رحل حماد القباج

هوية بريس – جلال اعويطا
رحل حماد.. لكن بعض الأرواح لا تعرف الغياب، هناك أناس يتركون أثرًا لا يُمحى، وحين يرحلون لا يكون الغياب مجرد حدث، بل فراغًا ممتدًا لا يملؤه أحد، حماد القباج كان واحدًا من هؤلاء.. رجل عاش بحكمة الكبار، وثبات الصادقين، وبصيرة المصلحين!
تعرفت عليه قبل عشرين عامًا، ما رأيت أصبر منه ولا أشجع، كان مقعدًا بشلل رباعي منذ شبابه بقدرٍ من الله، لكنه قبِل قدرَه وتجاوز ذلك العجز وتحرك في الحياة كما لا يفعل الأصحاء، بعقله، بفكره، بروحه المُتَّقِدة، لم يكن يرى في المغرب “الاستثناء” مجرد شعار أجوف، بل كان يُؤمن أن هذا الوطن بهذا التاريخ الحافل الذي نخَلَه نخلاً ووقف على معالمه وتأمل بعمق في أحداثه مشروعَ إصلاح دائم، لا عملًا لحظيًّا ولا امتيازًا مجانيًا.. كان وطنيًا حتى النخاع، مَلكيًّا بلا مجاملة، ومصلحًا بلا خوف، لا يُداهن، لا يُساوم، لا يضعف أمام الحملات ولا يتأثر بالضغوط.
وأضرب مثالاً بسيطاً في عز حملات التشويش، حين استهدفته مسيرة ولد زروال بشكل كارثي، قابل كل ذلك بابتسامته الجميلة المعتادة وبروحه المراكشية المرحة، كأنه كان يعلم أن الضجيج لا يُسقط الرجال، وأنّ مَن يعمل على الأرض لا يَشغَل نفسَه بالصيحات العابرة .. تابعنا المسيرة سويًّا فكلما أظهرتُ الغضب كان الأكثر هدوءًا بيننا، والأكثر اتزانًا، بل والأكثر مزاحًا، كان يعلم أن التاريخ لا يكتبه الصاخبون، بل الصابرون.
في مجالسنا الخاصة كما العامة، كان حماد يُدافع عن التامغربيت كمشروع حضاري لم يأخذ حقه بعد، عن الملكية، عن الاستقرار، عن الوحدة الترابية وكأنه معيَّن لهذا الأمر أو يشتغل بأجور ضخمة لبث هذه القناعات، بينما كنت أعلم جيدًا أنه لم يتلقَّ يومًا درهمًا واحدًا لذلك، لم يكن مدفوعًا بمصلحة، بل بقناعة صادقة، نابعة من رؤية واضحة وإيمان راسخ ووطنية قلّ نظيرها اليوم.
لم يكن مجرد فقيه، بل كان رجل دولة بفكر ناضج، سياسيًا محنكًا يعرف متى يتحدث وكيف يُصغي، كتب عن البخاري كما كتب عن محمد بلعربي العلوي، فسّر القرآن كما فسر رسائل محمد بن عبد الكريم الخطابي، كتب عن مغربية الصحراء كما كتب عن عدالة القضية الفلسطينية، متمسكًا بمبدأ العدالة الذي لا يتجزأ، حاضر في دور القرآن كما كان حاضرًا في الجامعات، كان يرى في العلم نورًا، وفي الفقه منهجًا، وفي السياسة أداة للإصلاح لا ساحة للصراع، كان رجلًا بفكر شامل، لا حبيس زاوية، ولا أسير توجه معيّن.
وراء كل هذه الصلابة الفكرية والقوة العملية، أجزم أنه كان هناك قلب معلق بالله بشكل عظيم جداً.. حماد لم يكن مجرد رجل فكر، كان رجل عبادة من طراز نادر رغم إعاقته، في السفر كما في الحضر شديد الحرص على أوراده، وكان دائم التذكير لنا بها، لا تفوته صلاة في كل أحواله، لا يُهمل قيام الليل، دائم القراءة من المصحف يذكر الله في كل أحواله.. باراً بوالدته الحاجة لطيفة حفظها الله ورزقها الصبر، بل كان يأخذنا إلى الأماكن التي كان يأخذه إليها والدُه رحمه الله ويُذكّرنا به ويسرد علينا بعض مواقفه.. كان يُواجه الحياة بقلب مطمئن، مستندًا على يقين لا يتزعزع.. كنت أراه في أشد لحظات المرض لا يشتكي، بل يلهج بالذكر والدعاء.. إذا اشتد عليه الألم، ردّد: “الحمد لله” كنا أمامه المرضى الضعفاء وهو المعافى القوي.
ومع ذلك، لم يكن حماد رجلًا منغلقًا على نفسه، بل كان محبًا للحياة، مقبلًا عليها، عاشقًا للجمال بكل تجلياته، بالداريجة المغربية كان رجل د النخوة والمعنى.. لم يكن عابثًا ولا تافها، لكنه كان يعرف كيف يفرح، وكيف يُفرح من حوله ..كان مزاحه لطيفاً، وحديثه ممتعًا، ونقاشه عميقًا.. كان يملأ المجالس، لكنه لم يكن جافًا ولا متكلفًا، بل كان تلقائيًا، سلسًا، قريبًا من الجميع.
كان هينًا حتى مع أشد مخالفيه، لا يحمل ضغينة، ولا يتورط في كراهية، وكان يرى الجميع بعين الرحمة، حتى من اختلف معهم حدَّ المواجهة، كان يؤمن أن الإصلاح لا يكون بالخصومة، بل بالعمل، بالحكمة، بالثبات.
كان حماد رجل علم بامتياز، عاشقًا للمعرفة، متجردًا في طلب الحق، صادقًا في بحثه عن الحقيقة، لم أره يومًا يضيع لحظة فيما لا ينفع، كان دائم القراءة، دائم البحث، حتى في أسفاره كانت كتبه أول ما يُعدّه، يلازمها كما يلازم المسافر راحلته.. ما سمع بعالم إلا أحب لقاءه، وجلس إليه مستفيدًا، ينظر إليه بعين الإجلال لا بعين التنافس، لم يكن يجادل للانتصار، بل يُنصت ليفهم، ويناقش ليتعلم، وكان مناظرًا بارعًا، ومحاورًا ذكيًا، يفحم بالحجة، ويقنع بالحكمة، ويُدافع عن الحق بثبات، دون تعصب ولا تحامل .. يطلب العلم حبًا للمعرفة، وإيمانًا بأن الفكر المستنير وحده ينهض بالأمم.
الكثير من الثمار التي نقطفها اليوم هي من غرس سيدي حماد وغيره من الوطنيين الصادقين، فقد وهب جهوده لخدمة القرآن، والدفاع عن اللغة العربية، وترسيخ الهوية المغربية، والذود عن السنة وتصحيح المفاهيم، ناضل من أجل اعتماد البنوك التشاركية، ودعم ذوي الاحتياجات الخاصة، وكانت له مشاركات في دعوة غير المسلمين، وأسهم في العمل الاجتماعي الحالي بشكل كبير جداً، وكان إعلامياً بقلم صادق وصوت جريء، كان قلمه مرآةً تعكس قضايا أمته ووطنه.. رجل لم يورّث إلا الأمل، ولم يسعَ إلا للإصلاح.
والرجل قد مات، ولا أبتغي من هذه الشهادة لا حظوة له ولا أي شيء، لكنها شهادة حق لرجل كان أكبر من كل الألقاب.
أكتب هذه الكلمات وقلبي يعتصر حزنًا، أدافع العبرات.. لمثل هذا اليوم اجتهدتَ وثابرتَ وصبرتَ، وظني في ربي أنه لن يخيّب ظنك، ولن يضيع صبرك، وأن لقاءك به هو الراحة التي طال انتظارها بعد عمرٍ مليء بالاحتساب والجلَد والصبر.. أكثر من ثلاثين سنة وأنت مقعد، ملازمٌ لكرسيك، لم تشتكِ يومًا، لم تتأفف لحظة، لم تتذمر من اختبارٍ امتد بك طويلًا، بل كنت دائم الشكر، راضيًا بقضاء الله، ولسانك لا يفتر عن الحمد، وقلبك مطمئنٌ مستسلمٌ لما كُتب لك.. رأيناك تتألم في صمت، تتحمل بصبر، تُخفي وجعك بابتسامتك المعتادة، وكأنك كنت تقول لنا دون كلام: “أنا بخير، لا تقلقوا” لكننا كنا نعلم، كنا نشعر، وكنا نعجز عن مواساتك لأنك أنت من كان يواسينا!
عزاؤنا أنك صرتَ إلى من هو أرحم بك منّا، إلى من لطالما ناجيته، وأودعتَ عنده آلامك وأحلامك، إلى الذي لا يُخيب الرجاء ولا يضيع الصابرين.. هنيئًا لك هذا الاصطفاء، وهذه المكرمة في هذه الليالي المباركات، وقد سطّر العلماء أن كل من مات في عِلّة مؤلمة متمادية، أو مرضٍ هائل، أو بلاءٍ مفاجئ، فله أجر الشهيد. نحسبك كذلك، ولا نزكي على الله أحدًا.
وكأنّي بصوتٍ يهمس: اليوم نعيمٌ بلا سقم، وراحةٌ بلا عناء، لا كرسيَّ بعد اليوم، لا صوت آلات المصحات، لا رائحة أدوية، لا وخز إبر، لا تدخلات طبيّة، لا وجع، لا ليالٍ طويلة يثقلها الألم..
اللهم اجمعنا به في مستقر رحمتك، على مائدة كرمك، في دارٍ لا نصب فيها ولا وصب، ولا فراق ولا أحزان، برحمتك يا أرحم الراحمين.