رمضان هدنة.. كهدنة طوفان الأقصى

هوية بريس – حمزة المرحاني
في خضم معركة الحياة الدنيا مع الشيطان، يمنّ الله علينا برمضان كهدنة ربانية مع هذا العدو الرجيم؛ لالتقاط أنفاسنا، وترميم أرواحنا، والتزوّد والاستعداد لخوض المعركة من جديد مع العدو الأزلي بعد هذه الأيام المعدودة. هذه الهدنة ليست هدنة استرخاء، بل معسكر استعداد تُراجع فيه الخسائر، ويُعاد فيه ترتيب الصفوف استعدادًا لما هو قادم.
وكأي هدنة، فأول ما ينبغي الوقوف عليه هو تقييم الوضع العام، وتحليل الأداء، ومراجعة النجاحات والإخفاقات، والاعتراف بالذنوب والمعاصي والتفريط في الطاعات. هذا التقييم الشامل يجب فيه إحصاء الخسائر بين الإنسان وربه من تضييع للواجبات، وجرأة على المحرمات، وإسراف في المباحات، وبين الإنسان ونفسه من تزكيتها وتفقّد لقلبه ودمعه، وبين الإنسان وعباد الله من تضييع للحقوق أو ظلم أو قطيعة رحم وغيرها.
وأول ما يجب إصلاحه بعد هذه المعاينة هو إصلاح شبكة الاتصال بالله، وذلك بعمارة المساجد وإقامة الصلاة. ثم تفقد الدفاعات والتحصينات، وتعبئة المخزون الإيماني كمًّا ونوعًا بصيام رمضان وقيامه إيمانًا واحتسابًا، والتفرغ لتلاوة القرآن وتدبره، والإكثار من دعاء الله وذكره، والاجتهاد في الإنفاق في سبيل الله تطهيرًا للنفس وقربةً إلى الله. وهكذا كان رسول الله ﷺ أجود الناس في رمضان، وكان أجود ما يكون في رمضان.
ومن الذخائر التي يُحظر أن ينفد مخزونها، ويجب تعبئتها باستمرار هي ذخيرة الاستغفار؛ لأنه ليس مجرد كلمات تُقال باللسان، بل هو -بفضل الله- ذخيرة روحية تحطم الروح المعنوية للعدو، وتصلح القلب كلما أُصيب، وترمم الحصون كلما تشققت، وتُطفئ نار المعصية، وبه تُفتح أبواب المدد الرباني.
وفي ساحة المعركة الروحية، لا يكفي أن تُحصّن النفوس بالعبادات والطاعات، بل يجب تفعيل نظام المراقبة الدائمة لقلوبنا وعقولنا. كالجندي الذي يعتمد على الرادارات لكشف تحركات العدو قبل أن يصل إلى الحِمى، فالمؤمن يحتاج أيضًا إلى رادارات فكرية تُنذر بالخطر عند أول شرارة وسوسة أو انحراف. هذه المراقبة تبدأ من تصفية البيئة المحيطة: أي الأفكار التي نتشربها، والأشخاص الذين يُؤثرون علينا، والمحتوى الذي نستهلكه يوميًا. فكل كلمة أو مشهد أو موقف يمكن أن يكون إشارة للعدو، تُزرع في القلب حتى تنمو وتُثمر ضعفًا أو ذنبًا.
ولا شك أن أبواب الخير والتزوّد في هذه الهدنة المباركة -ولله الحمد- كثيرة ومفتوحة على مصرعيها، فإن لم نستطع قرع باب من أبواب الخير، وحالت بيننا السُّبل والظروف، فالنية مركبنا ووسيلتنا لنيل الأجر والثواب، لقول رسول الله ﷺ: “مَن هَمَّ بحسنةٍ فلم يعمَلْها، كُتِبَتْ له حسنةً كاملةً.” ) أخرجه مسلم (
ولنكن على يقين أنه بعد انتهاء هذه الهدنة، سيرجع هذا العدو أيضًا بتكتيكاته المعهودة والمعروفة وحروب الاستنزاف من خلال الوسوسة والمحاولات المتكررة لإضعاف العزيمة عبر الذنوب الصغيرة. كما سيمارس تضليله الإعلامي بتزيين الباطل، والتلاعب بالمفاهيم، والتطبيع مع المنكر، وتزييف القدوات. كما لن ينفك عن تيئيس المذنبين، وبثّ روح الإحباط فيهم بأن الله لن يقبل توبتهم. ولن يتوقف أيضًا عن إدخال الغرور والتكبر في قلوب الصالحين حتى يُفسد عليهم أعمالهم، راجيًا تحقيق وعيده:
{ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ ۖ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}الأعراف: 17.
لذلك، عندما نسمع قوله تعالى في مواضع كثيرة من محكم تنزيله: “فاتخذوه عدوًا”، فهذا نداء صريح للتسلح بعقلية عسكرية، ويقظة دائمة، وجندية صارمة، والتزام بالأوامر الإلهية، وطاعة الله بلا تهاون. ونتذكر أنه مهما بلغ هذا الرجيم من الحيل والفنون والمصائد، فكيده يظل -بفضل الله وعونه- ضعيفًا على المؤمن، لقوله تعالى: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} النساء :76.