بين استغلال الدين واستغلال العلمانية سياسيا أية فوارق!!
هوية بريس – د. محمد وراضي
لماذا نأبى إلا تضليل الرأي العام، بمن فيه المثقفون وأشباه المثقفين؟ لماذا ننساق وراء مفاهيم ملفوفة في أردية من الغموض، حتى وهي واضحة وضوح الشمس، إلى حد أن انسياقنا وراءها -وكأننا قتلناها بحثا- يسلمنا إلى اتخاذ مواقف غاية في الخداع والتدليس؟
يتبجح المتبجحون من خلال ما يكتبون، ومن خلال ما يصرحون به -وكلهم زهو وثقة في النفوس تجاوزت كل حدود المنقول والمعقول- بأن الإسلاميين يستغلون الدين؟ والعلمانيون؟ ألا يستغلون العلمانية في أبشع الصور؟ فإن كان من حقهم استغلالها كحكام وكأحزاب من المحيط إلى الخليج، فما المانع من استغلال الإسلاميين للدين؟ والحكام أنفسهم كعلمانيين متنطعين، ألا يستغلونه في أبشع الصور التي دفعوا دفعا إلى القبول بها؟ مع تواطؤ العلماء الذين زينوا ويزينون لهم ما هم عليه من فهم خاطئ للإسلام على وجه التحديد؟
والاستغلال في حد ذاته، حرام هو أم حلال؟ وبعبارة ثانية، مطلوب هو أم غير مطلوب؟
إن مفتاح الإجابة على التساؤل الذي هو عنوان المقالة، لا نجده خارج تحليل الاستغلال من حيث الدلالة اللغوية والاصطلاحية، عندها يتضح للقراء كيف أن العلمانيين يهرفون بما لم يعرفوه؟ وهاكم الدليل:
فـ”استغل” كفعل معناه: استثمر شيئا قصد الاكتساب والاستفادة، وجني الأرباح، وأخذ الغلة (بفتح الغين). ويقال: استغل مزرعة، أو استخدم شيئا كوسيلة لمأرب من مآربه، أو على نحو يفيده، أو جعله يحقق أفضل النتائج المقصودة، أو عرف كيف يجني منه نفعا في الوقت المناسب. ويقال: استغل موقفا أو ظرفا أو مناسبة، كما يقال: استغل حادثا دبلوماسيا لزيادة الوضع خطورة.
واستغل طيبوبة شخص أو عجزه أو جهله، ليهضم حقا من حقوقه، أو ليجني ربحا فاحشا وغير عادل على حساب سذاجته؟ ومنه استغلال الحكام لمواقعهم السلطوية! ومن هنا جرى الحديث عن الاستغلاليين الذين يكسبون أرباحا غير مشروعة: مادية كانت أو معنوية. فصح أن الاستغلال -منظورا إليه من زاويتي الدين والعلمانية- نوعان: نوع مسموح به ونوع غير مسموح به.
وأمامنا ها هنا سؤالان أساسيان منطقيان: هل من حق العلمانيين استغلال العلمانية خدمة للصالح العام، إن نحن اعتبرنا الاستغلال استفادة وإفادة، تماما كما يستغل الفلاح أرضه لجني الغلال التي تمتد فائدتها إلى المواطنين أينما وجدوا. خاصة وأن مبدأ الواقع يقضي بالعمل على سد حاجيات الأفراد والجماعات. وأن هذه الحاجيات، إما أن تكون مادية، وإما أن تكون معنوية. ولسد هذه الحاجيات بنوعيها، لا بد من وسائل، أو لا بد من أدوات مشروعة من منظور كل من الدين والعقل.
هذا عن السؤال الأول الذي لم تمنع الإجابة عنه العلمانيين من استغلال علمانيتهم خدمة للصالح العام إن هم رغبوا في الحصول على مصداقية تضفيها عليهم الجماهير الشعبية.
وماذا عن الإسلاميين؟ هل لهم نفس حق العلمانيين في استغلال الدين بالمفهوم المقبول لا بالمفهوم القدحي المرفوض للاستغلال في مختلف المجالات الحياتية، بعيدا عن الإسراف والتطرف والمغالاة؟ وهي نفس الاحتياطات التي على الطرف الآخر العلماني أن يتخذها وهو ماض في استغلال العلمانية التي وقع عليها اختياره؟
إن صح أن للمواطنين حقهم في الحرية والمساواة والعدل والديمقراطية -كما يدعي العلمانيون من حكام ومن أحزاب- فإن الواقع الماثل لا يقدم غير عكس ما يدعيه المدعون؟ فأن ينظر الطرف العلماني إلى الطرف الإسلامي كخصم ينافسه على كسب ود الجماهير، والإمساك بزمام السلطة، يعد من ضمن المسلمات القاضية بالصراع المشروع بين الأفكار، والتي سادت المجتمعات البشرية منذ أقدم العصور.
فالإسلام عرف فرقا وشيعا وأحزابا وطوائف ومذاهب. وهذا مقتضى الحال الذي لا يمكن رفعه. يعني أن من حق العلمانيين اعتبار الإسلاميين خصومهم الأيديولوجيين، وللإسلاميين نفس الحق من منطور تفعيل مبدأ “الولاء والبراء”. ولكن هذا لا يعني – لدى الواعين من الفرقاء- تدخل نفوذ السلطة الحاكمة لإجبار طرف من الأطراف على تبني قناعات الطرف الآخر! وإنما يعني تبادل الفوائد والمصالح والبعد عن الترهيب والتخويف والسخرية والاستهزاء؟
إن للعلمانيين قناعاتهم (لكم دينكم ولي دين)، وللإسلاميين قناعاتهم (لا أعبد ما تعبدون)، أما أن تتكرر المآسي التي وقف وراءها الطاغية المأمون بن هارون الرشيد المعتزلي الهوية فلا وألف ألف لا؟ فقد أصدر عام 218 هجرية، مرسوما يقضي بحمل الناس قهرا على القول بخلق القرآن! هذا الزعم الذي من خلاله يكون القبول بنوع من التوحيد، المنافي للتوحيد الذي عليه أهل السنة والجماعة؟ يعني أن المعتزلة في هذه الحالة الموصوفة – كعقلانيي زمانهم! وجدوا في الحاكم العباسي المستبد، من يفرض أفكارهم على الأمة بكاملها، بدءا بالفقهاء، فالعلماء، فالمحدثين، فحملة كتاب الله المبين، فالمؤذنين! فكان أن عذب من عذب! واختفى من اختفى! وخضع للقولة من خضعوا لها تحت ضغط الإرهاب والتخويف! ثم اتضح لاحقا، وبحجج دامغة بأن المعتزلة والحاكم الذي أيدهم وتبنى أفكارهم، كانوا على خطأ جسيم كما سنوضح ما ندعيه هنا في مقالة مستقلة!
إذ لو كان الإسلام بكل مبادئه، وبكل تعاليمه وتوجيهاته وأحكامه هو المعمول به، لكانت الحرية التي نادى بها حائلا بين الحكام وأعوانهم من “الأقلية الخادعة”، وبين فرض الآراء بالقوة! مع الإشارة الفورية إلى أن معتزلة عصرنا أوغل في الإساءة إلى الدين من معتزلة عهد الحكام العباسيين. فهؤلاء لم يعتبروا الأحكام الشرعية ظلاما تجاوزه لا بد منه لتحقيق التقدم والنمو! وإنما هم ملتزمون بالشرع، وبالدفاع عن الدين. ونتذكر هنا العلامة المعتزلي جار الله الزمخشري صاحب التفسير المتميز ببلاغته الفائقة.
ومن ادعى أن الدين لا ينبغي أن يستغل في شتى ميادين الحياة، وفي مقدمتها الميدان السياسي، يعتبر جاهلا بتاريخ الإسلام وبواقع الأمة الإسلامية، منذ البعثة النبوية إلى عصرنا، هذا الذي علا فيه صوت المعتزلة الجدد، المحميين من طرف الأنظمة العربية الحاكمة؟ مع التأكيد بأن الإسلاميين لم يتسلموا زمام الأمور من يد الاستعمار! وإنما تسلمه العلمانيون الذين وعدوا الاستعمار بعدم التخلي عن النظام العلماني للعودة إلى النظام الإسلامي؟ فكان أن أبلوا بلاء سيئا في مناهضة الإسلام، كمنظومة كاملة من القناعات التي على أساسها بنيت حضارة زاهية، بحيث إنه لا يمكن إلا للجاهلين والمتجاهلين إنكارها؟
إن العلمانيين إذن هم الذين فرضوا النظام الاستعماري وفلسفته في الحكم على الشعوب الإسلامية؟ والحال أنه كان من المفروض أن يلتجئ الزعماء السياسيون من ملوك ورؤساء وأمراء وقادة الأحزاب السياسية، إلى تنظيم استفتاءات شعبية في بلدانهم، للاختيار بين النظام العلماني، وبين العودة إلى النظام الإسلامي؟ لكن أنانيتهم واعتزازهم بما لديهم من معلومات بخصوص أنظمة الحكم المعاصرة، رسخت في نفوسهم النزعة الدونية، فمارسوها لفرض الوصية على الأمة، وكأنها لم تدرك بعد سن البلوغ أو سن الرشد!!!
وبما أن العلمانيين هم خلفاء الاستعمار في تسيير شؤون بلدانهم بعد رحيله، فإنهم أخلصوا له في العداء للدين وللحرية وللكرامة!!! مقابل الاستبداد الذي أتقن الاستعمار اعتماده لغاية ما فرضت عليه الشعوب -لا الزعماء السياسيون- الرحيل؟ لكن هذه الشعوب، وجدت أمامها من يخضعها لما يريد، لا من يحترمها ويقف عند حدود اختياراتها كما تريد؟؟؟
وما الإقدام على منع تأسيس أحزاب إسلامية، إلا امتداد للعداء الذي كان الاستعمار يكنه للإسلام الذي يعلم تمام العلم، بأنه لو طبق على حقيقته لأصبحت مصالحه مهددة بالزوال؟ وفي هذا الإطار نفسه يدخل منع السيد حماد القباج من الترشح للانتخابات البرلمانية!!! وفيه يدخل تجمع البيضاء الأخير الذي حمل شعار: ضد “الأخونة” و”الأسلمة”. أخونة الدولة وأسلمتها، مما يقتضي منا-في مقالة خاصة- إبطال هذا الزعم الذي هو أكثر من سخيف ساقط و مبتذل!!!
ouradimohamed.wordpress.com