خلاصة الكلام في حكم الاشتغال بمنطق اليونان

08 مايو 2025 20:17

 سلسلة مقالات نقدية حول المنطق المقالة الأخيرة (13): خلاصة الكلام في حكم الاشتغال بمنطق اليونان

هوية بريس – د.محمد أبوالفتح

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد؛

فقد تقدم معنا في المقالات السابقة ما يلي:

1. بيانُ موقف ابْنِ الصَّلاح من المنطق من خلال فتواه، وقد استخرجت من كلامِه سبعَ قرائنَ تَدُلُّ على تحريمه الاشتغال بالمنطق سدًّا للذريعة تَحْرِيماً مطلقا، من غير تفريق بين منطق مشوب بالفلسفة وغير مشوب، بل إنه اعتبر مُجَرَّدَ استعمال المصطلحات المنطقية في المباحث الشرعية من المنكرات المستبشعة(1).

2. بيانُ نقدِ شيخ الإسلام ابن تيمية المنطق من وجوه كثيرة من خلال أربعة مقامات: مقامين متعلقين بالتصورات، ومقامين متعلقين بالتصديقات. وهو نقدٌ صريحٌ للمنطق الأرسطي لذاته، بِغَضِّ النَّظَرِ عما قد يشوبه من شبه الفلاسفة.

3. تلخيصُ مضمونِ كتاب السيوطي “صونُ المنطق والكلام عن فَنَّيْ المنطق والكلام”، ثُمَّ ذِكْرُ مَا تضمنته آخر فتوى له في المنطق، وقد أكد فيها ما قرره في كتبه السابقة من نقدٍ للمنطق مطلقا من غير تفريق بين مشوب بالفلسفة وغير مشوب.

4. بيانُ موقف العلامة الشنقيطي من المنطق حيث صرح باستغناء المسلمين عنه، وأنه لو لم يترجم إلى العربية لكان خيرا، وذكر أن غرضه بتأليف كتابه “آداب البحث والمناظرة” هو الرد على المناطقة والمتكلمين بسلاحهم، ومخاطبتهم باصطلاحهم لإبطال شبههم التي بنوا عليها تعطيل صفات الله ﻷ.

 وخلاصة ما يستفاد مما تقدم من كلام ابن الصلاح وابن تيمية والسيوطي هو أن الأصل في الاشتغال بالمنطق هو المنع؛ لأنه ذريعة للاشتغال بعلم الكلام، والوقوع في الشبهات، ونظرا لما فيه من كثرة العَناء مع قلة الغَنَاء، فهو كما قال شيخ الإسلام: “لَحْمُ جَمَلٍ غَثٍّ عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ وَعْرٍ”، وَقَد بَيَّنَ رحمه الله بطلان كثير من مسائله في التصورات والتصديقات، وأن الصحيح منه يمكن التوصل إليه من غير طريقه بكلفة أقل…

• فإن قيل: ومن سيتولى الرد على شبه المتكلمين ودحضها ؟! وكيف تَمَكَّنَ شيخ الإسلام من الرد على المنطقيين لولا أَنَّهُ دَرَسَ المنطق وَتَمَكَّنَ منه أكثر من أهله؟! وهذا ظاهر في مقدمته لكتابه “الرد على المنطقيين” حيث ضَمَّنَهَا خلاصة معتصرة للمنطق تدل على تمام تمكنه فيه، وتصوره لمسائله(2). وأما السيوطي فقد صرح أنه يُحسنه أكثر ممن يدعيه، وأنه فاق في معرفته شيوخ المناطقة في زمانه باستثناء شيخه الكافيجي(3).

• فالجواب: نعم! لا بد من أن يتولى ذلك طائفة من العلماء؛ للرد على أهل البدع، وبيان فساد أقوالهم، كما يجب أن تتولى طائفة أخرى الرد على شبه اليهود والنصارى والرافضة والمعتزلة وغيرهم من فرق الضلالة. ولكن لا بد من مراعاة شروط ـ ذكرها أهل العلم ـ لدراسة المنطق وتدريسه، منها:

1. الشرط الأول: أن يكون دَارِسُ المنطق ذَكِيًّا سليمَ الطبع.

2. الشرط الثاني: أن يكون الدَّارس ممارسا للكتاب والسنة راسخا في العقيدة الصحيحة، متمكنا منها، عارفا بشبه المخالفين لها، وبالأجوبة عليها….

فليس من الصواب تدريس المنطق لجميع الطلبة، ولا للطلبة المبتدئين الذين لم يمارسوا الكتاب والسنة، ولم ترسخ أقدامهم في العقيدة الصحيحة، فإن هذا لم يقل به أَحَدٌ حَتَّى المجيزون للمنطق، وعلى رأسهم عبد الرحمن الأخضري (ت953ه) ، فقد قال في سُلَّمه:

وَالقَـولَةُ المَشهُـورَةُ الصَّحِيحَه *** جَـوَازُهُ لِـكَامِـلِ القَـرِيحَـه

مُمَـارِسِ السٌّـنَّةِ وَالكِتَـابِ *** لِيَـهتَدِي بِـهِ إِلَـى الصَّـوَابِ

• قال في شرحه على أبياته هذه: “…. والمختار الصحيح: جوازُه لذكي القريحة، صحيح الذهن، سليم الطبع، ممارس الكتاب والسنة؛ لِأَن لَا يَؤُولَ به الى اتباع بعض الطرق الوهمية، فيفسد الْـمُقدمات والأقيسة النظرية، فَتَزِلَّ قَدَمُه في بعض الدَّرَكَاتِ السُّفْلِيَّة، ومنه ضلت المعتزلة والقدرية، وغيرهم من الطوائف البدعية، فَخَلطوا في ذلك، حتَّى بَدَّلوا وَغَيَّرُوا في السنة الشرعية، والملة المحمدية فباؤوا بضلالة جلية، وجهالة غبية. اللَّهُم وَفِّقْنَا لِاتِّباع النبيين. وتوفنا مسلمين، لا مبدلين، ولا مغيرين. يا رب العالمين”(4).

• وقال الولالي (أحمد بن يعقوب -ت 1128هـ) في شرحه على السُّلَّم : “(لكامل القريحة) أي: لقوي العقل سليم، الإدراك، لا تغلب عليه الأوهام، ممارس قواعد السنة المطهرة، وقواعد الكتاب العزيز، وأما ضعيف الإدراك فينبغي له تركه؛ لأنه في الغالب لا يدركه على حقيقته، وبعد إدراكه شيئا منه يُخاف عليه أن يجري ما أدرك منه على ما يتغلب عليه من الأحكام الوهمية، فيضل عن سبيل الله، وكذلك من لم يمارس قواعد الكتاب والسنة ممارسة راسخة يُخشى عليه أن يجري قواعده على الأوهام، فيعتقد خلاف مقتضى الكتاب والسنة؛ فيظل ، بخلاف ذكي العقل، الذي مارس قواعد الكتاب وقواعد السنة، ورسخت فيه، فإنه يجري قواعده مادة وصورة فيما يطابق ما مارس من الحق المقرر من الكتاب والسنة”(5).

• وقال القويسني (الحسن بن درويش- ت: 1254هـ ) في شرحه على السلم:

“(لكامل القريحة) أي: ذَكِيَّ الفطنة، ممارس السنة والكتاب، فَيَجُوزُ له.

(يهتدي به الى الصواب) ضِدّ الخطإ ؛ لأنه قد حَصَّنَ عَقِيدَتَه، فلا يُخْشَى عليه من الخوض في الشبه، فان كان بليدا، أو ذكيا ولم يمارس السنة والكتاب؛ لم يجوز له الاشتغال به لأنه لا يؤمن عليه من تمكن بعض الشبه من قلبه، كما وقع للمعتزلة”(6).

فقد اشترط صاحب السُّلَّم وشُرَّاحُه تَبَعاً له فيمن يَدْرُسُ المنطقَ شرطين:

1) أن يكون ذكيا صحيح الذهن، فمنع منه الغَبِيّ؛ خوفا عليه من الغَيّ.

2) أن يكون ممارسا للكتاب والسنة، فمنع منه المبتدئ الذي لم يمارس الكتاب والسنة خوفا عليه من الضلالة.

فكيف يأتي بعد الأخضري من يُدَرِّسُ كِتَابَهُ لصغار الطلبة المبتدئين، الذين لم يمارسوا الكتاب والسنة، ولم ترسخ قدمهم بعد في العلم والمعتقد الصحيح ؟!

وكيف يأتي بعده من يقرر كتابه على الطلبة كلهم أجمعين أبتعين ، من غير تفريق بين ذكيهم وغبيهم؟!

• قال تقي الدين السبكي (756هـ): “…وينبغي أن يقدم على ذلك (يعني الاشتغال بالمنطق) الاشتغالُ بالكتاب والسنة والفقه حتى يَتَرَوَّى منها، ويرسخَ في ذهنه الاعتقادات الصحيحة، وتعظيمُ الشَّريعة وعلمائها… والمنطق من اقتصر عليه ولم تُعنه سابقة صحيحة جَنَى عليه التَّزَنْدُقَ، أو التغلغل باعتقاد فلسفي من حيث يشعر أو لا يشعر” (7).

3. الشرط الثالث: أن يَتَوَلَّى تدريس المنطق مُدَرِّسٌ صحيحُ المعتقد، عارف بمزالق المنطق، وما عليه من انتقادات في قسمي: التصورات والتصديقات، حتى يُبَيِّنَ ذلك للطلبة، وينبههم على تهويلات المناطقة إذ جعلوه معيار للعلوم، وعاصما من الخطإ، ومقوما للفكر بمنزلة النَّحْوِ لِلِّسان…

• قال السبكي في أثناء كلامه السابق: “… وإذا رسخ قدمه في ذلك (يعني في الكتاب والسنة والفقه والعقيدة الصحيحة) ، وعلم من نفسه صحة الذهن ، بحيث لا تروج عنده الشبهة، ووجد شيخا ناصحا دينا حسن العقيدة، جاز له الاشتغال به وهو علم عقلي محض كالحساب ، غير أن الحساب لا يَجُرُّ صاحبه إلى فساد ، وليس مقدمة علم آخر فيه مفسدة”(8).

4. الشرط الرابع: أن يؤصل المدرس في الطلاب تعظيم الوحي، وتقديمه على العقل: وذلك لأن تقديس العقل من أخطر آفات دراسة المنطق، بدعوى أنَّ القياس المنطقي الأرسطي قطعي الدلالة، بخلاف نصوص الوحي بزعمهم، وهذا منزلق خطير، يفضي إلى تعطيل الصفات التي جاء بها الوحي بدعوى أنها تخالف العقل، وأن النصوص الدالة عليها ليست قطعية الثبوت إن كانت أحاديث، أو ليست قطعية الدلالة إن كانت آيات، فَتُرَدُّ الصفات الثابتة لله تعالى بدعوى مخالفتها للقواعد المنطقية، وهذا ما يجب أن ينبه عليه المدرس الناصح طلابه.

• قال شيخ الإسلام في معرض رَدِّه على دعوى المناطقة أن الحد يفيد العلم بالتصورات: “…وَمِنَ العجب أن هؤلاء يزعمون أن هذه طرق عقلية يقينية، ويجعلون العلم بالمفرد أصلا للعلم بالمركب، ويجعلون العمدة في ذلك على الحد، الذي هو قول الحاد بلا دليل، وهو خبر واحد عن أمر عقلي لا حسي، يحتمل الصواب والخطأ، والصدق والكذب، ثم يعيبون على من يعتمد في الأمور السمعية على نقل الواحد، الذي معه من القرائن ما يفيد المستمع العالم بها العلم اليقيني، زاعمين أن خبر الواحد لا يفيد العلم…” (9).

• سئل الشيخ الفوزان عن دراسة علم المنطق فقال: “يَنْهَوْنَ عَنْهُ، لِأَنَّهَا (أي: دراسة المنطق) تُزَاحِمُ عُلُومَ الشَّرْعِ، وَرُبَّمَا يَعْتَمِدُونَ عَلَيْهَا وَيَتْرُكُونَ عُلُومَ الشَّرْعِ، وَيَقُولُونَ: هَذِهِ أَدِلَّةٌ عَقْلِيَّةٌ وَهِيَ تُفِيدُ اليَقِينَ، وَأَدِلَّةُ الشَّرْعِ تُفِيدُ الظَّنَّ. مَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّمَ عِلْمَ الْـمَنْطِقِ” (10).

5. الشرط الخامس: أن يؤصل المدرس في الطلاب أصل تعظيم السلف والتقيد بفهمهم للكتاب والسنة؛ وذلك لأنَّ من الآفات التي ابتلي بها المشتغلون بالمنطق تعظيمهم لعلوم اليونان في مقابل ازدرائهم لعلوم السلف، بناء على أن السلف لم يكن عندهم علمٌ بالمنطق، ومن كان كذلك فإنه عند المناطقة لا يُوثَقُ بشيء من علومه كما زعم الغزالي. وقد ذكر السيوطي كلاما لبعض المنشغلين بالمنطق يتضمن ازدراءً لعلم الصحابة، واتهاما لهم بقصور الفهم والإدراك(11).

6. الشرط السادس: أن يكون القصد من تدريسه ودراسته كشف عَوَارِهِ، والرد على المتكلمين بسلاحهم: يدل على هذا الشرط قول الشنقيطي في مقدمة مذكرته : “…‌وقد ‌يعين على رد الشبه التي جاء بها المتكلمون في أقيسة منطقية، فزعموا أن العقل يمنع بسببها كثيرًا من صفات الله الثابتةِ في الكتاب والسنة؛ لأن أكبر سبب لإفحام المبطل أن تكون الحجة عليه من جنس ما يحتج به، وأن تكون مركبة من مقدمات على الهيأة التي يعترف الخصم المبطل بصحة إنتاجها.

ولا شك أن المنطق لو لم يترجم إلى العربية ولم يتعلمه المسلمون لكان دينُهم وعقيدتُهم في غنىً عنه، كما استغنى عنه سلفهم الصالح، ولكنه لما تُرجم وتُعُلِّم، وصارت أقيسته هي الطريق الوحيدة لنفي بعض صفات الله الثابتةِ في الوحيين، كان ينبغي لعلماء المسلمين أن يتعلموه وينظروا فيه ليردّوا حجج المبطلين بجنس ما استدلوا به على نفيهم لبعض الصفات؛ لأن إفحامهم بنفس أدلتهم أدعى لانقطاعهم وإلزامهم الحق “(12).

7. الشرط السابع: اختيار كتاب مناسب للتدريس، ولا أعلم كتابا يفي بالغرض المذكور آنفا مثل كتاب العلامة الشنقيطي: “آداب البحث والمناظرة”، حيث ضَمَّنَهُ المؤلف أمثلة لتدريب الطلاب على استعمال المنطق في الرد على المعطلين للصفات، مقارعة لهم بِسِلَاحِهِمْ.

فهذه شروط سبعة مستفادة من مجموع كلام العلماء، وهي شروط لا تكاد توجد إلا في الخاصة من الطلبة، وخاصة الخاصة من الـمُدَرِّسِين، وأما أن يُدَرِّسَ المنطق كُلُّ أَحَد، وَأَنْ يُدَرَّسَ لكل من هَبَّ وَذَبَّ، فمخاطرة عظيمة؛ وإن كان يظهر بادي الرأي أنه مجرد تعاريف واصطلاحات بريئة؛ وذلك لأنه مقدمة لعلم عظيم المفسدة، وذريعة للاشتغال بعلم الكلام الذي أطبق السلف قاطبة على التحذير منه نظرا لسوء عاقبته، وقد خاض فيه جهابذة فأوردهم المهالك…

وقد اشتغل بالمنطق الفلاسفة المنتسبون للإسلام من أجل على فلاسفة اليونان فمالوا عن الإسلام وتزندقوا، ثم اشتغل به المعتزلة للرد على فلاسفة الإسلام فضلوا وأضلوا، ثم اشتغل به الأشاعرة للرد على المعتزلة فَأَوَّلُوا وَعَطَّلُوا، فلا يَبْعُدُ أن يشتغل بالمنطق بعض أهل السنة للرد على الأشاعرة فيزيغوا عن هدي سلفهم الذين كانوا ينهون عن الجدال والخصومة في الدين إيثارا للسلامة على المخاطرة، والسلامة لا يعدلها شيء…

ـــــــــــــــــــــــــــــ

([1])  استعمال العلماء لبعض المصطلحات المنطقية المشتركة بين العلوم لا ينبغي أن يُفهم منه جواز اقتحام هذا العلم بغير ضوابط وقيود مهمة سيأتي بيانها في هذا المقال إن شاء الله .

([2]) “الرد على المنطقيين” ص 46- مؤسسة الريان.

([3]) “صون المنطق “ص 33-34.

([4])  في شرحه على السلم (ص 373-374 ) من “مجموع السلم المرونق”- دار تحقيق الكتاب- تركيا.

([5])  القولُ الـمُسَلَّم في تحقيق معاني السلم (ص 79 ) من “مجموع السلم المرونق”.

([6])  في شرحه على السلم (ص79-80) من “مجموع السلم المرونق”.

([7])  “القولُ المشرق في تحريم المنطق” للسيوطي (ص 139)-  دار الحديث بالقاهرة.

([8])  المصدر السابق.

([9]) “الرد على المنطقيين” ص80 .

([10])  مُفَرَّغ من فتوى صوتية للشيخ ( https://youtu.be/uYP-2REuSy0?si=o1MfLOesvY5znUrU).

([11])  “صون المنطق” ص 54.

([12])  “آداب البحث والمناظرة” ص 6.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
9°
19°
الثلاثاء
19°
الأربعاء
19°
الخميس
20°
الجمعة

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M