عاشر رمضان: حينما بكى الشعب معشوقه، محمد الخامس

02 يوليو 2016 04:40
عاشر رمضان: حينما بكى الشعب معشوقه، محمد الخامس

ذ. عبد الله لعماري.

هوية بريس – السبت 02 يوليوز 2016

في تاريخ الدول والشعوب، وفي الغالب الأعم، يكاد يندر الولاء المؤسس على الحب والإخلاص بين الحكام ومحكوميهم،        إن لم يكن منعدما مبتوتا، فعلاقة الحكم تنبني على التغلب والتسلط، وخضوع المحكوم بالرغب والرهب، ولكن التاريخ المغربي عرف فلتة استثنائية نموذجية قل نظيرها، في العلاقة بين الشعب المغربي وحاكمه الملك محمد الخامس، فقد كان معشوق الجماهير الشعبية قاطبة ومحبوب النخبة والرموز والأعيان.

ولذلك كان العاشر من رمضان، قبل خمس وخمسين سنة خلت، يوم نحيب جماعي انخرط فيه المغاربة عن بكرة أبيهم، نساء ورجالا وأطفالا وشيوخا، حتى لم تبق مقلة واحدة لم تذرف الدمع الهتون على  الفقد المفاجئ للرجل الذي سكن في حنايا أفئدة المغاربة، الرجل الذي تحول بحكمة من الله وسر من أسراره، من سلطان حاكم في الأرض إلى سلطان متحكم في الأرواح والمهج والقلوب، حتى دعاه الشعب المغربي ببطل التحرير وأب الأمة.

وفي حياة الملك محمد الخامس آيات وأسرار عظائم من الله الحكيم، فلم يسبق للأمة المغربية منذ أزل التاريخ، منذ أن كان قبائل أمازيغية في بطن الزمن، ومنذ أن تأسست دولتها بالإسلام تحت ادريس الأول، أن استبيحت إذلالا واستعبادا واستعمارا كما استباحها واغتصب أرضها المحتلون الفرنسيون والإسبان، وشاء الله أن يكون محمد الخامس هو الملك الذي انعقد على يديه تحرير البلاد والعباد.

وفي توليته الحكم وتربعه على عرش الملك أعجوبة من أعاجيب القدر، فقد توفي أبوه السلطان يوسف، والسيطرة الاستعمارية الفرنسية هي من يتحكم في مصير البلاد والعباد، فالدولة والقصر في إسار جبروتها، والشعب تحت نير طغيانها وتسلطها، وقد كان للسلطان يوسف أبناء كبار تمرسوا معه على الإدارة والحكم في ما كان يسمح به ويتاح، بما يجعلهم مؤهلين لاستخلافه، ولكن السلطة الاستعمارية، وهي الآمرة الناهية، دفعت في اتجاه تزكية الابن الأصغر الذي كان دون سن رشده، عن خبث ومكر وشيطنة، تقصدا منها أن يكون الجالس على العرش، تحت الوصاية والحجر كي يتسنى لها أن تسخره وفق أهوائها ومخططاتها في مزيد من غصب البلاد واستنزافها وسلخها عن دينها وهويتها، ومزيد من استرقاق الشعب وذبح العباد.

ولكن السلطة الاستعمارية أرادت شيئا وأراد الله شيئا آخر، وقد مكروا مكرهم، وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال، ولكن مكر الله كان أكبر، وهو خير الماكرين، فالفتى الذي حسبته الإدارة الاستعمارية غرا مطواعا، تتحكم فيه دمية بين يديها، خيب آمالها وتحول إلى سلطان رمز متيقظ الوعي بأحابيل الاستعمار، متسعر العناد والرفض في وجه كل مخطط يمسخ الوطن ويعبث بسيادته ومصالحه، وهكذا أصبح محمد الخامس ضمير الوطنية من داخل مستعمرة القصر، يخوض شجاعة الموقف بالإضراب والرفض عن توقيع الظهائر الشريفة والقوانين متى ما ظهر له فيها إضرار وحيف بالبلاد وإجحاف في حق الشعب، وإمعان في استعباده.

وفي الوقت الذي كانت جيوش الاستعمار تخوض حربا ضارية ضد الانتفاضة  المسلحة للقبائل المقاتلة في عمق الجبال وفي فيافي الصحاري، وكانت سلطات الاستعمار تخوض حربا أخرى ضد الحركة الوطنية السياسية التي انبعثت من حلق علماء القرويين وتمددت عبر المدن والحواضر، أصبح عليها أن تواجه من داخل القصر، ومن دواليب الإدارة فيه، حركة من التمرد والعصيان والاحتجاج يمارسها الفتى السلطان الجالس على العرش، ويفرض من خلالها موقفه وإرادته.

لقد فاجأ محمد الخامس دهاقنة الاستعمار الذين طمعوا في تزكيته للجلوس على العرش، طمعهم في احتوائه وتدجينه، فقد ثارت ثائرته بعد أن فطن للتلاعب باسمه من طرف المقيم العام الفرنسي الذي مرر من وراء ظهره ودون موافقته الظهير البربري الذي سنته السلطة الاستعمارية لتمزق أوصال الأمة المغربية إلى عرب وبربر، ثم تعمد إلى سلخ القبائل الأمازيغية من هويتها ودينها الإسلامي، فكانت هذه المحطة لحظة التهاب جذوة الغضب الوطني، في ضمير الشعب المغربي، وفي ضمير السلطان محمد الخامس، في آن واحد، وأصبح الأداء السلطاني للملك الفتي في تناغم تام وانسجام فعال مع مسار الحركة الوطنية الفتية المنبعثة من تحت رماد حرائق الجيوش الاستعمارية، تناغما كانت من خلاله الحركة الوطنية الفتية تلهم السلطان الوطني الموقف الوطني الشجاع والناضج، وكان السلطان الوطني المتحرر من قهر الحماية والوصاية والإملاء يلهب الحماس الوطني المتأجج في صفوف الحركة الوطنية الفتية.

ولأن السلطان محمد الخامس وهو يعانق مسؤوليته التاريخية بالإيمان برسالته في تحرير الأمة المغربية من رسف أغلال العبودية، ولأنه عاكس سيرة سالفيه الذين أذعنوا للضعف في مواجهة عتو الاستعمار، فقد حول محمد الخامس الضعف إلى بركان للقوة، بعدم الاستكانة إلى الضعف والتخاذل في مواجهة الجبروت، بالعقيدة في مشروعية الحق وإطلاقه الشعار الخالد: ما ضاع حق وراءه طالب.

لأن الأمر كذلك، فقد فطنت الحركة الوطنية إلى ضرورة تمتين الأواصر والعرى مع السلطان الجالس على العرش، وإلى ضرورة  التعبئة الشعبية العامة لإعلام القاصي والداني أن الأمة المغربية وجدت رائدها وأن البلاد عانقت رمزها ومستودع سيادتها، فكان الإيذان بالاحتفال الشعبي العام بيوم جلوس محمد الخامس على العرش وتحويله إلى عيد وطني للسيادة والتلاحم، فكان هذا الاحتفال الوطني أول مسمار يدق في نعش نظام الحماية الذي كان من أهدافه التفريق بين الشعب وملوكه.

كان ذلك بتاريخ 18 نوفمبر 1932، ومنذ ذلك الحين، والسلطان محمد الخامس في جهاد مفتوح، ضد إدارة الحماية والسلطات الاستعمارية، يصطف إلى جانب كفاح شعبه، ونضالات طليعته من الحركة الوطنية، ولا يترك مناسبة ولا وسيلة، لا يفتأ يذكر ويطالب بحرية البلاد واستقلالها.

وعندما فكر دهاقنة الاستعمار في ترسيخ أقوى لركائز الاستعمار بالبلاد بالحديث عن إلحاق المغرب بما يسمى بالاتحاد الفرنسي، انتقل محمد الخامس بتنسيق مع الحركة الوطنية إلى مرحلة متقدمة من فرض استقلال المغرب بالأمر الواقع، وتجلى ذلك في زيارته لطنجة وإسماع العالم أجمع من هناك أن وحدة المغرب مقدسة وأن استقلاله لا محيد عنه وأن انتماءه إلى العالم العربي والإسلامي وليس إلى فرنسا ولا إلى اتحادها.

وبعد هذا الاقتحام الجريء من قبل محمد الخامس للعقبة الاستعمارية، والعراقيل المنصوبة في وجه السيادة المغربية، اندلعت الحرب على أشدها من قبل الإقامة العامة الفرنسية لتطويع الملك المتعنت، وبدلت فرنسا الاستعمارية مقيمها العام ثلاث مرات في ظرف وجيز لتكسير الإرادة الوطنية للملك، ولكن الملك كان يكسرهم الواحد تلو الآخر، من إريك لابون إلى الجنرال جوان إلى الجنرال كيوم، إلى أن استقر رأيهم على الاعتداء الشنيع والمكر الكبير: خلع محمد الخامس عن العرش ونفيه والأسرة المالكة خارج البلاد، وتنفيذ هذا الاعتداء في يوم عظيم عند المسلمين هو يوم العيد الأضحى، 20 غشت 1953، وذلك إمعانا في الاستفزاز والإهانة والإيذاء، ولكن هيهات هيهات للمغاربة منهم ذلك، فقد انغرس السلطان بن يوسف في وجدان الشعب، وتربع على عرش القلوب، حتى تتيم الشعب بحب الملك المغدور فراحوا يبيتون كل ليلة يترقبون إطلالته عليهم من وجه القمر هياما به وتعلقا إلى حد الجنون، وعمت الحالة الفدائية الاستشهادية أرجاء الوطن من أجل كلمتين اثنتين: عودة الملك إلى عرشه وعودة الوطن إلى سيادته واستقلاله.

وتعطرت الربى والوهاد والجبال وشوارع المدن والقرى وأعواد المشانق بدماء الشهداء الأباة الذين أعلنوا افتداء الملك والوطن بالأرواح والمهج، تقودهم إلى ذلك المقاومة العتيدة التي أسسها الشهيد الزرقطوني إلى جانب رفاقه القادة الأوائل الحسين برادة، التهامي نعمان، عباس العرائشي وسليمان العرائشي، بإشارة التقطوها من محمد الخامس في خطاب له قبل المنفى، ثم تناسلت هذه المقاومة إلى أن حبلت بجيش التحرير، فانبطحت فرنسا حاسرة خاسئة أمام الإرادة الفولاذية للشعب في استرداد ملكه واستعادة حريته، حتى أن قادة فرنسا نعتوا المفاوضين على الاستقلال بعباد الأصنام لأنهم لم يقبلوا لهم أي نقاش يعلو على عودة الملك.

وعاد الملك عودته المظفرة المعلومة معلنا للمغاربة تحرر البلاد وانتهاء عهد الحجر والحماية، لكن هذا الملك المحبوب لم يكن ليعيش بين ظهراني شعبه إلا لمهمة واحدة هي تحرير البلاد ثم توطيد هذا التحرير في السنوات الأولى سنوات عرس الاستقلال، ولكن إرادة الله أرادت  أن يختفي عن مسرح الحياة، في عز عشق الجماهير له، حتى لا يتكدر هذا العشق بما آلت إليه البلاد من بعد إلى الخلاف والفرقة والتصادم، وحتى لا يكون وهو حي يرزق طرفا في الصدام.

ذلكم محمد الخامس، في حياته آية، وفي مماته المفاجئ آية، رآه المغاربة في حياته قمرا بدرا ثم كان ازورار هذا القمر واختفاء ذلك البدر لتبقى صورة له واحدة في الرؤى والأذهان والذكريات: صورة البهاء والجمال والنور والسحر والكمال.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

. محام، عضو الأمانة العامة لحزب النهضة والفضيلة.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M