د.الحضري يكتب: من يستفيد من غياب الأمن الأخلاقي؟

17 أبريل 2025 14:19

هوية بريس – د.لطفي الحضري

حين نتأمل في واقع مجتمعاتنا المعاصرة، يبرز سؤال محوري: لماذا تنتشر الفوضى، وتختلّ المعايير، ويصعد غير الأكفّاء، ويُهمَّش الشرفاء، وتُظلَم الطاقات الخلّاقة؟

قد تُوجَّه أصابع الاتهام إلى السياسة أو الاقتصاد أو ضعف المؤسسات، لكنّ الجواب الأعمق يتعلّق بأمر أكثر جوهرية: غياب الأمن الأخلاقي.

ما هو الأمن الأخلاقي؟

هو الشعور العام بأن القيم محترمة، والحق مصان، والفضيلة مُقدّرة، وأن المجتمع يحمي الصادق، ويُحاسب الفاسد، ويكافئ النزيه، ويَرْدع المتجاوز. حين يغيب هذا النوع من الأمن، لا يختلّ التوازن الاجتماعي فحسب، بل تُصاب البنية النفسية والثقافية للأمة بخلل طويل الأمد.

الأمن الأخلاقي لا يصنعه السلاح، ولا تفرضه القوانين وحدها، بل ينبع من العدل، من ضمير يقظ، ومن “الميثاق الفطري” الذي يجعل القيم حارسة للواقع لا زينة للخطاب.

ولنا في أول خطبة ألقاها الخليفة الراشد أبو بكر الصديق رضي الله عنه، بعد توليه الخلافة، مثلٌ عظيمٌ في بيان جوهر هذا الأمن، فقد قال رضي الله عنه: “أيها الناس، إني وُلّيت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني. الصدق أمانة، والكذب خيانة. والضعيف فيكم قويٌّ عندي حتى آخذ له حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيفٌ عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله. أطيعوني ما أطعتُ الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم.”

إنه لم يعدهم بالمال ولا بالرخاء، بل وعدهم بالعدل. والعدل هو أساس الأمن الأخلاقي. العدل مع النفس، والعدل مع الغير. العدل الذي لا يحتاج إلى محاكم، لأنه يسكن الضمائر، ويُستحضر في المواقف، ويُمارَس لا يُزايد به.

الفئات المنتفعة من غياب الأمن الأخلاقي:

  1. المستبدّون والأنظمة الظالمة

في ظل أخلاق حية، تنشأ مجتمعات حرّة، ترفض الذل، وتقاوم القهر، وتطالب بالعدل. أما حين تنهار القيم، يتحوّل الناس إلى قطيع فاقد للضمير الجماعي، لا يسأل عن الحق، ولا يتحرك ضد الباطل.

الطغاة لا يحكمون المجتمعات اليقظة، بل يبحثون عن شعوب مخدّرة. ولذا، يُعتبر قتل الضمير الجمعي وتقزيم المفاهيم الأخلاقية من أدوات الحكم المستبدّ.

  1. أصحاب المصالح الفاسدة

في غياب الأمن الأخلاقي، تتحول السلطة والمال إلى أدوات فساد لا رقيب عليها. تزدهر الرشوة، وتُشترى الذمم، ويُحاصَر الشرفاء، ويُسكت من يطالب بالعدل، إما بالترهيب أو الترغيب. فالبيئة الأخلاقية تُربك الفاسدين، لأنها تضعهم أمام مرآة العدل، وتُحمّلهم مسؤولية السلوك.

  1. الإعلام المأجور

حين يغيب الضمير، يتحوّل الإعلام من وسيلة تنوير إلى أداة تضليل. يقلب الحقائق، ويُروّج للرداءة، ويُلمّع الظالمين، ويُشيطن الشرفاء، ويُحوّل الفساد إلى إنجاز. وهذا النوع من الإعلام يعيش على الجهل، ويزدهر في الفوضى، ويتغذّى على تزييف الوعي.

  1. السوق الاستهلاكي غير الأخلاقي

غياب القيم يخلق بيئة تجارية متوحشة، تُروّج لكل ما يُغري، ويُفسد الذوق، ويستغل الجسم والعاطفة. وحين تحضر الأخلاق، تُطالب السوق بالشفافية، والمسؤولية الاجتماعية، واحترام الإنسان.

  1. النفوس الضعيفة والأنانيون

في الفوضى الأخلاقية، يجد الأنانيون حرّيتهم المطلقة. لا يريدون قيودًا، ولا التزامات، ولا مسؤوليات. لكن هذه الحرية المزعومة تُنتج فردًا هشًّا، مشتّت الهُوية، غير قادر على بناء علاقة مستقرة أو مجتمع متماسك.

  1. أعداء الأمة ومشاريع التغريب

حين تُضرب الأخلاق، يُضرب الدين من داخله، وتُفرَّغ الهُوية من مضمونها. فمشاريع التغريب لا تبدأ دائمًا بمحاربة الدين صراحة، بل تبدأ بضرب البنية الأخلاقية التي تحمله.

الإسلام دين أخلاق في جوهره. وإذا زُعزعت مرجعية القيم، تمهّد الطريق لثقافة استهلاكية تجعل الإنسان عبدًا لرغباته، فاقدًا للمعنى، خاضعًا لمن يتحكم في أذواقه وحاجاته.

الشريعة لا تفصل بين التدين والسلوك. فكل عبادة لا تُثمر خلقًا ناقصة. والأخلاق تحفظ الكليات الخمس: الدين، النفس، العقل، العرض، والمال.

الخلاصة:

الضمير هو “الحارس الداخلي” للفرد، وغياب الأمن الأخلاقي يؤدي إلى صراعات داخلية مزمنة، ويُحدث انقسامًا بين القيم المعلنة والسلوك الفعلي، ما يُفقد الإنسان اتزانه النفسي.

كل من لا يستطيع العيش في النور، يبحث عن ظلام يختبئ فيه. وغياب الأمن الأخلاقي هو ذلك الظلام، حيث يُخنَق الشرفاء، ويُكرَّم الفاسدون، وتُستبدل المبادئ بالمصالح.

لكن هذه الفئات، مهما بدت قوية، تبني فسادها على أرض رخوة. فالأمم لا تبقى بلا أخلاق إلا لتنهار لاحقًا. ولن تقوم لنا قائمة، إلا إذا أعدنا للضمير الديني حضوره، وللقيم سلطانها، وللأخلاق أمنها المفقود.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
20°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M