سؤال التطبيع بين المكسب والخسارة أو اتفاقيات أبرهام في الميزان! محاولة لفهم البدايات وتوقع النهايات

هوية بريس – قاسم علوش
التطبيع مع الكيان الصهيوني لا يمكن أن يكون مربحا إلا بالقدر الذي سيتسبب فيه بخسائر كارثية على المنطقة العربية، ذلك أن من يعتقد أنه سيحقق ربحا من وراء صفقات التطبيع مع الصهاينة فهو واهم. ومرد هذا الوهم أنه ليس على دراية بنفسية وعقلية الصهاينة المتشبعة بقيم الانتهازية والاستغلال البشع لنقاط ضعف الآخرين، وتوظيفها، وجعلها بالمقابل نقاط قوة لصالحهم تخدم أهدافهم الاستراتيجية. ذلك على الأقل ما صرح به (آرثر جيمس بلفور، ت 1930م)، مهندس الوعد المشؤوم (وعد بلفور في 02 نونبر 1917)، بعد أن وظفته الحركة الصهيونية لخدمة مصالحها، حيث قال عنهم: ” إنهم قوم عديمو المروءة، يفتقرون للكرامة واحترام النفس وإنهم يميلون لاستخدام مواهبهم لتحقيق أهدافهم الشريرة”. كما أنه لم يقرأ جيدا التاريخ البعيد والقريب ليقف على ما آلات إليه أوضاع كل من وثق في عهود ومواثيق الحركة الصهيونية وزعمائها التي وعدوا بها كل من عقد اتفاقيات معهم.
إن التاريخ مليء بالوقائع التي تؤكد صحة فرضيتنا، وفي منطقتنا العربية على وجه التحديد، حول خسارة جميع من اتفقت معهم الحركة الصهيونية، أو وكلائها، وتحولهم، في نهاية المطاف، إلى خادمين لمشاريعها في المنطقة دون أن يحققوا هم تلك الاستفادة التي توقعوها في بداية الأمر.
- الشريف حسين بين الخيبة والحسرة!
ومن الأمثلة البارزة على تلك الوقائع، نذكر ما وقع في بداية القرن العشرين، لشريف مكة (الحسين بن علي بن محمد الهاشمي (ت1931 م)، مُؤسِّس المملكة العربية الحجازية، وقائدُ الثورة العربية الكبرى في مطلع القرن العشرين، وأوَّل من نادى باستقلال العرب من حكم الدولة العثمانية غداة الحرب العالمية الأولى)، والذي دخل في صفقة مع الحكومة البريطانية (عن طريق المندوب السامي البريطاني في مصر “هنري مكماهون”، فيما سمي تاريخيا بـ”مراسلات الحسين- مكماهون” سنة 1915م)، لتشجيعه على الثورة ضد العثمانيين وإعلانه الانفصال عنهم، ووعدوه بتنصيبه خليفة على المسلمين وتأسيس الدولة العربية الكبرى إن هو ساندها في الحرب العالمية الأولى ضد الإمبراطورية العثمانية. في تلك الفترة كانت لندن، عاصمة الإمبراطورية البريطانية التي لا تغيب عنها الشمس، هي مركز ثقل الحركة الصهيونية، على موعد مع إعلان وزير الخارجية البريطاني (آرثر جيمس بلفور، ت 1930م)، الذي كان يد الحركة الصهيونية في الحكومة البريطانية بقيادة (لويد جورج) بين 1916-1919م، عن وعده، باسم التاج البريطاني، منح وطن قومي لليهود على أرض فلسطين. بالمقابل كانت بريطانيا تعقد اتفاقا مع فرنسا وروسيا القيصرية (اتفاقية سايكس-بيكو 2016م) لأجل تقسيم أراضي الإمبراطورية العثمانية فيما بينهم (وبالتالي تبخر حلم الشريف حسين في تحقيق طموحه السياسي بحكم تلك الأراضي بدعم إنجليزي بعد هزيمة العثمانيين)، حيث اتفقت جميع الأطراف على إبقاء ذلك طي الكتمان حتى لا يعلم زعماء العرب، وفي مقدمتهم الشريف حسين، إلى أن تضع الحرب العالمية الأولى أوزارها، وهي الاتفاقية التي أخرجها للعلن البلاشفة الروس بعد انتصارهم في ثورتهم على قيصر روسيا عام 1917.
- السلطة الفلسطينية والسير وراء وهم الدولة!
أما المثال الثاني فهو ما وقع للسلطة الفلسطينية منذ اتفاق أوسلوا (13 شتنبر 1993م)، الذي روج له مهندسوه على أنه سيكون مفتاح سلام وأمان وعيش مشترك بين الفلسطينيين والكيان الصهيوني في أفق تحقيق حل الدولتين وقيام الدولة الفلسطينية على أراضي 1967م. فماذا حققت السلطة الفلسطينية للشعب الفلسطيني من وراء اتفاقها مع دولة الاحتلال الصهيوني؟ وما مصير الدولة الفلسطينية على أرض الواقع؟
على الجهة الأخرى، انظروا إلى ما حققته دولة الاحتلال الصهيوني من راء اتفاق أوسلوا على مدار 30 عاما؟ ألم تَفتح لها أغلب عواصم الدول العربية أبوابها؟ بل الأكثر من ذلك أصبحت جل تلك العواصم ترى في القضية الفلسطينية عبئا عليها تريد التخلص منه، وبالطريقة التي يريد الكيان الصهيوني، لصالح التطبيع الشامل وبناء (شرق أوسط جديد) سيكون في المُحَصّلة بمثابة عمق استراتيجي للكيان.
لذلك، يكاد يجزم الكثير من المراقبين والمحللين السياسيين المهتمين بتطورات الأحداث في (الشرق الأوسط) أن مآلات اتفاقيات (أبرهام) التي بَشَّرَ ولا زال يُبَشّرُ بها العراب الأمريكي (دونالد ترامب) لن تصب في النهاية إلى في صالح دولة الاحتلال الصهيوني التوسعية والمارقة عن القانون الدولي، التي مارست ولا تزال تمارس حرب الإبادة الجماعية، كما وصفتها محكمة العدل الدولية، على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، طيلة 18 شهرا، والتي ستنتقل لممارسة نفس الإبادة (وقد بدأت فعلا خلال فترة الهدنة الثانية التي نتجت عن اتفاق وقف إطلاق النار، بين حكومة الاحتلال وفصائل المقاومة الفلسطينية برعاية الوسطاء المعنيين، خلال يناير 2025، في ممارسة التقتيل والتهجير بحق فلسطينيي مخيمات اللاجئين بالضفة الغربية)، على الفلسطينيين بالضفة الغربية بعد تقتيل الفلسطينيين بقطاع غزة وإجبارهم على الخضوع لسياسة التهجير القسري. تلك الدولة المارقة تمارس الآن جرائم الإبادة هناك وعينها على أراضي دول الجوار، المملكة الأردنية، وجمهورية مصر العربية، والمملكة العربية السعودية في أفق التمهيد لما تسميه، أدبيات الجيو-بوليتيك الصهيونية، بإقامة دولة (إسرائيل الكبرى) أو (أرض الميعاد التي وعدها الرب لشعب بني إسرائيل المختار حسب “نبوءات نصوص العهد القديم”، التوراة) كحتمية تاريخية.
إن المعطى السالف الذكر، ليس من وحي الخيال، بل هو فعلا ما صرح ويصرح به قادة الكيان الصهيوني السياسيين والعسكريين، وأيدهم في ذلك الرئيس الأمريكي (دونالد ترامب) في تصريحه الشهير، إبان حملته الانتخابية بتاريخ: 16-08-2024، الذي نقلته القناة 12 العبرية، والذي قال فيه أن: “مساحة إسرائيل تبدو صغيرة على الخريطة، ولطالما فكّرت كيف يمكن توسيعها.” وقد أكد نفس مضمون كلامه بعد توليه منصب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية في ولايته الثانية بتاريخ: 03 -02-2025، بل وأعلن أيضا رغبته في تهجير ما تبقى من الفلسطينيين إلى دول الجوار في تناغم تام مع رغبات دولة الاحتلال الصهيونية. كل ذلك قد يؤدي بنا إلى استنتاج مفاده، ومن المنظور الجيو-سياسي المتوسط والبعيد المدى، أن أراضي دول الطوق (حلفاء اتفاقية أبراهام الشرق أوسطيين) التي دخلت في تطبيع من الكيان الصهيوني هي في الواقع، ومن وجهة نظر صهيونية بحتة، ليست سوى مجال حيوي للتوسع الجغرافي المستقبلي لدولة الكيان الصهيوني.