عرى الإسلام بين النقض والإبرام: قراءة تحليلية في التدافع الديني ومجريات الواقع (ج 1)

11 مايو 2025 12:41

عرى الإسلام بين النقض والإبرام: قراءة تحليلية في التدافع الديني ومجريات الواقع (الجزء:1)

هوية بريس – د.رشيد بنكيران

من السنن الجارية في تاريخ الأديان والمجتمعات أن المبادئ العظيمة لا تنهار دفعة واحدة، بل تُنقض عُراها تدريجيا حتى تتداعى بنيتها من داخلها، وتفقد قدرتها على الحياة أو إحياء ما اندرس منها. ولما كان الإسلام هو الدين الذي ارتضاه الله تعالى للعالمين، أكمل مبانيه، وأتم عراه، حذرنا النبي ﷺ من تفكك هذه العرى على مر الزمان، في مشهد مهيب يرسم طبيعة الصراع الأزلي بين حفظ الدين ونقضه.

وفي هذا السياق تأتي هذه المقاربة للتأمل والتحليل لمسألة نقض عرى الإسلام، مستعرضة أماراته ودلالاته في مسار الأمة، مستنيرة بحديث النبي ﷺ الشريف، ومستنطقة لواقعنا المعاصر، في محاولة لفهم طبيعة هذا التداعي، وسنة الله الجارية في الأمم حين تفرط في أعظم أماناتها.

عن أبي أمامة رضي الله عنه قال، قال رسول الله ﷺ:

لَتُنْقَضَنَّ عُرَى الْإِسْلَامِ عُرْوَةً عُرْوَةً، فَكُلَّمَا انْتَقَضَتْ عُرْوَةٌ تَشَبَّثَ النَّاسُ بِالَّتِي تَلِيهَا، وَأَوَّلُهُنَّ نَقْضًا الْحُكْمُ، وَآخِرُهُنَّ الصَّلَاةُ.”

(رواه الإمام أحمد، وابن حبان في صحيحه والحاكم في المستدرك وقال: “صحيح الإسناد ولم يخرجاه”.  وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده جيد، وصححه الألباني.)

العروة لغة وشرعا:

تفيد معاجم اللغة أن العروة هي ما يُجعل كالحلقة في طرف شيء لِيُقْبَض عليه، كعروة الدلو أو عروة الحبل، وقد تكون عبارة عن عقدة بالحبل تُشدّ لتقوي الثبات وتيسر التمسك به. فالعروة رمز للثبات والتشبث، ووسيلة للإمساك بالحبل وعدم الانفلات منه.

وقد ضرب النبي ﷺ مثالا بليغا، إذ شبَّه الإسلام بحبل مشدود مليء بالعرى المُحكمة أو العُقد. فمن أراد أن يحافظ على الحبل ولا ينفلت منه، فما عليه إلا أن يتمسك بالعرى، ويتشبث بالعقد بإحكام، فإن انفصمت عروة أو انحلت عقدة، هرع إلى العروة التي تليها، وهكذا دواليك، حفاظا على التعلق بالحبل ما استطاع إلى ذلك سبيلا.

والمقصود بعرى الإسلام في الحديث: الشرائع والأحكام التي بُني عليها الدين، والتي شُرع للمسلمين أن يتمسكوا بها علما وعملا. فكل شريعة منها تعدّ عروة من عرى الإسلام، كما أن العروة في الحبل وسيلة للتمسك به وعدم السقوط. وقد أخبر النبي ﷺ أن هذه العرى ستُنتقض واحدة تلو الأخرى، على نحو تدريجي لا فجائي، كما أن عقدة الحبل عادة لا تنفك فجأة، بل تبدأ خيوطها في التراخي والارتخاء شيئا فشيئا حتى تنحل تماما.

صور نقض عرى الإسلام:

وهكذا الحال مع شريعة من شرائع الإسلام، فإن التخلي عنها لا يقع دفعة واحدة، بل يبتدئ بتسلل الخلل إلى مقاصدها، وتفريغها من مضامينها، مع المحافظة على رسومها الظاهرة، ثم لا يلبث الناس أن يهجروا شكلها ورسمها أيضا، ويبتعدوا عن حقيقتها شيئا فشيئا، حتى تندثر وتغيب عن حياتهم بالكلية.

ومن صور هذا النقض أيضا: تبديل المصطلحات الشرعية للأشياء التي سماها بها الإسلام، بحيث تعوض بأخرى حتى تفقد حقائقها الشرعية وتغيب أحكامها في الأذهان، مما يسهل على الناس انتهاكها دون شعور بالذنب، تمهيدا لنقضها كلية.

ولهذا كان نقض عرى الإسلام يتجلى بأشكال متعددة، تختلف بحسب نوع العروة ومكانها من منظومة الدين. وقد يحدث أحيانًا أن يبدأ النقض من ظاهر الحكم، بادعاء المحافظة على مقاصده، لكنه ما يلبث أن ينفذ إلى المقصد نفسه، فتتلاشى معالم الحكم ظاهرا ومقصدا معا. وهذا يؤكد أن المقصد والظاهر في الشريعة مرتبطان ارتباط حماية وصيانة، وأن إضعاف أحدهما يفضي بالضرورة إلى إضعاف الآخر أو انهياره.

وفي خضم هذا التآكل التدريجي لعرى الإسلام، يهرع المسلمون إلى العروة التالية كلما انفصمت عروة من العرى السابقة، تشبثا منهم بما تبقى من الدين، وخوفا من السقوط الكامل. ولعل لفظ “تشبث” في الحديث النبوي يشير إلى حالة الاضطراب والانفلات التي تعتري المسلمين عند كل مرحلة من مراحل النقض، فهم يتشبثون بالعروة التالية بعد أن فقدوا العروة التي كانت قبلها، في مشهد يرسم مقدار الخطر المحدق بالدين عند تفكك عراه.

أول عرى الإسلام انتاقاضا:

وقد أخبر الصادق المصدوق ﷺ أن أول عروة تنتقض من عرى الإسلام هي الحكم، وآخرها الصلاة. والحكم هنا يشمل القضاء والسلطة السياسية، والتشريع العام، وسائر صور ممارسة الحكم التي تُظهر سلطان الإسلام وهيبته في المجتمع.

وقد وقع هذا في الأمة كما أنبأ به النبي ﷺ، فاستُبدلت الأحكام الشرعية بالأحكام الوضعية، وأصبحت الحدود الشرعية منسية، والقضاء الشرعي مهمشا، وحلت مكانه تشريعات مستوردة من القانون الفرنسي أو الإنجليزي، بحسب البلدان والمراحل التاريخية. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل احتلت التشريعات البشرية مكانة التشريعات الربانية، وأصبحت هي الحاكمة المؤطرة لحياة الناس، إلا ما ندر وفي حدود ضيقة لا تمس جوهر حياة المسلمين السياسية والاقتصادية.

ويمكن القطع بأن أول مظاهر نقض الحكم تمثلت في نقض شريعة الشورى، التي نص القرآن عليها وأكدها النبي ﷺ قولا وعملا. فاختيار الحاكم بين الناس يجب أن يكون شورى بينهم، برضاهم واختيارهم للأكفأ والأتقى. غير أن هذه الشريعة العظيمة اُستبدلت بملك عاض، ثم بحكم جبري، وصار الناس بين سلطة موروثة قسرا، أو مغتصبة بالسلاح قهرا، والله المستعان.

وما يشاهد في كثير من البلدان الإسلامية، والعربية خصوصا، من انتخابات حول من يحكم لا تعدو أن تكون صورية، تضفي الشرعية الوهمية على أنظمة لا تلتزم في حقيقتها بروح الشورى ولا بمقاصدها الإسلامية، وإنما تخدم مصالح فئوية محدودة تحت شعارات ديمقراطية جوفاء. ومن آثار ذلك ما نراه اليوم من معركة حامية على مدونة الأسرة في المغرب، حيث تجري محاولات متكررة لنسف ما تبقى من الأحكام الشرعية التي تضبط الأسرة المسلمة، وذلك تحت ذرائع تحديث القوانين وملاءمتها مع ما يسمى بالمواثيق الدولية لحقوق الإنسان.

نقض عرى الأسرة المسلمة

وهؤلاء الساعون إلى نقض عرى الأسرة المسلمة أصناف:

صنف جاهر بعداوته للدين، وقد أعلن أن القوانين الدولية تسمو على أحكام الشريعة، بل يراها ملزمة للمجتمع المسلم أكثر من النصوص القرآن والسنة.

وصنف آخر يداري ويخادع، مستغلا الدرس المقاصدي في غير محله، وموظفا نظرية التفسير التاريخي للنصوص، لتمرير أحكام تخالف نصوص الوحي القطعية، تحت غطاء الاجتهاد والتجديد. فيزعم هؤلاء أن الأحكام الواردة في القرآن كانت مناسبة لتاريخها وزمانها، وأن تغير الزمان يوجب تغير الأحكام، وهي دعوى مرفوضة علميا وشرعيا، لا تقوم على أصول معتبرة؛ لأنها لا تفرق بين الثابت القطعي من الأحكام وبين المتغير منها ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِیࣰّا﴾.

وصنف ثالث حسن النية، أراد أن يدافع عن حمى الدين وعراه، إلا أنه لافتقاره للرؤية الشاملة للواقع والمتوقع، وغياب أو تغييب المنهاج السليم للتدافع الذي أسسه القرآن الكريم بمعية السنة النبوية، انخرط في عملية نقض عرى الإسلام دون قصد منه، وذلك بإيجاد مخرجات للأحكام الحداثية المنابذة للشريعة التي يدعو إليها أحد الصنفين السابقين أو كلاهما، موظفا فقه التلفيق أو إحياء أقوال فقهية شاذة مرجوحة، أو قيلت في واقع كانت الشريعة هي المهيمنة والمؤطرة للمجتمع، ولها وجه معتبر في ذلك الواقع، لكن لا عبرة بها في واقعنا اليوم لاختلاف مناطات أحكامها الجزئية والكلية.

وهكذا، تضافرت جهود مختلفة في الظاهر، لكنها اجتمعت عمليا على نقض لعرى أحكام تتعلق بالأسرة المسلمة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

 

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
19°
24°
أحد
25°
الإثنين
22°
الثلاثاء

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M