه المعلمة التي كانت تحمل تاريخ المدينة وتشهد على عراقتها، واستُبدلت بـسوق المسيرة، ولكن غاب طعم الأصل وذهبت متعة التاريخ والجغرافيا، وتم دفن هندسة قديمة بُنيت بسواعد الأجداد.
وفقدت المدينة ملامحها القديمة….
هرولتُ مشيًا، وتذكّرتُ أنني خرجت لأتجاوز لحظة التعب والإعياء وأستمتع بهواء المدينة ليلًا، الذي يزداد صفاءً ونقاءً مع قلة المارة وانخفاض عدد السيارات، لكنني وجدتُ نفسي أمام مقهى مرجانة.
لا أخفيكم سرًا، شعرتُ بصعوبة في التنفّس عندما استحضرتُ أن هذه المقهى كانت تحتضن مناسبات ثقافية وفكرية في التسعينيات من القرن الماضي، وأتذكر زيارتها من قبل العديد من الكتاب والصحافيين، وعلى رأسهم الصحافية القديرة “فاطمة الإفريقي” وبرنامجها الثقافي الرائع على القناة الأولى.
كان هذا الفضاء شاهدًا على معمارٍ جميلٍ ورائع، وكانت هندسته مبنية على الطريقة الفرنسية، وكانت الأشجار السامقة تزينه، حيث كنا كأطفال نضرب الأشجار بأرجلنا الصغيرة، وننتظر سقوط “اللوز”، ثم نقوم باقتسامه ونحن فرحين بصنيعنا.
لكن مع الأسف؛تم تغيير معالم هذا الفضاء الساحر، وتم قطع الأشجار الضاربة في القدم، فتحوّل المكان إلى ساحة خالية من الجمال الطبيعي والمعمار التاريخي الذي كنا نفتخر به ونحمله في ذاكرة طفولتنا.
يالله… !
مقاهي المدينة …أطلال الذكريات
شعرتُ بالاختناق، وكدتُ أن أستعبر مما رأيت، فقررتُ مغادرة الأماكن التي تعرضت لظلم المسؤولين، وتوجهتُ نحو الشارع الرئيسي للمدينة، فمررتُ على مقهى “الوردة”، حيث استحضرتُ وجوهًا كانت مدمنةً على احتساء قهوة المساء هنا.
تذكّرتُ عندما استدعاني أستاذي العزيز “إدريس تاليث”، أطال الله عمره، ورتّب لي لقاءً مع أحد السوسيولوجيين المغاربة لاستشارته في موضوع كنتُ أبحث فيه من زاوية سوسيولوجية.
استمر اللقاء طويلًا، وتجوّلنا عبر الذاكرة في تحليل الظواهر الاجتماعية، وأثنى الباحث السوسيولوجي على النقاش، وأعجب بأسئلتي العميقة، وشجعني على البحث والقراءة.
لا شك أن هذه اللحظة الجميلة، التي استقبلتها بابتسامة من أعماق القلب، جعلتني أنسى كل ما سبق. تركتُ تلك المقهى خلفي، لأجد نفسي أمام مقهى أخرى أصبحت مجرد خربة بعد أن كانت جزءًا من تاريخ المدينة.
ما كان يُميزها أنها مشيّدة بالزجاج وتعمل على مدار 24 ساعة دون توقف، وقد اختار لها صاحبها اسمًا غربيًا، هو “Luxembourg”.
لعبت هذه المقهى دورًا مهمًا في توفير أجواء رائعة للطلبة وتلاميذ المرحلة الثانوية؛ فقد كنا نقصدها ليلًا خلال سنوات الدراسة الثانوية، لنقضي فيها أطول وقت ممكن من أجل المراجعة، الحفظ، والاستعداد للامتحانات الإشهادية.
وكانت تلك الجلسات تتخللها تبادل الطرائف وتقليد طريقة شرح الأساتذة وبعض الحركات التي يقومون بها أثناء القلق أو التوتر، كما كان لحضور النُكت وقعٌ قوي بين الفينة والأخرى، إذ كنا نمتحن بعضنا البعض، ونختبر معلوماتنا خلال فترات الراحة هناك.
لم أتوقف طويلًا عند “Luxembourg”، بل غادرتها، لكنها لم تغادر خيالي وذاكرتي؛ فقد مرت أمام عيني أسماء ووجوه عديدة كانت حريصة على زيارتها…
واصلتُ الطريق مشيًا كما نصحني صديقي، وفجأة شدّ انتباهي منظر مقهى “Parc”، وشكلها الجديد مع بعض التغييرات الطفيفة التي طرأت عليها. نعم، كانت تُعرف بهذا الاسم في التسعينيات، لكنها اليوم باتت تحمل اسم “مقهى العصافير”، ولا تزال تحتفظ بأصداء الطلبة والتلاميذ الذين يحجون إليها للمذاكرة والاستعداد للامتحانات الإشهادية الوطنية والجامعية، إذ يزداد الإقبال عليها مع اقتراب موعد الاختبارات.
وعندما تنتهي فترة الامتحانات، تخلو من مرتاديها لتدخل في حالة من الراحة المؤقتة، لكنها تبقى أبوابها مفتوحة، في انتظار أخبار الناجحين وحصولهم على شهادات البكالوريا وباقي الدرجات العليا.
كانت “Parc” ملتقىً للجدل الفكري والتنافس العلمي، بل كانت بمثابة عكاظ المدينة، حيث اجتمع الشباب وتبادلوا الأفكار بحرية تامة، فلم يتذمر القائمون عليها يومًا من نقاشاتنا الساخنة وصراخنا عندما كنا نختلف حول فكرة أو قضية ضمن المقررات الدراسية.
تركتُ المكان وأنا أتمتم،بل و أغني بصوتٍ خافت، حتى خُيّل إليّ أنني أؤدي معزوفةً قديمة تعيدني إلى زمن الثمانينات، لكن الكلمات كانت لشاعر الزهد أبو العتاهية (130هـ-211هـ / 747م-826م):
“فَيا لَيتَ الشَّبابَ يَعودُ يَوماً… فَأُخبِرُهُ بِما صَنَعَ المَشيبُ.”
شجعتُ نفسي على مواصلة الغناء، مع تنويع المقامات وتغيير طبقات الصوت، فإذا بي أستحضر طرائف جمعتني ببعض الأصدقاء الأوفياء و الأودّاء، الذين كانوا يطلقون ضحكاتهم العالية كلما طلبتُ منهم سماع صوتي وإنشادي، حتى تظهر نواجذهم وهم يشيرون بأيديهم مستنجدين، طالبين مني التوقف حتى لا أزعج الآخرين بصوتي الذي لا يمتّ للفن بصلة.
حين يختفي التاريخ تحت الإسمنت
في الحقيقة، لم تكن هذه الأمكنة وجهتي الأساسية، لكنني وجدت نفسي أمرّ عليها حتى بلغت أحياءً إسمنتية حديثة التشييد والإعمار، وهي علامة أخرى على جريمة بحق مدينة برشيد، لا سيما عندما يتعلق الأمر بـغابة ” Lucien ” التي تم اجتثاث أشجارها وهدم معالمها التاريخية، رغم أنها كانت شاهدًا على مرور المستعمر الفرنسي من هذه البلدة.
كانت غابة “لوسيان” وجهةً مفضلة لكل المهتمين بالرياضة والفنون الحربية، وخاصةً بعدما أُغلقت “الشبيبة” في وجوههم، ذلك الفضاء الذي أشرنا إلى بعض مميزاته وتأثيره في احتضان الشباب.
لم تكن “لوسيان” مخصصة للرياضيين فحسب، بل كانت أيضًا ملاذًا للطلبة والباحثين في المدينة، الذين قضوا فيها ساعات طويلة في التحصيل العلمي والمعرفي، بحثًا عن بيئة مناسبة، بعيدًا عن ضيق الفضاءات التقليدية المُخصصة للمراجعة والاستعداد الأفضل للامتحانات.
لكن، كما يبدو، اختفى هذا الفضاء الفريد كما اختفت قبله معالم كثيرة من المدينة تحت الإسمنت، دون أن يُنظر إلى قيمتها التاريخية والثقافية.
بين تعب الجسد وهمّ المدينة
بعد هذه الجولة، قررتُ العودة إلى بيتي. وبينما كنتُ في طريقي، اصطدمتُ بجريمة أخرى اقترفها المسؤولون الذين تعاقبوا على إدارة المدينة؛ إذ لاحظتُ حفرًا منتشرة على أرصفة الشوارع الرئيسية، رغم أنها كانت في حالة جيدة، الأمر الذي لا يعني سوى هدرٍ واضحٍ للمال العام.
دفعني المشهد إلى التقاط صورٍ بعدستي لما يُسمّى “الزليج الجديد”، الذي يعتزم المجلس البلدي تزيين الشارع الرئيسي للمدينة به. تساءلتُ في نفسي: ما الفرق بين هذا الزليج والزليج السابق؟ ولماذا هذا التبليط الجديد؟ هل يُعقل أن يُصرف المال لبناء ما يُهدم لاحقًا، ثم يُعاد بناؤه بأموالٍ أخرى، وهكذا دواليك؟
أين هو التفكير الجادّ في تشييد مؤسسات تعليمية جديدة تخفف الاكتظاظ داخل مدارس المدينة؟ أين هي الغيرة على أبناء المدينة وبناتها وأجيالها القادمة؟ لماذا لم يُؤخذ بعين الاعتبار إعادة إحياء فضاء “الشبيبة”، ليُناسب العصر الحديث، ويحاكي على الأقل “شبيبة الزمن الجميل”؟
رجعتُ إلى منزلي منهكًا أكثر مما كنتُ عليه عند خروجي، فقد أردتُ أن أطبق نصيحة صديقي وأتخلص من التعب البدني بالمشي، لكنني عدتُ مثقلًا بتعب نفسي أقوى، جراء تفاعلي العاطفي مع تاريخ المدينة وأمكنتها العزيزة على القلب.
ترى، هل أُعيد تجربة المشي مرةً أخرى؟ أم أرفع شعار: “اللهم تعب البدن والجسم، ولا تعب النفس”؟ أم أتحمّلهما معًا، وأواصل ممارسة سُنّة المشي، حتى وإن كان يحمل في طيّاته شريطًا من الحسرات؟