سقوط الأندلس وقفة تأملية

08 يناير 2021 08:36

هوية بريس – خالد أزكاغ

لم يتحسر المسلمون على شيء عَبْر التاريخ الإسلامي أكثر من تَحَسُرهم وتأسفهم على فقدان الأندلس (الفردوس المفقودة), تلك الرُّقعة الجغرافية التي تقع في شبه الجزيرة الإيبيرية ( إسبانيا والبرتغال) منذ أن وَلَجَ المسلمون هذه المنطقة من أوروبا وَوَطِئة رِجّلهم هذه البلدة سنة (92ه) وَرَاية الأندلس تُرَفْرِفُ عالياً . عبر المسلمون البحر الأبيض المتوسط من منطقة طنجة إلى الضفة الأخرى التي عُرفت فيما بعد بجبل “طارق” نِسْبَة إلى طارق بن زياد قائد الحملة العسكرية المتجهة من المغرب الأقصى صَوْبَ الأندلس.

بعدما استقر المسلمون في هذه المنطقة بدأ نَجْمَهُم يَبْزُغُ ويتوهج ولم تمر إلا سنوات قليلة على دخول الإسلام إلى الأندلس واستقراره بها حتى أضحت هذه البلاد تُعَدُّ بِحَقٍ من أرقى وأكثر الحواضر الإسلامية, إن لم نقل أرقى بلاد في العصور الوسطى , ظهرت وانتشرت الحِرف والمهن والصناعات وشُيِّدت المساجد والمدارس و الحمامات والحدائق الغناء وتم إيصال الماء عبر السواقي إلى الدروب والأزقة مِمَّا بَوَأ الأندلس لتكون في تلك الحقبة جنَّة الله على الأرض, فهي بلاد رَفَاهٍ واستقرار وأَمْن وَرَغَدٍ في العيش بيد أنه رغم كل هذا الرَّفَاه والثراء الذي وصلت إليه الأندلس في ظل الحكم الإسلامي ورغم التقدم العلمي والحضاري الذي عرفته , فإن سُنَّة الأفول والسقوط لم ترحمها أو تُحَابِيها , بعد مجد تَليدٍ وأصيل جاء السقوط والانهيار.

أُفُول نجم الأندلس وطَرّدِ المسلمين منها جاء نتيجة مجموعة من العوامل والأسباب التي تظافرت وأسهمت في سقوط الأندلس وهذا ما سنحاول الإشارة إليه خلال السطور القادمة بُغية أخذ الدروس والعبر.

من الأسباب والعوامل المباشرة والرئيسية التي عجَّلَتْ بسقوط الأندلس نذكر ما يلي :

العامل الأول: إن العامل الأول والمباشر وراء سقوط الأندلس هو انتشار الترف والثراء والرُّكون إليه بشكل كبير جداً تجاوز حدَّ المعقول  بعد أن  كان همُّ الفاتحين الأولين للأندلس هو نشر الإسلام والدعوة إليه والحث على قيم العدل والمساواة بين الناس والحرص على توزيع الثروات بشكل عَادِلٍ ليستفيد الجميع بدون تمييز أو إقصاء أحَدٍ وهَدْمِ وتَقْوِيضِ النظام الطبقي الذي يميِّزُ الناس ويجعل منهم سادة وعبيد وأغنياء وفقراء , فإن هذه المعاني السامية والراقية التي ذكرتُ سالفاً سرعان ما بدأت تغيب بين  الأندلسيين وتتلاشى ويظهر عكسها تماماً كاستحواذ فئة  قليلة من الناس على كل الثورة وإقصاء الباقي, فغاب الدين والتدين الصحيح في صفوف الناس واقتصر حضور الدين في المساجد وعند بعض الأسر والأفراد الذي ظَلوا على ولائهم للدين الإسلامي الذي أنقذهم من براثن التخلف والوثنية

انتشر في المجتمع الأندلسي الترف الفاحش وتسابق الحكام والناس على شراء الجواري والغلمان و ايضا اعتكف  الحكام والولاة على شرب الخمر ومُنَادَمَةُ الأصحاب وتبرجت النساء وقل الحياء وأصبح الدين غريباً, كل هذه التغيرات جعلت نفسية الأندلسيين تَخْمُدُ إلى الراحة والدِّعَة, لكن في المقابل نجد مملكة قشتالة والأرغون تتربص بالمسلمين وتنتظر الفرصة المواتية للوثوب والثأر ممن سلبهم أرضهم وأدلهم.

العامل الثاني: انتشار الظلم والحيف, كما أشرت سالفاً فإن من المبادئ العظمى التي جاء بها الإسلام وكانت سبباً في انتشاره وقبوله في مجموعة من المناطق التي دخلها هو  ومبدأ العدل الذي دعا إليه الإسلام وحث عليه أتباعه وطبقه الرسول صلى الله عليه وسلم مع نفسه وأهله وعشيرته وخصومه, هذا المبدأ تراجع بشكل مهول ومخيف في الأندلس وتجلى هذا التراجع أولا في ظلم الرعية بكثرة الضرائب والمكوس والجبايات من أجل ارضاء شهوة السلطان الذي يُنْفِقُ هذه الأموال على نفسه وعلى مجالس اللهو التي يقيمها في بلاطه وعلى جَوَارِهِ وغِلْمَانِه. هذه المكوس والجبايات أرهقت كاهل الناس وجعلت الضجر والسأم يتسلل إلى نفوسهم مما جعلهم يثورون وينتفضون في كل حين ويخرجون مع كل خارج على السلطان. وتجلى هذا الظلم أيضا في سَلْب الأراضي الخِصبة وإعطاؤها للوزراء والحاشية على شكل إقطاعات وهدايا لنيل ولائهم وإخلاصهم وتفادي شرِّهم.

العامل الثالث: بروز الخيانة , كان للخيانة دور كبير في سقوط الأندلس ,فمنذ عصر ملوك الطوائف الذين كانوا لا يتحرجون في الاستعانة بملوك النصارى ضد إخوانهم , ودفعهم جَشَعُهم  لتوسيع رقعة ملكهم إلى التحالف مع النصارى ومدهم بالمؤن والرجال للقضاء على بعض الولايات التي لا تخضع لهم . وأكبر شاهد على هذه الخيانة ما وقع مع المعتمد بن عباد ملك ( إشبيلية) عندما تحالف مع النصارى (ألفنسوا) ضد أمير المسلمين ( يوسف بن تاشفين) الشيء الذي دفع هذا الأخير إلى الغضب على المعتمد بن عباد والقبض عليه ونفيه إلى أغمات وسجنه بها حتى وفاته (قبره مازال هناك إلى اليوم) , وظهرت الخيانة أيضا مع أبو عبد الله بن الأحمر (أخر ملوك غرناطة), فقد تحالف أبو عبد الله مع النصارى مماساهم في سقوط غرناطة والسيطرة عليها من قبل النصارى وهو الذي سَلَمَ لهم مفاتيحها وغادر الأندلس إلى فاس.

العامل الرابع: من العوامل الرئيسة التي أسهمت في سقوط الأندلس ظهور التقليد والجمود بين العلماء والفقهاء والمفكرين, من عجيب الأقدار أن بلاد الأندلس كان يضرب بها المثل في حرية الرأي والاجتهاد وتعدُّ منبع التجديد والابتكار وكانت مَحْضِنَ العلماء والفلاسفة والأطباء والفلكيين, ففي مسجد قرطبة على سبيل المثال كانت مجالس خاصة بالأدب والفلسفة والتاريخ والطبيعيات أي لكل فن من هذه الفنون عُشَاقُهُ وطلبته والمهتمين به, للأسف الشديد تبدل كل هذا وحل محله التعصب والجمود فاقتصر الفقهاء على تدريس مذهب مالك والقضاء به خاصة المتأخرين منهم ونُبِذَتْ الفلسفة وتم الإفتاء بتحريمها واحراق كتبها ,فأحرقت كتب الغزالي وابن رشد… هذا التراجع الثقافي والفكري والتهميش الممنهج للعلماء والمفكرين واقصائهم والتقليل من قدرهم ومكانتهم واتهامهم بالكفر والظلال هو الذي أسهم في سقوط الأندلس في هاوية التخلف والجمود, فنتج عن كل هذا غياب المصلحين الحقيقين وفتح المجال  أمام أَنْصَافْ العلماء والفقهاء والمتزلفين إلى السلطان بأن يظهرو ويبروز على حساب دعاة الحق.

العامل الخامس: (التفرق والتشرذم ) تعد الأندلس بحقٍ البلاد الوحيدة التي تعايش فيها الناس فيما بينهم بغض النظر عن جنسهم أو لونهم أو دينهم لكن ذلك لم يدم للأسف فبدأت تطفوا على السطح ظاهرة التعصب سواء للقبيلة أو الجنس أو الدين, فاحتدم الخلاف بين عرب الجنوب (اليمن) وعرب الشمال(مُضَر) وبين العرب والأمازيغ وبين المسلمين والنصارى أو اليهود و, وبين الفقهاء والفلاسفة, هذه الخلافات المذمومة سرعان ما قسمت الناس وجعلتهم فِرقاً وشِيَعاً كل فريق بما لديهم فرحون, منذ تلك اللحظة بالذات بدأ نجم الأندلس يغيب وينمحي , وهذه النقطة هي التي ركز عليها “فردينالد و إيزبيلا” في عقد التحالفات مع بعض المسلمين ضد البعض بُغية إضعافهم وغلق الباب أمام اجتماعهم من جديد, فَطَفِقَتْ مُدُن الأندلس تسقط الواحدة تِلْوَ الأخرى في يد النصارى بشكل متتابع ( قرطبة, إشبيلية, بَلَنْسِية, مُرْسِيَةَ, وغرناطة).

العامل السادس: سُنَّةُ الله تعالى في الدُّول, فالدول تُشبه الإنسان في نموه وترعرعه , يبدأ طفلا ثم ينتقل شاباً يافعاً وقوياً ثم شيخاً ضعيفاً كذلك الدول تمر عبر هذه السُنَّةِ , أولاً مرحلة النشوء والتأسيس ثم تنتقل لتصبح قوية وناضجة وفي الأخير مرحلة الضعف هذا تماماً ما حصل مع الأندلس فهي سُنَّة الله التي لا تُحَابي أحداً من أخذ بعوامل النهوض والرُّقي تقدم ومن تهاون وتخلى عنها سقط وضَعُفَ.

هذه هي أبرز العوامل التي كانت وراء سقوط الأندلس وطرد المسلمين منها سنة 1492ه بعد حصار طويل لغرناطة ( أخر معقل للمسلمين بالأندلس) من طرف فردينالد وإيزبيلا, فقد انتشر الجوع ونقصت المؤن من داخل أسوار غرناطة وفي الأخير وافق  أبو عبد الله الصغير على تسليم غرناطة والخروج منها.

وَقَفَ أبو عبد الله مع ثلة من فرسانه على سفح جبل الريحان ومرَّ عليه فردينالد وإيزبيلا فتقدم إليهم وسلم لهم مفاتيح غرناطة ثم شرع يدرف الدموع , فلمّا رأته أمه ” عائشة الحرة” يبكي قالت له قولتها الشهيرة:” ابْكِ مثل النساءِ مُلكاً مُضاعاً لم تُحافظ عليه مْثل الرِّجالِ” وسُمِيَ ذلك المَوْضِعُ “بزفرة آخر عربي” وهو معروف إلى اليوم ويتم زيارته من جميع أنحاء العالم.

بمجرد أن سقطت غرناطة ظهرت أزمة المُرِسْكِينَ ومحاكم التفتيش والشروع في اجتثات التراث الإسلامي والحضاري من الأندلس وتحويل مساجدها إلى كنائس ولا غالب إلا الله

أسأل الله تعالى النفع والفائدة, وتحقيق المقصد والغاية.

وصلى الله على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين, وعلى آله  وصحبه وسلم, والحمد لله ربِّ العالمين.

آخر اﻷخبار
1 comments

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M