سؤال القراءة بين الحقيقة والتزييف: أمة “اقرأ”

06 يوليو 2020 12:17

هوية بريس – عزيز المحساني

في واقع الهزيمة وانهيار القيم، والتشكيك في الحقائق المرجعية الثابتة المؤسسة لانتمائنا الحضاري الإسلامي العربي، ثقافة، وتراثا، ولغة، ودينا، والتضليل المخطط له من الخارج والداخل، من الخارج كانت بداياته الأولى منذ العصر النبوي من الكتابيين، وبلغت شدته مع الحركة الشعوبية وتيار الزندقة، وانتهاء مع الحملة الصليبية بوجهيها الديني الظاهر والمتستر تحت لباس العلم/العلمانية ، التي أَرفقت جيوشها بعدد كبير من رجال الدين وجواسيس الفكر، منذ الحملة الفرنسية على مصر. والداخلية مع جماعة النفاق بقيادة عبد الله بن سلول وبعده عبد الله بن سبأ، والحركات الباطنية والسرية التي عملت في الخفاء والعلن، إلى التيارات المحدثة من البهائيين وتيار الأحباش والقاديانية والتيارات العلمانية بكل تلاوينها وولائها.

كان الحرص والتخطيط الدائم والمستمر على أمرين أساسيين يتصلان بفعل القراءة، الأول قطع الصلة بالقراءة النافعة، وخلق كل العراقيل لمنعها للإبقاء على الجهل والأمية، وإن سُمح للإنسان بالتعلم والقراءة فبمقدار ما يسمح له بالقيام بالوظائف والأعمال المتصلة بأوضاع الاستغلال الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والديني، فإذا كانت الحاجة إلى عامل في معمل أو فلاح في حقل أو صياد في بحر…فالتعليم والقراءة لا يتجاوزان حدود تأهيل العبد لخدمة سيده، وهذا النوع يكون مردوده في قريبه العاجل خادما لمصالح المستغلين في الداخل، وفي أمده البعيد يصب في مصلحة شريكهم الأجنبي، الأمر الثاني وهو أكثر خطورة من الأول وهو وأد خفي، دعوة للتعليم والقراءة ولكن لحاجة وظيفية ثانية، وهي الإلحاق بالمحتل والإبقاء على هيمنته الاستعمارية الاقتصادية والسياسية والثقافية. والعمل على هذا المستوى يتم وفق محورين والنتيجة واحدة، المحور الأول هو قطع كل صلة معرفية مع التراث الحضاري ومنع قراءته، بوسائل متعددة، بالتبخيس، والتحقير، ووسمه بأوسام منفرة، وتحميله المسئولية عن التأخر الحضاري والمعرفي، واستهداف اللغة العربية ومحاصرتها وإحلال لغات المحتل في كل مناحي الحياة العامة والخاصة وتزيين ذلك، واستعمال العاميات واللغات القبلية والمناطقية؛ لتسهيل ذلك.

من جهة ثانية تعظيم ثقافة وتراث المحتلين الفكري، وتزيينه في عيون الآخرين، والتحفيز على ذلك بتقديم نماذج محلية من المثقفين والأدباء والفنانين رموزا للمعرفة والتحضر والرقي المعرفي والأدبي للشباب، وتصوير أدبهم الهدام، على أنه ثورة وقطيعة مع التخلف والهمجية التي يمثلها الإسلام وحضارته. وتعقد لهؤلاء مؤتمرات، وندوات، وتوزع عليهم الامتيازات، والشواهد التقديرية، والجوائز الأدبية؛ إغراء لكل غر وطامع.

إلى جانب هذا التصنيع للرموز تُشجع التيارات الأدبية والفكرية الهدامة في المجتمع من العدمية، والعبثية، والتشاؤمية والوجودية…بخلفياتها الدينية واللادينية، وتُغلف في أزهى الصور والأشكال، ويفرغ الأدب والفن والفكر من وظيفته الرسالية الخادمة لمصالح الأمة وحضارتها، لدعاوى شكلية لغوية وفنية؛ نسخة مطابقة عن أدب الانحطاط، طلاسم من الإبهام والغموض، وإياك أن لا تفهم ما يقال مما لا يفهم؛ فتلك خطيئتك ورزيتك. والخطير في الأمر أن هذه الكتابات المنحطة أخلاقا، والمشككة المضللة عقيدة وفكرا، تُقدم للنشء في المدارس والفضاءات الثقافية والفكرية على أنها أعمال فكرية وأدبية عالمية إنسانية، عالمية الغرب الذي يضع المعايير والقيم الجمالية والأخلاقية، ويصنف وفقها الجيد والرديء في محيطه الجغرافي المحصور، ويعممها ويفرضها على العالم بكل ثقافاته وحضاراته المختلفة، والإنساني بمفهوم الغربي الوصي على البشرية، فهو من يحضرها ويعلمها ويقودها للتنوير، ولو تطلب منه ذلك احتلالها وإبادتها عن بكرة أبيها. اقرؤوا لأساطين الفكر والأدب الغربي فأغلبهم إن لم نقل كلهم يصدرون عن تفكير واحد، هو أن الغرب أقدر على إدخال شعوب العالم إلى عصر الحضارة، فهي قاصرة محتاجة للوصاية، والاحتلال والاستئصال عمل مبرر لهذه المهمة النبيلة.

صورة مزيفة قاتمة عن الجانب المشرق من ثقافة الكتاب والمكتبة في حضارتنا، أغفل بقصد من المتداول في المعرفة السائدة، ومنع من تعليمنا العصري، فلا تكاد تخرج بعد عقدين من الزمن من مؤسستك الجامعية بومضة واحدة عن الكتاب والمكتبة في ثقافتنا الإسلامية العربية، إلا ظلالا باهتة ضبابية لا تكاد تهديك السبيل، أو تلك الصورة المقززة عن تلك الكتابات الصفراء الرديئة، من كتب تطبع بعمد للترويج للخرافة والسخف والرذيلة. والأمر المؤسف أن الطالب وفي تخصصه لا يكاد يعرف من الكتب العربية المؤسسة ما لا يتجاوز عدد أصابعه.

الصورة الحقيقة لواقع القراءة والمكتبة في الثقافة العربية والإسلامية على العكس من ذلك تماما، بل لقد كان للمسلمين الفضل على الغربيين  في التعرف على فعل القراءة وثقافة المكتبة، بل الأخطر هو أن التراث الفكري والمعرفي الإغريقي واليوناني كان المسلمون هم الذين نقلوه للغرب، وعرفوهم به، بعد أن كانوا يعيشون في جهل معتم، ومن كان منهم على صلة بالمعرفة فهي كنسية صرفة، مشبعة بالخرافة والأساطير. وراجِعوا مكتبات الغرب (المتحضر) فهي تحتضن مئات الآلاف من المخطوطات المسروقة والمنهوبة من المكتبات الخاصة والعامة الإسلامية، في حملاتهم الصليبية القديمة والحديثة.

الخطير أن هذا التزييف المتعمد؛ خلق لنا واقعا ثقافيا مترديا، له تمثلان اجتماعيان لا صلة له بالمعرفة أو الثقافة، ولا بالتحضر أوالتقدم، بل شكل من النفاق الاجتماعي، والانفصام النفسي، الناتج عن تقليد الغرب؛ من أجل خلق اتزان نفسي، والظهور بمظهر المتحضر. التمثل الأول: هو تمثل لغوي، ففضاءاتنا العامة اجتاحتها موجة من الغُرابية الببغاوية، بالإصرار على الحديث باللغة الأجنبية (الفرنسية عندنا)، إظهارا للرقي الاجتماعي؛ تُحول فيها الطفولة البريئة إلى فعل شبيه بما يفعل القراد لإضحاك الناس، والثاني أدبي فكري، يتمثل في ترديد أسماء مشاهير الكتاب الغربيين من الأدباء والمفكرين، وأسماء كتاباتهم، مع أن هؤلاء أجهل الناس بهذه الأسماء ومشاريعها الأدبية والفكرية، ولم يقرؤوا لهم إلا صفحات أو كتابا أو كتابين، والمؤسف أنها مترجمة، والأشد أسفا أنها في الغالب ترجمات رديئة تلقي بها المطابع لأغراض ربحية، ومن قرأها فعلا وبلغاتها الأصلية فلا يتحدث عنها إلى في مقاماتها وسياقاتها وبإحكام وتمكن، ونقد. وكثير من الأذكياء الأغبياء تجده يحفظ أسماء كتّاب وكتب عن ظهر قلب، يعرضها استظهارا، ويعددها مباهاة، وإذ دعت الحاجة استغل جهل جلسائه وعرض من الأفكار والنظريات ما يوجد إلا في هذه الكتب التي يدعي قراءتها، ويعجز  جلساؤه لا لحيائهم، بل لنفاقهم عن معارضته أو خوفا من الاتهام بأنهم لم يقرؤوها، أو قرؤوها ولم يفهموها.

القراءة ليست فعلا اعتباطيا همه المتعة لذات المتعة، كما قد يفهم السذج، بل هي عند المسلمين فعل حضاري تعبدي، يفتح المولود عينيه وأذنيه على فعل القراءة في محيطه في الصلاة والقرآن اليوميين، صباح مساء، ليل نهار. ويتعمق هذا السلوك الحضاري من خلال الخطاب القرآني بصيغة “اقرأ” وما صاحبها من دعوة للتدبر والتفكير والنظر والتعقل. إنها قراءة مؤسسة بانية، تقوم على الفعل والنتيجة ؛ الفعل “اقرأ” والنتيجة ” ارقى”، مراقي المعرفة والجمال والروح والإنسان، في عوالم غير محدودة، تتجاوز أثرا من المادي الملموس إلى الذهني المدرك إلى الروحي المستشرف لملك الله وملكوته؛ إنها أمة “اقرأ”.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M