سلسلة مقالات نقدية حول المنطق المقالة الثانية عشرة: موقف العلامة الأمين الشنقيطي من المنطق (2)

16 يناير 2025 19:27

هوية بريس – د.محمد أبو الفتح

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

أما بعد؛ فقد تَقَدَّمَ مَعَنَا في المقال السابق أنّ العلامة الشنقيطي رحمه الله أَلَّفَ مذكرةً مختصرة في المنطق بغرض الرّدّ على المنطقيين والمتكلمين بسلاحهم، وَرَدِّ شُبَهِهِم التي أثاروها بجنس مصطلحاتهم، ونقض أقيستهم  التي أعملوها في تعطيل الصفات بنفس طرائقهم، وفي ذلك يقول الشيخ رحمه الله: “… واعلم أنّ نفس القياس المنطقي في حدّ ذاته صحيح النتائج، إِنْ رُكِّبت مقدِّمَاتُه على الوجه الصحيحِ صورةً ومادةً مع شروط إنتاجه فهو قطعي الصحة، وإنما يعتريه الخلل من جهة الناظر فيه، فيغلط، فيظن هذا الأمر لازمًا لهذا مثلًا، فيستدل بنفي ذلك اللازم في زعمه على نفي ذلك الملزوم، مع أنه لا ملازمةَ بينهما في نفس الأمر ألبتّة. ومن أجل غلطه في ذلك تخرج النتيجةُ مخالفةً للوحي الصحيح؛ لغلط المستدِل، ولو كان استعماله للقياس المنطقي على الوجه الصحيح لكانت نتيجتُه مطابقةً للوحي بلا شك؛ لأن العقل الصحيح لا يخالف النقل الصريح”([1]).

قلت: مقصود الشيخ -رحمه الله- بيان وجه الخلل عند المناطقة والمتكلمين، وهو غلطهم في استعمال القياس المنطقي، وأنه لولا ذلك لكانت نتيجة قياسهم موافقة للوحي، ولم تُفض بهم إلى تعطيل الصفات؛ وذلك لأنّ العقل الصحيح لا يخالف النقل الصريح، فالخلل إذاً في القائس (مستعمل القياس) لا في القياس نفسه…

ولكن مع ذلك لا ينبغي أن يُفهم من كلام الشيخ المبالغةُ والتهويلُ في تعظيم القياس المنطقي -كما هو صنيع المناطقة والمتكلمين- الذين زعموا أنّه لا سبيل للوصول إلى الحق إلا باستعمال القياس المنطقي، وأنّ ما سواه من القياس لا يفيد القطع، وأنّه يعصم الفكر من الزلل…

وقد تقدّم معنا في هذه المقالات من كلام شيخ الإسلام ما يكشف عَوَارَ القياس المنطقي، ويُبرز عيوبه، وعرفنا أن من جملة ما انتقده شيخ الإسلام على القياس المنطقي:

  1. أنَّه يمكن الاستغناء عنه وعن أشكاله الكثيرة بالبداهة والذكاء الفطري، وأن ما ذكروه من “كثرة هذه الأشكال وشروط نتاجها تطويل قليل الفائدة، كثير التعب، فهو ‌لحم ‌جَمَلٍ ‌غَثٍّ، عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ وَعْرٍ، لَا سَهْلٌ فَيُرْتَقَي، ولا سمينٌ فَيُنْتَقَل؛ فإنه متى كانت المادة صحيحة أمكن تصويرها بالشكل الأول الفطري”([2]).
  2. أنَّ ما يُدْرَك بالقياس المنطقي من التصديقات والحقائق يمكن إدراكه من غير طريقه، و” أن ما ذكروه من صور القياس ومواده -مع كثرة التعب العظيم- ليس فيه فائدة علمية؛ كل ما يمكن علمه بقياسهم المنطقي يمكن علمه بدون قياسهم المنطقي. وما لا يمكن علمه بدون قياسهم لا يمكن علمه بقياسهم”([3]).
  3. أَنَّ القياس المنطقي مبني على قضايا كلية، والكليات إنما تُعرف كليتها بقياس الغائب على الشاهد، أي: بقياس التمثيل، وهذا يعني أن القياس المنطقي الشمولي مبني على قياس التمثيل، فكيف يُدَّعَى أنه يفيد القطع واليقين، بينما القياس التمثيلي يفيد الظن ؟! وكيف يُرَجَّحُ الفرع على أصله في قوة الدلالة؟!([4])

والصحيح هو عدم التفريق بينهما، وأن “تفريقهم بين قياس المشمول وقياس التمثيل بأنّ الأوّل قد يفيد اليقين، والثاني لا يفيد إلا الظّنّ، فَرْقٌ باطل. بل حيث أفاد أحدهما اليقين؛ أفاد الآخر اليقين. وحيث لا يفيد أحدهما إلا الظن ؛ لا يفيد الآخر إلا الظن”([5]) .

  1. أَّنَّ قياسهم قاصر عن أشرف المطالب: وذلك لأنَّ “قياس المناطقة مبني على الكليات، والكُلِّيُّ عندهم هو: “مَا لَا يَمْنَعُ تَصَوُّرُهُ مِنْ وُقُوعِ الشَّرَاكَةَ فيه”، فالكليات هي أمور مشتركة، فلا يمكن التوصل بها إلى إثبات ما يختص به الله تعالى من صفات الكمال التي لا يشاركه فيها أحد. وإنّما يَتَوَصَّل إلى ذلك عن طريق الوحي… وكذلك لا يتوصل بالكليات إلى ما يختص به الرسول ﷺ من النبوة ونزول الوحي، لأن تلك الخصائص غير قابلة للاشتراك بين جميع الناس… فالقياس المنطقي أمر كلي لا يحصل به العلم بما يختص به الرب، وما يختص به الرسول، إلا بانضمام علم آخر إليه.. “([6]).
  2. أنَّ شريعة الإسلام مستغنية عن القياس المنطقي: وذلك لـ “أن شريعة الإسلام ومعرفتها ليست موقوفة على شيء يُتَعَلَّم من غير المسلمين أصلا، وإن كان طريقا صحيحا”([7]).
  3. أن القياس المنطقي خلافا لما يزعمه المناطقة ليس معيارا لمعرفة صحيح الأدلة من فاسدها.

قال شيخ الإسلام: ” …ولا يقال: إن قياسهم يعرف صحيح الأدلة من فاسدها؛ فإن هذا إنما يقوله جاهل لا يعرف حقيقة قياسهم، فإن قياسهم ليس فيه إلا شكل الدليل وصورته، وأما كون الدليل المعين مستلزما لمدلوله، فهذا ليس في قياسهم ما يتعرض له بنفي ولا إثبات. وإنما هذا بحسب علمه بالمقدمات التي اشتمل عليها الدليل، وليس في قياسهم بيان صحة شيء من المقدمات ولا فسادها”([8]).

وقال رحمه الله في شأن المنطق : “… ودعواهم أنه آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن أن يزل في فكره دعوى كاذبة بل من أكذب الدعاوى”([9]).

  1. أن القياس المنطقي لا يعصم الفكر من الخطإ كما يزعم أهله:

قال ابن تيمية: “وما زال نُظَّار المسلمين يعيبون طريق أهل المنطق ويبينون ما فيها من العي واللكنة وقصور العقل وعجز النطق ويبينون أنها إلى إفساد المنطق العقلي واللساني أقرب منها إلى تقويم ذلك”([10]).

ومما يدل على صدق كلام شيخ الإسلام أن القياس المنطقي لم يعصم واضعه أرسطو من الكفر والضلال، ولا عصم المشتغلين به من المعتزلة والاشاعرة من الوقوع في تعطيل الصفات، ولا عصم المناطقة من زلل الفكر، وإذا كانوا قد أخطؤوا في تطبيق قياسهم المنطقي فعطلوا الصفات -كما بين العلامة الشنقيطي- مع أنهم هُمْ أساتذة المنطق والمؤلفون فيه، فمن يَأْمَنُ عَلَى نفسه الغلطَ في تطبيقه بعدهم؟!

والحاصل أن العلامة الشنقيطي لم يبالغ في تزكية القياس المنطقي كتهويل المناطقة، أنه: لا يتوصل إلى معرفة الحق إلا من طريقه، وأن المنطق معيار العلوم كلها، وأنه لا وثوق بعلم من لم يتعلمه، أو هو علم تحصل به العصمة من الخطإ…

بل صرح -رحمه الله -في مقدمة مذكرته:  “… أن المنطق لو لم يترجم إلى العربية، ولم يتعلمه المسلمون؛ لكان دينُهم وعقيدتُهم في غنىً عنه، كما استغنى عنه سلفهم الصالح …” ([11]).

وإنما خلاصة كلامه أن القياس المنطقي إذا سَلِمَتْ مُقَدِّمَاتُه، وأُحْسِنَ إعماله، فإنه لا يتعارض مع دلالة الوحي بل يُوَافِقُه.

وهذا لا يتنافى مع ما ذكره شيخ الإسلام من كونه كثير التعب، وأن فيه تطويلا قليل الفائدة، وأن ما يوصل إليه من الحق يمكن الوصول إليه من غير طريقه بِكُلْفَة وجهد أقل.

قال شيخ الإسلام: “… وبعض الناس يكون الطريق كلما كان أَدَقّ وأخفى وأكثر مقدمات وأطول كان أنفع له؛ لأنّ نفسَه اعتادت النظر الطويل في الأمور الدقيقة، فإذا كان الدليل قليل المقدمات، أو كانت جلية؛ لم تفرح نفسه به. ومثل هذا قد يُستعمل معه الطريق الكلامية المنطقية وغيرها لمناسبتها لعادته، لا لكون العلم بالمطلوب متوقفا عليها مطلقا؛ فإن من الناس من إذا عرف ما يعرفه جمهور الناس وعمومهم، أو ما يمكن غير الأذكياء معرفته؛ لم يكن عند نفسه قد امتاز عنهم بعلم، فيجب معرفة الأمور الخفية الدقيقة الكثيرة المقدمات. وهذا يسلك معه هذه السبيل([12]).

ــــــــــــــــــــــــــ

([1]) “آداب البحث والمناظرة” (ص6-7 ).

([2]) “الرد على المنطقيين” (ص 342-343).

([3]) “الرد على المنطقيين” (ص 292).

([4]) هذا معنى كلامه في “الرد على المنطقيين” (ص 156) .

([5]) الرد على المنطقيين ص 255.

([6])” الرد على المنطقيين” (ص 401 فما بعدها).

([7]) “الرد على المنطقيين” (ص 302-303).

([8]) “الرد على المنطقيين” (ص 296).

([9]) “الرد على المنطقيين” (ص 223).

([10]) “الرد على المنطقيين” (ص 237).

([11]) “آداب البحث والمناظرة” (ص 6 ).

([12]) “الرد على المنطقيين” (ص 299).

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M