تغيير مدونة الأسرة: الموقف من الاستدراك على المواد الشرعية بين الأمس والحاضر

18 يناير 2025 19:48

هوية بريس – فهد مولاطو

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على رسوله الصادق الأمين، أما بعد، ففي ظل السجال القائم حول مدونة الأسرة إثر الإعلان عن بعض محتوياتها، هذه ورقة في الموضوع اقتضتها أمانة التبليغ رجاء إبراء الذمة أمام المولى عز وجل.

أصل المشكل قديم وكذا أطرافه

جاء في كتاب المكي الناصري عليه رحمة الله الذي يتناول بتفصيل حيثيات فرض الظهير البربري على المغاربة ‘فرنسا وسياستها البربرية في المغرب الأقصى’:

‘والحقيقة التاريخية الكبرى التي اكتشفتها من خلال المصادر والمراجع الفرنسية، وأنا أعد هذا الكتاب، هي الشهادة التي سجلها كتاب السياسة البربرية، المطلعون على خفاياها، معلنين بأنفسهم، ومؤكدين لقرائهم، أن العرش العلوي الشريف ظل خصما عنيدا للسياسة البربرية منذ محاولتها الأولى، يعلن براءته من قبولها والاعتراف بها، وأجمعوا على أن جلالة السلطان مولاي يوسف رحمة الله عليه، كان يرفضها رفضا باتا كلما عرضت عليه، ولو اختلفت صيغ العرض التي تعددت في مختلف المناسبات. فقد كان رحمه الله، حريصا على عدم المساس بالشريعة، متمسكا بوحدة الشعب المغربي الدينية والقومية. ولما لم تصل فرنسا إلى غرضها على يده وبموافقته، دعته لزيارة باريس، وطلبت الاقامة العامة منه تعيين الوفد الرسمي الذي يرافقه، فاقترح جلالته اسم مستشاره في الشؤون الدينية والشرعية، فضيلة العلامة الجليل رئيس مجلس الاستئناف الشرعي الأعلى، المرحوم سيدي الهاشمي بن خضراء، لكن الإقامة العامة سرعان ما بادرت إلى العمل على استبعاده من الوفد وإبقائه بدار المخزن، بدعوى الحاجة إلى تعزيزه لوزير العدل إذ ذاك، سيدي عبد الرحمن بن القرشي، الذي يقوم مقام الصدر بالنيابة عنه في تسيير شؤون المخزن، وعللت الاقامة العامة هذا الاختيار بأن وزير العدل المشار إليه، رجل مسن، لا يستطيع القيام وحده بتلك الشؤون، وأن السيد الهاشمي بن خضراء هو خير من يساعده خلال غيبة الصدر (المقري) برفقة جلالة السلطان.

ولما حيل بينه وبين مرافقة جلالته، استدعاه السلطان مولاي يوسف إلى مكتبه، وأخبره بموقف الاقامة العامة، وقال له جلالته إن الاقامة العامة أرادت بإبعادك عني ألا تكون بجانبي أثناء قيامي بهذه الرحلة. لقد علمنا مقصودهم من عدم سفرك معنا، وهو خوفهم من استشارتك عندما يقدمون لي مطالب أخرى تخل بمصالح المغرب، مثلما فعلوه معي من قبل مرارا وتكرارا. فكنت تعزز موقفي من معارضة تلك المطالب ورفضها، بحكم الشرع المطاع، أمام ممثل الإقامة العامة وبمحضره، فيذهب خائبا، ثم أفضى إلى مستشاره الموثوق به عنده سيدي الهاشمي بن خضراء، مؤكدا عزمه الراسخ، وموقفه الثابت قائلا عند وداعه إنني لن أساعدهم في أي شيء يطلبونه مني، مما هو خارج عن مصالح الأمة المغربية التي أنا أول مؤتمن على مقدساتها وشريعتها.

وقضى جلالة السلطان مولاي يوسف بضعة أسابيع في باريس، لكن ما كاد يعود منها إلى المغرب حتى ظهرت عليه علامات مرض غريب، وأخذ يقيء الدم دون انقطاع، وهو بين يدي أطباء الاقامة العامة، إلى أن حل أجله وانتقل إلى رحمة الله، مأسوفا عليه من شعبه؛ وسرعان ما أعلنت الإقامة العامة وفاته إلى الشعب المغربي وبقية الأقطار. وبمجرد وفاته رحمه الله، كان أول قرار اتخذته السلطة الفرنسية، هو المبادرة بإيعاد المخلصين من حاشيته، ووضع بعضهم تحت الإقامة الإجبارية، ومصادرة أملاك البعض الآخر، وكان في الطليعة، عزل العلامة الهاشمي بن خضراء عن منصب رئاسته بمجلس الاستئناف الشرعي الأعلى، وهكذا تخلصت الإقامة العامة من سلطان المغرب المناهض للسياسة البربرية.’

انتهى.

نشير أن السياسة البربرية المشار إليها في المقتطف كانت ترمي إلى إخراج البربر المغاربة عن الخضوع للمحاكم الشرعية واستبدال محاكم عرفية بها، كما نشير أن في الرحلة المشار إليها إلى فرنسا أعلاه، وكانت سنة 1926م، رافق السلطان بعض مستشاريه الذين فرضتهم فرنسا في حاشيته من عملائها الذين يخدمون مصالحها دون مراعاة لدينهم ولا لمصالح قومهم.

نستخلص من المقتطف أعلاه ما يلي:

–  أن من أهم أهداف فرنسا كان إبعاد المغاربة عن دينهم بإخراج فئة منهم عن التحاكم إلى شريعته، وقد مر أنهم لم يبرحوا يحاولون استمالة السلطان بشتى الطرق للاستجابة لمطالبهم

-أن الدافع للسلطان رحمه الله لرفض تلك المطالب هو استشعاره بالمسؤولية أمام الله وأنه أول مؤتمن أمامه عن شريعة المغاربة ومقدساتها

-أن من أعظم العون للسلطان على الثبات أمام تلكم الضغوط والمطالب هم أهل العلم والبطانة الصالحة التي تحوطه فتناصحه وتآزره على الحق وتعينه عليه

-أنه كان للاستعمار دخلاء عملاء ينوبون عنه في الدفع بمهمته التخريبية التغريبية التي ينهجها، وأنهم من أهم وسائله (وهو ما أشرنا إليه من بعض الحاشية)

-أن التحاكم إلى الشريعة من مقدسات المغاربة التي لا يجوز التفريط فيها

-أن تغييب أصوات العلماء والمصلحين والتضييق عليهم من أبرز أساليب التغريب الثقافي والمسخ الديني

-أن عقيدة السلطان رحمه الله وصالح بطانته أن مصلحة المغاربة في الحفاظ على تحكيم شريعتهم، إذ هي في اعتقادهم من عند العليم الخبير، وهو لعمري اعتقاد كل مسلم غيور

وعي السلطان بكيد الخصم وصموده وثباته في موقفه ولو أدى به الأمر إلى المخاطرة بحياته رحمه الله

إذن فمطلب إخراج المغاربة عن التحاكم إلى شريعة ربهم هو أمر قديم ليس بجديد، والمشهد يكاد لا يختلف، فمنه الضغط من الخارج بشتى السبل، ومنه الكيد من الداخل من وكلاء الغرب المتنكرين لدينهم وشريعتهم، وبقي ما لم يُسَق في الاقتباس وهو أن الأمر لا يخلو من بث شبه واهية لدعم المشروع التغريبي قد تجد لها استجابة عند قليلي التحقيق والتحصيل من بني جلدتنا، كما فعلت فرنسا فيما روجت له من دراسات زاعمة أن للبربر أعرافها الخاصة المخالفة للشريعة أو أن منهم فئات وقبائل لم يدخلوا الإسلام قط، أو أن السلطان الحسن الأول رحمه الله فعل من قبل مثل ما راموا فعله، وهوما لم يكن، بل ما أذن رحمه الله لبعض القبائل إلا فيما لا يناقض الشرع الحنيف من التدابير.

الموقف من التغييرات المقترحة في المدونة

إن في مشروع المدونة المقترح أمورا لا تجد لها ركيزة من نصوص الشريعة ولا من فهوم العلماء لها، والموقف منها لا ينبغي أن يخلو من هذه المقامات والوقفات والمشاهد:

-الوعي أن التحاكم إلى الشريعة ليست مسألة اختيارية يمكن الاختلاف فيها بين المسلمين، كما يوصف المسلم الإسلامي بالذي يسعى لتحكيم الشريعة دون غيره من المسلمين (غير الإسلاميين)، بل الأمر يعني كل مسلم، فالمسلم من يستسلم لشرع ربه ويرضى به كله دون انتقاء ولا تجزيئ لأنه يعتقد أن منزله هو خالقه الذي يعلم مصلحته خيرا منه أو من غيره من البشر، فضلا عن كون هذا الأمر فرض على كل مسلم، فكلمة الله هي العليا، له سبحانه وحده الخلق والأمر.

-الوعي بأن الشريعة الربانية فيها من الرحمة بالعباد والخير ما ليس في شريعة من شرائع البشر، وإنما الخلل قد يأتي من التقصير في التطبيق، وبهذا فالإصلاح لن يكون أبدا بمخالفة الشرع بل بالرجوع إليه وإلى حسن تطبيقه، ففيه متسع لمصالح العباد وإن ظن المرتابون غير ذلك

-أن الواجب الإصلاحي لا يكون أبدا بالتوفيق والتلفيق بين الشريعة وغيرها من القوانين والمواثيق، وقد ذم القرآن قوما أعرضوا عن الكتاب والسنة زعما منهم إرادة الإحسان والتوفيق، بل يكون بالسعي إلى تحقيق المقاصد الشرعية في واقع المسلمين ومعاشهم بإيثار ما يرضي المولى عز وجل الموافق لمصلحة العباد وإن ظن بعضهم غير ذلك

-إن إشراك علماء الشريعة المحققين في هذا النقاش من أوله إلى آخره واجب لا مندوحة عنه، فهم من يوازن بين المصالح والمفاسد التي اعتبرها الشرع الحنيف مع الإحاطة بدرجاتها ومراتبها لتقديم أحبها إلى الله عند عدم إمكان الجمع بينها، هذا مع إعمال كل وسائل الاجتهاد التي يرضاها المولى سبحانه كالمصالح المرسلة والاستحسان (كما يعرفه المالكية) وغيرها من القواعد المستمدة من الشرع التي تمكن من مراعاة الظروف المجتمعية الحادثة

فالمشكل الطارئ لا يبرر تبني أي حل يتبادر إلى الذهن فضلا عن أن يكون الحل في تعطيل جزء من أحكام الشرع، فدون ذلك ينبغي أن يكون المشكل أولا معتبرا شرعا، وألا يكون ناتجا عن تقصير في تطبيق أحكام الشرع، وألا يكون في الحل من المفسدة أكثر مما في المشكل الأصلي وغيرها من الأمور التي لا يحكمها سوى أهل التبحر والمعرفة بأحكام الشرع الحنيف

-إن الشريعة كل متكامل من الأحكام يشد بعضها برقاب بعض، فالخلل الناتج عن التقصير في تطبيق بعض جوانبها لا ينبغي تقويمه بمزيد من التقصير في تطبيقها والعمل بها، بل يكون بالرجوع إليها والدخول فيها كافة فلا مصلحة في مخالفتها وإن ظُن غير ذلك، فعقيدة المسلم أن المصلحة عين المصلحة في الالتزام بها والوقوف عند حدودها

-إن المسلم ملزم ومحاسب على تطبيق شرع ربه في نفسه وأهله، وكل قانون يعطيه ما لم يحله له ربه فهو باق على حرمته ولا أثر للقانون على حكم الشرع ما لم يكن مكرها لا حيلة له

-إن ضياع الأسر وخرابها مرهون بضياع الأخلاق والقيم، فمن أراد إصلاح الأسرة بحق فعليه وضع خطة لإحياء قيم الإسلام الموافقة لفطرة الإنسان، وأعني بأخلاق الإسلام وقيمه ما له صلة بعلاقة الإنسان بخالقه أو ببني جنسه أو ببيئته

هذا وصلى الله على محمد والحمد لله رب العالمين.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M