جزية العصر الحديث.. حين تشترى الحماية بمقدرات الشعوب

هوية بريس – د.رشيد بن كيران
◆ في عالم تحكمه المصالح وتـوزع فيه الأدوار بحسابات القوة لا القيم، جاءت زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى دول الخليج العربي محطة كاشفة، لا عن تغير في السياسة، بل عن عمق الأزمة الأخلاقية والاستراتيجية التي تعيشها بعض الأنظمة العربية.
ترافقت الزيارة مع ضجة واسعة على منابر التواصل الاجتماعي، حيث تناقل ناشطون شعارات لاذعة من قبيل:
هل دفع حكام لخليج الجزية عن الشعوب العربية!؟ ورغم ما في هذا السؤال من تـهكم، إلا أنه يلامس حقيقة مـرّة؛ فحين نتأمل في مضامين تلك الزيارة وصفقاتها التريلونية، يحق لنا أن نتساءل:
لمن مصلحة من؟ وما المقابل الحقيقي؟
حماية العروش لا حماية الشعوب
◆ في خطابه العلني، لم يتردد الرئيس ترامب في التصريح بأن بعض دول الخليج “لن تصمد أسبوعا واحدا بدون الحماية الأمريكية”. هذا التصريح لم يكن زلـة لسان، بل إعلان لمعادلة واضحة: نحن نحميكم، وأنتم تدفعون. وهكذا، بدت الصفقات العسكرية والتجارية التي وقـعت حينها أقرب إلى الجزية منها إلى شراكة استراتيجية.
لكن الأدهى أن هذه الجزية لم تـدفع نيابة عن الشعوب، بل لحساب استمرار الأنظمة وبقائها في مأمن وهمي. فالشعوب، في الواقع، لم ولن تنل من تلك الأموال شيئا، بل ستظـل تعاني من التهميش والاستبداد، فيما تـنفق المليارات على أسلحة يعلم الجميع أنها لن تستخدم على العدو الحقيقي للأمة الإسلامية ولشعوبها.
◆ ما جعل طعم هذه الصفقات مـرّا بشكل خاص هو السياق الإنساني والسياسي الذي وقعت فيه. ففي الوقت الذي كانت تـوقـع فيه صفقات الحماية، كانت غزة تتعرض لقصف عنيف وإبادة جماعية ، بأسلحة أغلبها أمريكي الصنع وموافقة منها. وبينما كانت الوفود تـهلـل للرئيس ترامب وتغدق عليه الهدايا، كان الأطفال في غزة يموتون جوعا، وكانت قوافل المساعدات الإنسانية تـمنع، أو تتعرض للتنكيل.
فأي مفارقة هذه: أيد مبسوطة بالدولارات للبيت الأبيض، وأيد مغلولة حين يتعلق الأمر برغيف خبز لطفل محاصر!!؟
◆ لم يكن ما جرى مجرد حدث عابر في جدول العلاقات الدولية، بل كان صورة مكثفة لعلاقة غير متكافئة، تحكمها التبعية، وتـدار بمنطق الجزية لا الندية. وإذا كانت الجزية في ذاكرة التاريخ تدفع عن يد وأصحابها صاغرون، فإن ما شهدناه لم يكن أقل إذلالا، بل إنه تم بـقبـول واحتفـاء، لا تحت تهديد السيف، بل بإرادة مخزية ممن فقدوا المنهاج ونسوا اليوم الآخر.
◆ إن الشعوب فوق طاقتها لا تـلام، ولا يطلب منها أكثر من رفع الصوت والتعبير، هذا ما تملكه اليوم، وعلماء الأمة مطالبون بما هو أعظم. أما المسؤولية الحقيقية فتبقى على من جعلوا كراسيهم أغلى من كرامة أوطانهم، وقرروا أن يشتروا الحماية بدل أن يبنوا الشعوب.