حين يعلو الجهل.. ويستعصي النزول

هوية بريس – إبراهيم سهيل
الجهل إذا اقترن بالغرور صار داءً لا يُرجى له دواء لأن الجهل البسيط قد يُحتمل ويُهذب ويُرأب صدعه لكن الجهل المركب المغرور صاحب الصوت المرتفع والعين المحدقة التي لا ترى إلا ذاتها هو فتنة في كل مجتمع ومصيبة على كل منصب إذا ارتقى من لا يليق به العلو فقدت المراتب معناها وضاعت المقامات وضُربت القيم في أصلها لأن الرفعة في حقيقتها لا تُقاس بمكان الجلوس بل بمقام النفس وأخلاقها فإذا جلس في مقعد الكرام من لم يعرف للكرامة قدراً ضاعت المهابة واختلط على الناس وجه الحق من وجه البهرج وإنك لا ترى البلاء نازلاً نزولاً أعظم من أن يُرفع إلى العلياء من دونه سفالةٌ وعناد فإذا حاولتَ أن ترده إلى موضعه وجدت الجبال ألين منه لأن الجاهل المغرور لا يسمع ولا يتعلم ولا يعترف بالحقائق ولا يُبصر في مرآة نفسه إلا تمثالاً من الوهم يملأ الدنيا ضجيجاً وهو لا يساوي عند العقلاء ذرة من وعي.
ومن طامة الجهلاء أنهم إذا جلسوا في موضع الحكم حسبوا أنفسهم أرباباً لا يُسألون وتوهموا أن الكلمة تُعطيهم عقلاً وأن الوجاهة تُنبت فيهم الفهم ولو علموا أن الكرسي لا يمنح رجلاً قيمة بل يُظهر قيمته لعرفوا أن فضيحتهم إنما جاءت من حيث ظنوا أنها عزتهم.
والغرور في الجاهل كالطغيان في الضعيف يُغطي على خوائه بالتهويل ويستر عجزه بالكلام العالي فإذا أُعطي الجاهل سلطة صار أعدى على الناس من كل عدو لأنه لا يظلم وهو يعلم أنه ظالم بل يظن أنه على صواب ويظن أن من خالفه قد خان ومن نصحه قد تطاول ومن سكت عنه قد أذعن فيُفسد وهو يحسب نفسه مصلحاً ويهدم وهو يظن أنه يبني ومن ها هنا تأتي الكارثة لأن إصلاح الخطأ عند المتكبر الجاهل أصعب من إصلاحه عند العاقل المخطئ لأن هذا الأخير إذا بان له وجه الحق عاد إليه أما الأول فإنه لا يرى إلا وجهه ولا يسمع إلا صوته فإذا أنزلته عن مكان لا يستحقه صرخ وإذا أقررت له بأنه لا يليق بالمقام صاح وقال حسداً وإذا سكتّ عنه ظن سكوتك إذعاناً وإذا بينتَ له جهله قال لك هذا تعالٍ.
فما أصعب أن تقيم العدل في حضرة الجهل إذا تسربل بالغرور لأنك لا تحاور عقلاً بل تصارع وهماً له لسان وسلطان، وما أصدق القائل إذا قال إن الحمار إن أُلبس تاجاً ظن نفسه ملكاً وإن رُفع إلى عرشٍ صاح صيحة الملوك وهو لا يدري أنه ما زال في جلده وفي طبيعته لا يعرف من الأمر إلا ما يسير على أربع.
فإذا نظرت إلى حال الناس حين يُبتلون بمثل هؤلاء أدركت أن رفع الجهال إلى المراتب جريمة لا يقترفها إلا مجتمع نسي ميزان الكفاءة وظن أن المظهر يُغني عن الجوهر فارتفع من لا يستحق وأبى أن ينزل إلا بالقهر وإنزال من لا يستحق لا يكون هيناً لأنك لا تُنزل جسداً فحسب بل تُصارع وهماً استقر في النفس واستعصى على التهذيب والتقويم فصارت النفس تعاند وتكابر وتُكذّب كل شاهد وتُجافي كل ناصح وتُصم أذنها عن كل صوت فلا تسمع إلا هتافاً صنعته لنفسها ولا ترى إلا تمثالاً علقته في خيالها.
وما أشدها من بلية حين يجتمع الجهل بالمنصب وتُرفع الأقدام فوق الرؤوس وتُسند الأمور إلى غير أهلها فتفسد القيم وتتساوى المنازل ويُفتن الناس بعلو السفهاء لأنهم اعتادوا الصراخ أكثر مما اعتادوا الفهم واعتادوا البهرج أكثر مما عرفوا الجوهر ولا يكون ذلك إلا حين تغيب الفطرة ويُصادر العقل وتُزيف الموازين فيُصبح الجهل زينة والكبر وقاراً والسطحية فهماً والغرور مقاماً والناس من حولهم في بلاء حتى يأتي الله بأمره أو ينهض فيهم من يرد الأمور إلى مواضعها ويعرف الناس أن الكرامة لا تُشترى ولا تُلبس بل تُنال بتقوى القلب وعقل اللسان لا بعلو الكرسي ورفعة الألقاب.