ظاهرة الهشاشة النفسية

21 مايو 2023 19:45

هوية بريس – أيوب بولعيون

يعتبر   كتاب:  “الهشاشة النفسية، لماذا أصبحنا أضعف و أكثر عرضة للكسر؟”  من الكتب القيمة و الجديرة بالقراءة و التأمل،لأنه ببساطة يعكس مرايا ذواتنا الفردية و الجمعية، و يشخص مشكلة حقيقية ضاربة بجذورها في كيان الاجيال الجديدة و في روح عصر سائل هش فقد كل معاني الصلابة و التماسك التي تستلزمها طبيعة  الحياة . هي مشكلة الإنسان النابعة من نمط التربية بالأساس، بحيث يتحطم و ينهار بأية كلمة في موضع النقد أو نزاع عابر، و بأي موقف يومي عادي تفرضه تسلسل الأحداث، أو أية تجربة حياتية  في علاقاته العاطفية أو المهنية أو الاجتماعية… إنسان فارغ  من الداخل لا يملك قدرة التحمل و الصبر و المرونة، ضيق المنظور، يدعو للسعادة المثالية و الراحة النفسية دائما، يمجد الذات و المشاعر، يخشى من الألم و المسؤوليات، يستنجد في كل مرة يحس فيها بالحزن كشعور طبيعي يلازم دورة الحياة بالطبيب النفسي و العقاقير و العلاج الفوري مؤديا بذلك دور الضحية، ناسيا أو متناسيا طبيعة الحياة الواقعية البعيدة عن الأوهام و الدلال المفرط الذي لا ينتج إلا ضعاف النفوس، هؤلاء الذين تقتات على ضعفهم النفسي و الفكري  الكثير من  المؤسسات التجارية  . هو ذا الموضوع المحوري للكتاب.

الكتاب لصاحبه اسماعيل عرفة، صيدلي و مؤلف مصري له عدة تقارير منشورة، يعمل كباحث و مترجم له أربعة كتب تندرج ضمن مجالات مختلفة،علم النفس و الفلسفة و المنطق.

الكتاب الذي بين ايدينا صدر عام 2020، من منشورات مركز دلائل،يقع على طول 200 صفحة و ثمانية فصول تعالج و تقارب مشكلة نفسية بالأساس من عدة جوانب و تقدم إضاءات مهمة للتعرف عليها و معرفة أعراضها و مظاهرها و أسبابها قصد فهمها و محاولة التخفيف منها و تجاوزها بالتوعية و تغيير الأفكار و الرؤى و أساليب التربية.

يمكن تقديم قراءات مختصرة للفصول على النحو التالي:

الفصل الأول: يستهل الكاتب هذا الفصل ببعض ردود الفعل إزاء بعض  الوقائع و المواقف الحياتية العادية التي تعكس مدى هشاشة جيل رقائق الثلج على حد وصف بعض المحللين، ردود تبين غياب الصلابة و المرونة في مقابل تهويل و تضخيم أي شيء فيما يسمى بعلم النفس ب pain catastrophizing،هم جيل لم يتمرسوا على المسؤوليات و الصعاب منذ طفولتهم و يُنظر إليهم دائما أنهم في حاجة إلى رعاية مفرطة و حماية من أي ضرر يهددهم! ما جعلهم عرضة للكسر و الدمار، فهي إذن مسألة تربية كما يؤكد المؤلف، يشارك فيها الكبار الذين لا يحسنون رعاية أبنائهم بالوسطية و الاعتدال. مبينا دعوة الشريعة الاسلامية إلى الشجاعة و التحلي بالصبر و المرونة في مواجهة عقبات الحياة لأداء الرسالة.

**

الفصل الثاني: حول موضوع الهوس بالطب النفسي و اعتباره الطريق الوحيد و الملجأ و المنقِذ لاعادة الحياة و  التوازن  لكل من باغته حزن أو ألم أو موجة سلبية عابرة،  كرد طبيعي لتجارب  الحياة  و صدماتها المتتابعة، معتبرا ذلك ثقافة عامة خطيرة تكتسح المجتمعات  و ليست حالة فردية استثنائية. هو هروب جماعي تراجيدي إلى العقاقير و الأدوية بحثا عن الراحة  العاجلة و نسيان أنجع الوسائل للتشافي ( الزمن، الأصدقاء،التنزه.. العمل،الصبر…). مع تحديد الكاتب  لترسانة من  المفاهيم التي تحتاج  للتعريف والتوضيح  “كالصدمة و الحزن و الاكتئاب،  السواء   النفسي، الصحة النفسية،” و محاولة وضع حدود فاصلة بين ما هو عادي طبيعي و ما هو خطير يستدعي التدخل العلاجي، رغم وجود صعوبات أثناء هذه العملية خصوصا بين مفهومي السواء النفسي و الاضطراب النفسي كما أكد بذلك الن فرانسيسكو. دون أن ينسى الكاتب دور شركات الأدوية في ترويج الأمراض و حلولها السريعة، خدمة لغرضها التجاري الربحي المحض ضاربة عرض الحائط القيم و الأخلاق و حرمة الإنسان.

**

الفصل الثالث: يعالج الكاتب في  هذا الفصل إشكالية الفراغ العاطفي الذي يعني في إحدى صوره الخفية الصادمة ضياع الغاية و المعنى و خواء قيمي معرفي، يُترجم إلى هشاشة داخلية تجعل صاحبها قلقاً، في احتياج دائم للتعلق بالأشياء و الأشخاص، موهما نفسه “بحب سائل “بلغة زيغمونت باومان و مشاعر درامية من نسج خياله، فراغ يزيد من حدته الأفلام و الروايات و الشرود  ليولِّد إنسانا لا يفكر إلا في “الفراغ” مُشكلته المستعصية،   مستنجدا بكل ما يمكنه  أن يسد به هذا العدم  المخيف ، هذا دون أن يكلف نفسه عناء  التساؤل عن أسباب الفراغ و الضياع الحقيقية،التي يذكر منها الكاتب: غياب الدفء الأسري، ضعف العلاقة مع الله  سبحانه وتعالى، ضعف تقدير المرء لنفسه و قيمته،  البطالة و غياب العمل، ضعف معرفة الإنسان بنفسه و ما عليه من واجبات، غياب الثقة في إمكانيات الفرد و مهاراته، العزلة و الانسحاب من المجتمع و الاستغراق في علاقات تتحكم فيا أزرار إلكترونية بدل علاقات واقعية صحية أساسها الأخذ و العطاء و التعاون.

كما أشار المؤلف إلى ظاهرة المتاجرة بهذا الفراغ و الجوع المستبد بالشباب تحت يد أشخاص أطلقوا على أنفسهم خبراء العلاقات و مدربو التنمية البشرية و الصحة النفسية، اعتمادا على مهاراتهم في رص الكلمات و تقديم نصائح عامة  بدهية في كل مناسبة بدون ملل، بأسلوب جذاب،  يجعل منها سلعة غالية جدا يُدفع عليها  النقود و يعلق عليها آمال الخلاص.

**

الفصل الرابع: خصص الكاتب هذا الجزء  للحديث عن مدى تأثير السوشال ميديا على حياة الإنسان، باعتبارها أصل الشرور و المصائب التي تعزز هشاشتنا النفسية موضحا ذلك في خمس نقاط، نذكرها كالتالي:

-تعزيز النرجسية: و ذلك من خلال المواقع التي تشكل مرآة تعكس وجوهنا و نعلق عليها أماني التقدير و الإعجاب عبر نشر الصور و انتظار الجمجمات و المشاركات، ( انستغرام، فايسبوك، المنتديات،تويتر..) إلى جانب ظاهرة السيلفي كنقلة نوعية في تاريخ النرجسية حسب الفيلسوفة الزا جودار، فالكل يدور في فلك “الأنا “. و لا أحد يهتم بالآخرين و القضايا الكبرى.

* تقديس التغيير: و ذلك باعتبار التغيير غاية و ليس وسيلة للترقي و التكامل و إثراء حياة الفرد، حيث أصبح الإنسان مهووسا بهاجس “الجديد”، في كل دقيقة و ساعة، كل شيء لا يرضيه،لا يريحه  و هو ما تعززه الاشهارات و الإعلانات التجارية. ما يضيع قيمة الالتزام و استثمار ما هو موجود في حياتنا بعيدا عن اللهاث وراء كل اندفاع عاطفي  تحت ذريعة التغيير للأفضل!

* ضياع التركيز: إحدى الآثار السيئة لهذه السرعة و الرغبة في التغيير في كل وقت، فالتشتت الذي تحدثه فينا هذه الأجهزة الذكية تفقدنا مساحات التأمل الذاتي و التفكر في هويتنا و مشاكلنا و طموحاتنا و أخطائنا،مشاعرنا…. َوبالتالي عدم معرفتنا العميقة بذواتنا، في مقابل سيادة القلق و الضغط و استهلاك طاقة الانتباه بالملهيات التي لا تنتهي.

* معايير وهمية: تفرغ الكاتب لابراز مدى تأثير  السوشل ميديا من ترويج معايير خاطئة للنجاح عند الناس، مرتبطة بمدى حصد المتابعين و ارتفاع نسبة المشاركة و التعليقات و التفاعلات الايموجية، و هو ما يجانب فلسفة النجاح المرتبطة بواقع الحياة الذي يحتضن عدة متغيرات من فرد لآخر تحكم  مستوى النجاح المنشود.

* أفكار من ورق: هي أفكار ينتجها هذا الكائن البلاستيكي، الذي فقد هويته أمام هذه النزعة في كسب الآخرين و محاباتهم و إثارة اعجابهم للظهور بصورة مقبولة على حساب الوجود الذاتي، خوف من الحظر و فقدان اللايكات و الجمهور العريض المساند، هي أمور تصنع نوعا من التماهي و التكيف مع أي موقف أو فكرة او حدث اجتماعي، لغة عامة مراوغة تمنع صاحبها من التعبير عن موقفه و شعوره و رأيه الحقيقي، و هكذا تضيع الكثير من القيم في أزقة إرضاء الآخرين!.

**

الفصل الخامس: ينتقد الكاتب عقلية تعزيز اللاحكم السائدة في عصر الفردانية و التسيب الأخلاقي تحت شعارات:”اهتم بنفسك و اتركني افعل  ما يروق لي، أنا حر، دع الناس تفعل ما تريد … ” و غيرها من اقاويل تنم عن غياب القابلية للانصات و مواجهة الذات،مشيرا إلى خطورة هذه الثقافة المدمرة التي تنتهك الحدود و تُفقد البوصلة الأخلاقية، مؤكدا أن التقييم هو من خصائص الطبيعة البشرية و غياب النصيحة و التوجيه سيحول دون تحقيق حياة إنسانية منضبطة تنشد الخير و الفضيلة و تستقذر الشر و الرذيلة. فما يصدره الآخر عنا من ملاحظات أو أحكام؛ قد تكون حقائق في شخصياتنا، وجب أخذها بعين الاعتبار لقراءة ذواتنا قصد تصويبها و تطويرها بما يوافق الطبيعة الإنسانية السوية. و أوضح الكاتب ضرورة التمييز بين إصدار الأحكام الصائبة و إسداء النصيحة و النهي عن المنكر و بين إقصاء الآخرين و تحقيرهم بأساليب لا أخلاقية ما يجعلها فضيحة تنفر الآخرين بدل نفعهم.

**

الفصل السادس: يتفرغ الكاتب تماشيا مع ظاهرة الهشاشة للحديث حول سطوة المشاعر على حياة الإنسان، هذا الأخير المغلوب  الذي أصبح عبدا لمشاعره المتقلبة المتدفقة و القصيرة الأمد، مشاعر أضحت “أصناما” تُعبد و تُتبع، تملي على صاحبها التوجيهات التي لا تقود إلى أية وجهة!. إنها أيديولوجيا فتاكة يتم استثمارها على أكثر من مستوى: اشهاري، سياسي،اقتصادي، طبي، لجني الأرباح و تطويع الإنسان مع علم مسبق أن أهم مدخل للتحكم في الإنسان و تنويمه  هو تأجيج مشاعره و الرفع من وتيرتها، فالافلام السينمائية و المسلسلات يتم صياغتها انطلاقا من هذه المادة الحيوية(المشاعر)،و يتم الانتقال من شعور لآخر بشكل فجائي خطير ما يخلق إنسانا متقلبا لا يستقر له حال، يبحث دوما عن موقد تشتعل عليه أحاسيسه ( صورة فايسبوكية، ايموجي، برنامج صراحة…)  و هذا الهوس بما يحقق لنا متعة عابرة لحظية يؤثر تأثيرات سلبية على العلاقات البعيدة الأمد و كل ما يقتضي الصبر و التحمل (الزواج كميثاق غليظ نموذجا)

**

الفصل السابع: استمرارا في النقد لأجل توعية القارئ بمخاطر غياب العقل و الحكمة يسلط الضوء على ” مخدرات الشغف” باعتباره الوتر الذي يعزف عليه كل من يرتدي عباءة المحفز و المدرب/الكوتش    بعنوان “اتبع شغفك و حقق كل ما تريد، انهض الآن! “. هذا المنطق العاطفي  هو ما لا يتوافق مع منطق الواقع كما يقرر الكاتب اسماعيل عرفة، فهو لا يأخذ شروط  و إمكانيات الأفراد المختلفة  و عقبات الواقع و ضرورة تقديم الأولويات على الثانويات إلى غيرها من مستلزمات النجاح الحقيقي بعيدا عن الخطابات التحفيزية الكاذبة التي تجعل من الشغف كشعور عاطفي داخلي شرطا أساسيا للنجاح في الحياة. هي بروباغاندا خطيرة تصنع الفشل في نفوس الشباب، لأنها تشوه قيمة العمل الحقيقي و تبتذل النجاح معتبرة إياه عصفورا يمكن الإمساك به إذا تابعته بشغف! مقابل هذا يقدم الكاتب نموذج ايكيجاي الياباني لتحقيق التوازن الداخلي و ضمان العيش.

**

الفصل الثامن: في الفصل الأخير يطلعنا الكاتب على مفتاح النجاة و الهروب  الماكر لهذا الإنسان اللامسؤول، الذي يعلق تصرفاته و سلوكاته و جرائمه البشعة على عمود هش و تحت مسميات ” المرض النفسي و الاضطراب النفسي،الظروف القاسية،…” و ما شابه ذلك، و هي مصطلحات فضفاضة غير دقيقة،  ما يؤدي إلى التساهل شيئا فشيئا  مع الذنب و الجريمة و التماهي مع الشر، بالتالي بزوغ بعض الظواهر الشاذة و الغريبة من قبيل” التعاطف الجماهيري الرهيب مع المجرم و الشرير ” و” الهجوم على الحكم و المحاكمة ” الدفاع عن المذنب المغلوب على أمره!، دعوات لرفع التهمة بعد “تفهم”! حالة هذا المجرم، ما يخلق “إنسانا جديدا” فقد بوصلته الأخلاقية و ارتمى لاشعوريا في حضن إيديولوجيا يتم ترويجها عبر الأفلام الغربية بذكاء، بحيث يتم دفع المشاهدين خطوة، خطوة عبر مسار الفيلم للتعاطف مع المجرم و الشفقة عليه بعد معرفة  ظروفه: طفولته، وضعه الاجتماعي و الاقتصادي الاسري، حالته

النفسية. ( فيلم الجوكر 2019 نموذجا)، و فوق هذا تعدى تقديس هذه الهشاشة النفسية و الإنصياع لها إلى اتخاذ مواقف إلحادية خطيرة  يسوقها الكاتب. في نهاية الفصل يوضح المؤلف الحالات الاستثنائية التي ترفع فيها المسؤولية عن الإنسان من وجهة نظر الشرع، و هي حالات محددة منطقية و ليست تابعات للهوى و المزاج.

فالإنسان محاسب كما تؤكد القاعدة و العقل مناط التكليف و  المسؤولية، هو ذا الأصل في المجتمع البشري و الإنساني

و للإشارة فإن المؤلف  على طول الكتاب ظل يقتبس الأفكار من مختلف الكتب و المراجع لشتى المفكرين و العلماء من مختلف المجالات و الأزمنة  الذين كتبوا و تركوا الأثر و نذكر على سبيل المثال أبو حامد الغزالي، زيجمونت باومان،ابن القيم، ألان دو بوتون، ابن قدامة، الزا جودار، فيكتور فرانكل،ابن حزم، غوستاف لوبون … و غيرهم كثير إلى جانب مراجع أخرى كثيرة باللغة الأجنبية أضاءت الكتاب من جوانب عدة، ما جعل الكتاب غنيا يضفي عليه مصداقية الطرح و خصوبة الموضوع.

الكتاب هو إضافة ثمينة نوعية لمكتبتنا العربية، لما تطرق له بالنقد الجريء و المساءلة لكثير من أمور تبدو و كأنها عادية جدا تتماشى مع طبيعة عصر تتقلب فيه المفاهيم و التصورات و يتوارى فيه الإنسان مقابل بزوغ كائن آخر من صنع عصر الهشاشة و السيولة و الفردانية المتوحشة

هو كتاب يستحق أن يقرأ من الجميع و تعاد قراءته من جديد لأنه ببساطة ينبهنا إلى خطورة الطريق و يدعونا كافة أن نعيد التفكير فيما يجري هنا.

 

شكرا لاسماعيل عرفة على الكتاب القيم، و هذه القراءة السريعة لن تفي الكتاب حقه و لن تحيط بجميع الأفكار و الجوانب.

 

 

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M